14-Aug-23 11:

لولا نجاح محمد {صلى الله عليه وسلم} كقائد عسكري، لربما ظل الإسلام ـ أحد الطوائف الدينية المثيرة للاهتمام ـ منحصرا في منطقة جغرافية راكدة. .

"محمد جنرال الإسلام الأول العظيم" كتاب يتناول التاريخ العسكري للنبي صلى الله عليه وسلم، بقلم المؤرخ العسكري الأمريكي ريتشارد جابرييل. وقد صدر هذا الكتاب في الولايات المتحدة عام 2007 عن مطبعة جامعة أوكلاهوما.

وهو الكتاب الحادي عشر من مجموعة "حملات وقادة" التي يشرف على تحريرها وإصدارها مجموعة من المؤرخين والعسكريين الأمريكيين، من بينهم: روبرت إبستين بمدرسة الجيش الأمريكي للدراسات العسكرية المتقدمة، يوجينا كيسلينج بالأكاديمية العسكرية الأمريكية، وبروس فاندربورت بمعهد فيرجينيا العسكري.

أما مؤلف الكتاب فهو ريتشارد جابرييل: أستاذ سابق للسياسة والتاريخ ومدير الدورات المتقدمة في قسم الاستراتيجية في كلية الحرب بالجيش الأمريكي، وعمل أيضا في الكلية العسكرية الملكية في كندا. وله 41 كتابا في التاريخ العسكري من بينها هذا الكتاب الذي نحن بصدده اليوم.

وفي هذه المقالة نعرض مقتطفات من الكتاب تبين المعالم الرئيسية للتاريخ العسكري النبوي. وقبل أن نعرضها، ننوه بأننا تأدبا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقد أوردنا الصلاة والسلام عليه عقب كل ذكر لاسمه في الكتاب.

صدّر جابرييل كتابه بقول المؤرخ "ألفريد غيوم" في كتابه "الإسلام": "لم تتجاوز أعداد المقاتلين في معارك محمد {صلى الله عليه وسلم} بضعة آلاف؛ لكنها كانت من أكثر المعارك حسما في التاريخ". وصدّره أيضا بكلام المؤرخ "توماس كارليل" في كتابه "الأبطال": "لا يوجد رجل عظيم يعيش عبثا، فتاريخ العالم ما هو إلا سيرة رجال عظماء".

أهمية الكتاب

يلقي هذا الكتاب ـ من وجهة نظر عسكرية غربية بحتة ـ أضواء كاشفة على التاريخ العسكري النبوي وأهميته في: الفكر الاستراتيجي، التخطيط، التكتيك، التدريب والإعداد العسكري وصولا إلى تحقيق إنجازات مذهلة بكافة المقاييس.

يقول جابرييل: "على الرغم من إنجازات محمد {صلى الله عليه وسلم} العسكرية البارزة؛ إلا أنه لا يوجد سيرة عن هذا الرجل العظيم تفحص حياته العسكرية بالتفصيل. لقد ركزت كتب السيرة المتعددة على دوره كنبي عظيم أسس دين الإسلام، وعن إنجازاته كثائر اجتماعي، وعن قدراته كرجل دولة خلق مؤسسات جديدة غطت شعوب الجزيرة العربية. لا توجد سيرة مكتوبة عن دور محمد {صلى الله عليه وسلم} المشهود كجنرال الإسلام الأول العظيم، وكقائد لحركة تمرد ناجحة".

"لولا نجاح محمد {صلى الله عليه وسلم} كقائد عسكري، لربما ظل الإسلام ـ أحد الطوائف الدينية المثيرة للاهتمام ـ منحصرا في منطقة جغرافية راكدة، ولَمَا تم مطلقا فتح الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية على يد الجيوش العربية".

"فكرة أن محمد {صلى الله عليه وسلم} رجل عسكري سوف تكون جديدة على الكثير. لكنه في الحقيقة كان جنرالا كبيرا حقا. ففي غضون عقد واحد: خاض ثمانية معارك كبرى، وقاد ثمانية عشرة غزوة، وخطط لثمانية وثلاثين عملية عسكرية أخرى قادها آخرون غيره، لكنهم عملوا فيها تحت أوامره وتوجيهه الاستراتيجي".

قائد لا مثيل له

النبي صلى الله عليه وسلم "لم يكن قائدا ميدانيا وتكتيكيا كبيرا فحسب، بل كان أيضا منظرا عسكريا، ومصلحا تنظيميا، ومفكرا استراتيجيا، وزعيما سياسيا وعسكريا، وجنديا بطلا، وثوريا مخترعا لحروب التمرد، وأول ممارس ناجح لها في التاريخ". هذا على الرغم أنه "لم يتلق محمد {صلى الله عليه وسلم} تدريبا عسكريا قبل قيادته الفعلية للجيش في الميدان. كيتيم، لم تكن لديه الفرصة لتعلُم المهارات العسكرية على يد أبيه، وهي الوسيلة المعتادة للحصول على التدريب العسكري بين العرب في عصره. تعرضه الوحيد للحرب جاء في وقت مبكر عندما كان في سن الرابعة عشرة عندما شهد مناوشات بين عشيرتين، كان يسترجع فيها السهام لعمه". "ربما لأنه كان صبيا هادئا يقضي ساعات طويلة في رعي قطعان الغنم أو عند الكعبة، جعل أعمامه يَستنتجون أنه يفتقر إلى الكفاءة اللازمة للقتال".

ـ "حقيقة أن محمد {صلى الله عليه وسلم} لم يتلق أي تدريب عسكري أمر لافت للنظر". فمن أين إذن تلقى النبي صلى الله عليه وسلم علمه العسكري؟! وكيف اكتسبه؟! يُرجع ذلك جابرييل إلى أربعة أسباب رئيسية: امتلاكه صلى الله عليه وسلم موهبة عسكرية فطرية، عمله بالتجارة فترة طويلة من الزمان، تطبيقه مبدأ الشورى في المجال العسكري، واستفادته من الخبرات المختلفة لأصحابه. يقول جابرييل:

ـ "لقد ظل محمد {صلى الله عليه وسلم} طيلة خمسة وعشرين عاما منظما للقوافل قبل أن يبدأ تمرده. لقد أظهر كقائد قوافل اهتماما بالنواحي اللوجستية والتخطيط. وأهلته خبرته في تلك المجالات لتخطيط قوته وقيادة عمليات عسكرية لمسافات طويلة عبر التضاريس القاسية. خلال هذه الفترة عمل رحلات عديدة إلى الشمال مما أكسبه سمعة كبيرة بأنه أمين ومتميز في التنظيم والقيادة. تتطلب هذه الرحلات اهتماما واسعا بالتفاصيل، معرفة الطرق، معدلات السير، مواضع التوقف، سقاية وتغذية الحيوانات، أماكن الآبار، حالة الجو، ومواضع كمائن اللصوص وقطاع الطرق، إلى آخره. هذه المعرفة أفادته كثيرا كقائد عسكري".

ـ "على الرغم من امتلاكه الموهبة الفطرية للأمور العسكرية، إلا أنه في كثير من _الأحيان كان يلتمس المشورة من ضباطه الأكثر خبرة من الناحية العسكرية قبل القتال".

الحرب خدعة

كان الرسول صلى الله عليه وسلم سابقا لعصره بقرون طويلة في رؤيته للحرب، وفي إدارته لها، وفي توظيفه لوسائل الخداع لإحراز مكاسب تكتيكية أو استراتيجية، يقول جابرييل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "قد توصل إلى أن الحرب خُدعة، مذكرا المحللين المحدثين بالقول المأثور للمفكر العسكري الصيني صن تزو: الحرب هي الخداع".

سيد المخابرات في الحرب

"لا يمكن لأي تمرد البقاء على قيد الحياة بدون جهاز استخبارات فعال". و"لقد أثبت محمد {صلى الله عليه وسلم} أنه سيد المخابرات في الحرب. فقد نافس جهاز مخابراته أجهزة مخابرات بيزنطة وفارس خاصة فيما يتعلق بالأمور السياسية. قيل أنه أمضى ساعات يضع فيها خططه التكتيكية والسياسية". لكن كيف بنى النبي صلى الله عليه وسلم جهاز مخابراته؟! وكيف طوره ليغدو أفضل جهاز مخابرات في العالم آنذاك؟! فإن جابرييل ـ الذي عمل في السي آي آيه ـ يرصد ذلك، فيقول: "في وقت مبكر عندما غادر محمد {صلى الله عليه وسلم} مكة عام 622 م ، ترك خلفه عميلا سريا موثوقا به ، هو عمه العباس ، الذي استمر في إرسال تقارير له عن الوضع هناك. وقد خدم العباس بصفته عميلا في مكانه لأكثر من عقد من الزمن، حتى سقطت مكة نفسها في يد محمد {صلى الله عليه وسلم}.

" إيمان محمد الذي لا يتزعزع بالإسلام وبدوره كرسول عن الله أحدثا ثورة في مفهوم الحرب لدى العرب في مجالات متعددة، وأديّا إلى خلق الجيش الأول في العالم القديم الذي يدفعه نظام متماسك يقوم على معتقده الأيديولوجي من الجهاد والشهادة".

في بداية عملياته، عانى محمد {صلى الله عليه وسلم} من عدم وجود معلومات استخبارية تكتيكية، إذ كان معظم أتباعه من سكان المدن وليس لديهم خبرة في السفر عبر الصحراء. لذلك، فإنه في وقت مبكر، وظف محمد {صلى الله عليه وسلم} مرشدين من البدو في بعض العمليات. ولكن مع نمو التمرد، أصبح جهاز استخباراته أكثر تنظيما وتطورا، فقد استخدم عملاء في أماكنهم وجواسيس تجاريين واستخلص المعلومات من الأسرى وأرسل دوريات قتالية ودوريات استطلاع كوسائل للحصول على المعلومات الاستخباراتية".

معرفة كاملة بالعدو وتحالفاته

"يبدو أن محمدا {صلى الله عليه وسلم} نفسه قد امتلك معلومات تفصيلية عن الولاءات العشائرية والسياسية في منطقة عمليات التمرد، واستخدم هذه المعلومات لإحداث تأثير جيد عند التفاوض على عقد تحالفات مع البدو. كما أدار في كثير من الأحيان عمليات استطلاع مسبقة عن ساحات المعارك التي حارب عليها. وفي معظم الحالات، أمده جهاز مخابراته بمعلومات كافية عن مكان العدو ونواياه قبل أي اشتباك عسكري. ليست لدينا معرفة كيف تم تنظيم جهاز المخابرات؟ ، أو أين كان يوجد؟. التفسير المعقول لذلك أنه كان جزءًا من أهل الصُفة".

مُنظر استراتيجي

الرسول صلى الله عليه وسلم "في فكره وتطبيقه لمعنى القوة، كان مزيجا من كلاوزفيتز وميكافيللي، لأنه دائما ما استخدم القوة لخدمة أهداف سياسية. لقد كان رجلا استراتيجيا ماهرا عظيما، استخدم وسائل غير عسكرية - مثل: بناء التحالفات، الاغتيالات السياسية، تقديم المال لتأليف القلوب، إثارة الحمية الدينية، العفو، والاعتدال في القتل. وقد أدى ذلك كله إلى تدعيم مركزه الاستراتيجي على المدى الطويل، وأحيانا حتى على حساب الاعتبارات العسكرية قصيرة الأمد".

تخطيط محكم

لم يكن النشاط العسكري النبوي نشاطا عشوائيا، وكذلك توقيت الهجرة إلى المدينة؛ بل كان وراءه تخطيط كبير وعمل منظم، يقول جابرييل: "بمجرد أن أوجد محمد {صلى الله عليه وسلم} الكوادر الثائرة، فقد أنشأ قاعدة ليقوم من خلالها بعملياته الحربية ضد خصومه، والتي اتخذت في بداية الأمر صورة الغارات والكمائن بهدف عزل مكة - مدينة العدو الرئيسية - والمدن التجارية الأخرى المعادية له. فلقد كان سُدس العرب فقط يقيمون في المدن أو البلدات في ذلك الوقت. أما الباقون فكانوا يعيشون في الصحراء كبدو رعاة.

اختار محمد {صلى الله عليه وسلم} المدينة كقاعدة لعملياته لما لها من أهمية استراتيجية لوقوعها على طريق القوافل الرئيسي من مكة إلى الشام الذي يمثل شريان الحياة الاقتصادي بالنسبة لمكة والواحات والمدن الأخرى. وكانت المدينة أيضا بعيدة بما فيه الكفاية عن مكة بما يطلق يد محمد {صلى الله عليه وسلم} نسبيا في جهوده الرامية لدعوة عشائر البدو الذي يعيشون على طريق القوافل. لقد فَهِم محمد {صلى الله عليه وسلم} أن تحويل هؤلاء البدو إلى الإسلام وعقد التحالفات السياسية معهم ـ لا الصراع العسكري مع القرشيين ـ هي مفاتيح النجاح".

نظرية حرب الشعب

"لقد كان محمد {صلى الله عليه وسلم} أول قائد في التاريخ فِهم وطبق المبدأ الذي تبناه لاحقا الجنرال جياب في فيتنام الشمالية: حرب الشعب وجيش الشعب. لقد رسّخ محمد {صلى الله عليه وسلم} الاعتقاد لدى اتباعه بأن الله تعالى قد اشترى من كل المسلمين أنفسهم وأموالهم، وأن على المسلمين جميعا مسئولية الكفاح من أجل الإيمان. كل فرد: رجالا ونساءً، بل حتى الأطفال عليهم التزام لأداء الخدمة العسكرية دفاعا عن دينهم".

مبدع عسكري غير مجرى التاريخ

"إيمان محمد الذي لا يتزعزع بالإسلام وبدوره كرسول عن الله أحدثا ثورة في مفهوم الحرب لدى العرب في مجالات متعددة، وأديّا إلى خلق الجيش الأول في العالم القديم الذي يدفعه نظام متماسك يقوم على معتقده الأيديولوجي من الجهاد والشهادة".

"إنه محمد {صلى الله عليه وسلم} الذي صاغ العقيدة العسكرية للفتوحات العربية التي بدأت في غضون سنتين بعد وفاته، فأخرج إلى الوجود نوعا جديدا تماما من الجيش لم يُشاهَد من قبل في الجزيرة العربية. وكمبدع عسكري ، فإنه ابتكر ما لا يقل عن ثمانية إصلاحات عسكرية رئيسية أدت إلى تغيير الجيوش وإدارة الحرب في الجزيرة العربية، واستخدمها خلفاؤه لهزيمة جيوش إمبراطوريتي الفرس والروم وتأسيس نواة إمبراطورية الإسلام. ولولا هذا التغيير الذي أحدثه محمد، لظلت الفتوحات العربية أمرا مستحيلا من الوجهة العسكرية".  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: النبی صلى الله علیه وسلم فی التاریخ

إقرأ أيضاً:

المواطنة العادلة في الإسلام.. تشريع إلهي يسبق مواثيق العصر الحديث

يمثل موضوع المواطنة جزءاً من مشكلة الهوية والمفاهيم المختلف فيها، والتي برزت منذ بدء الاحتكاك الفكري والثقافي والسياسي والعسكري للأمة الإسلامية مع الحضارة الغربية في القرن الماضي، وإذا كانت المسألة قد حُسمت على صعيد الواقع منذ أن تمزقت الدولة العثمانية وتحولت أشلاؤها العربية وغيرها إلى دول وحكومات قومية وإقليمية، فإن المسألة لم تنته على المستوى الفكري والثقافي، بل ظلت سؤالاً كبيراً يُطرح بشكل أو آخر.

جاءت شريعة الإسلام شاملة لجميع أبعاد الحياة البشرية بكل دقائقها وتفصيلاتها، ابتداءً من سلوك الإنسان كفرد مع غيره من الأفراد وضمن مجتمعه، حتى تنظيم علاقات الدول، بما في ذلك الفهم الإسلامي للمضمون السياسي، الذي يعني إصلاح شؤون الناس الدينية والدنيوية، وإبعادهم عن الفساد، وتوجيههم نحو الحق والعدالة وجميع وجوه الخير.

إن خطاب الإسلام خطاب عام لبني الإنسان، وفيه تأكيد واضح للحقوق والقيم التي تنظم الحياة البشرية، ومنها المساواة التي تعد منطلقاً أساسياً وقاعدة شرطة لممارسة الحقوق واستقامتها، والالتزام بكل الواجبات.

أولاً ـ المواطنة في الخطاب الإسلامي

المواطنة هي تمتع الشخص بالحقوق المقررة، والتزامه بالواجبات المفروضة، وممارستها في بقعة جغرافية معينة.

لقد عبر النبي ﷺ عن حب الوطن والارتباط به، في قوله لمّا همّ بالخروج من مكة: “والله إنك أحب البلاد إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ماخرجت” [أخرجه الترمذي برقم (3925)]، وفي ذلك دلالة نبوية على جواز الارتباط الشعوري بالوطن، وأهميته بالنسبة للإنسان، بل إن الإسلام اعتبر إخراج الإنسان من دياره معادلاً للقتل، قال تعالى: {ولو أَنَّا كتَبْنا عليهم أنِ اقتُلوا أنفسكم أو اخرجوا من ديَٰركم ما فعلوه إلَّا قليلٌ منهم ۖ ولو أنَّهم فعلوا ما يوعظون بهۦ لَكان خيرًا لهم وأشدَّ تثبيتًا}.

إن خطاب الإسلام خطاب عام لبني الإنسان، وفيه تأكيد واضح للحقوق والقيم التي تنظم الحياة البشرية، ومنها المساواة التي تعد منطلقاً أساسياً وقاعدة شرطة لممارسة الحقوق واستقامتها، والالتزام بكل الواجبات.المواطنة في القرآن الكريم:

من خلال دراسة القرآن الكريم نجد أن مصدر الحقوق والواجبات في الإسلام هو الله وحده، وليس بشراً أيّاً كان هذا البشر، نبياً أو غير نبي، وهذا ما يظهر بشكل واضح من خلال قول الله تعالى: {لقد أرسَلْنا رسُلَنا بالبَيِّنَٰت وأنزلْنا معهم الكِتَٰبَ والميزان لِيقومَ النَّاس بالقِسط}، وبذلك يقوم الإسلام في مجال الحقوق والواجبات على أساس وحدة المشرِّع وأبدية التشريع، إذ إن من المسلَّم به أن حق التشريع لله عز وجل وحده، بينما تتعدد وتتباين منابع التشريع عند أصحاب الأديان والعقائد الأخرى، ومن ذلك التشريع الغربي المعاصر.

وليس من شك أن وحدة المصدر الإلهي التشريعي هو السر وراء خلود الأحكام التشريعية، وصلاحيتها المطلقة للتطبيق قي كل زمان ومكان، حيث يعد التبديل والتغيير آفة التشريعات والقوانين الوضعية المتغيرة دائماً، والتي تتبدل فيها أوضاع ومراكز وحقوق المخاطبين بها دونما استقرار أو ثبات.

المواطنة في السنة النبوية:

تشكل السنة مصدراً ثانياً للمواطنة في الإسلام، وهي تُعدّ مصدراً مفسراً وموضحاً لما جاء في القرآن الكريم من أحكام، وقد بينت السنة النبوية الشريفة مجموعة من الحقوق والواجبات للإنسان بشكل عام، والتي تتعلق بشكل مباشر أو غير مباشر بحقوق المواطنة، ومنها:

أ ـ الحق في الحياة:

إن النبي ﷺ أكد في تطبيقاته وأحاديثه على وجوب الحفاظ على حياة الإنسان، كونها أمانة وهبها الله له وأنعم عليه بها، وعليه فليس للإنسان أيّاً كان حق التنازل عنها، وليس حراً في هدر حياته أو إلغائها، ولهذا حذر النبي ﷺ تحذيراً بالغ الشدة، وأنذر ببيان بالغ القسوة الذين تبلغ بهم هموم الحياة مبلغ اليأس منها، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه"، وفي رواية أخرى: "لا يتمنى أحدكم الموت، إما محسناً فلعله يزداد، وإما مسيئاً فلعله يستعتب" [البخاري: 7235].

بـ ـ التقدير القيمي والأخلاقي للإنسان: من أجل حماية قدسية حياة الإنسان، دعا الإسلام وضمن العديد من القيم والأخلاق التي تصون حياته وتحفظ حقوقه، وتهدف هذه القيم إلى الحفاظ على التوازن بين الحقوق والواجبات، لأن لكل فرد حقوقاً من زاوية، وتترتب عليه من زاوية أخرى واجبات تجاه أخيه الإنسان، ولذا وجه النبي ﷺ المسلم إلى منع لسانه ويده من الاعتداء على الآخرين، فقال: “المسلم هو من سلم المسلمون من لسانه ويده” [البخاري: 10].

ثانياً ـ المواطنة في وثيقة المدينة:

تمثل صحيفة المدينة أو دستور المدينة، الذي جاء مقنناً على شكل مواد قابلة للتطبيق، ولها قابلية المرجعية القانونية، كونها مثلت عقداً سياسياً واجتماعياً، صيغ بروح المبادئ الكلية النصية في القرآن الكريم، وتوافقت عليها معظم أطراف القوى الفاعلة داخل المجتمع المدني المتعدد قبلياً ودينياً، ولقد حددت وثيقة المدينة المعالم الرئيسية لـ"كيفية التعامل والتعاقد والشراكة والتكافل والتعارف والتوافق مع الآخر".

وتكمن أهمية الوثيقة في محاولة تحويل الناس القاطنين في المدينة ـ بشكل قانوني ـ، من رعايا إلى مواطنين، ونقلهم من إطار القبيلة والقبلية إلى رحاب الدولة والأمة، ولم يلغِ الرسول ﷺ دور القبيلة، بل عدّل دورها وسحب بساط التحكم من يديها، فـ”بعد أن كانت القبيلة هي الأمة والدولة، غدتْ لبنة في كيان الدولة الجديدة والأمة الوليدة ".

وبعد أن كان الفرد مغيباً تماماً في القبيلة، وكانت قبيلته تتحمل مسؤولية خطئه، جاءت الوثيقة لتبرز ذاتية الفرد الذي يتحمل مسؤولية أفعاله خيراً وشراً {ولا تَزِر وازِرةٌ وِزْر أُخْرىٰ}، فأكدت الوثيقة شخصية العقوبة، أي أن المواطن يتحمل الآثار القانونية للجريمة التي يرتكبها، ولا شأن للأبرياء الآخرين من عشيرته أو سلالته، وقد ورد في الوثيقة ما نصه: "إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوقع إلا نفسه ولا ثم امرؤ بحليفه".

العدل سور يحمي المجتمع من التفتت والتشرذم، وينأى به عن العداوة والبغضاء، ويشد من تعاضد الناس وتعاون بعضهم مع بعض، ويستوي في محيطه القوي والضعيف، والغني والفقير، والقريب والبعيد، والمسلم وغير المسلم..أكدت الصحيفة على اعتبار المجتمع اليهودي جزءاً من المجتمع السياسي، أي جزءاً من الجماعة السياسية، تلتزم بحكم رئيس الدولة لا باعتباره نبيّاً، بل باعتبار مشروعيته السياسية المستمدة من الاتفاق نفسه.. إن قبول اليهود بالوثيقة لم يُفضِ إلى اعتقادهم بنبوة محمد ﷺ، بل بقبول مشروعيته السياسية كقائد وكحاكم لتلك الدولة.

لقد كان أساس المواطنة عند الرسول ﷺ، هو الانتماء إلى الوطن (المدينة)، فمن أراد الانتماء وأن يكون مواطناً في مجتمع المدينة فعليه أن يهاجر إليها، وقد وُجدت رابطتان أساسيتان في المدينة، هما رابطة الدين (الإيمان) ورابطة الوطن (الولاء لنظام الدولة).

ثالثاً ـ الأسس العامة للمواطنة في الإسلام

1 ـ العدل والمساواة:

العدل سور يحمي المجتمع من التفتت والتشرذم، وينأى به عن العداوة والبغضاء، ويشد من تعاضد الناس وتعاون بعضهم مع بعض، ويستوي في محيطه القوي والضعيف، والغني والفقير، والقريب والبعيد، والمسلم وغير المسلم، قال تعالى: {يا أيُّها الَّذين ءَامنوا كونوا قَوَّامين بالقِسط شهداء للَّه ولو على أنفسكم أو الوالدَيْن والأَقربين} [النساء: ١٣٥].

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّه يأمر بالعدل والإِحسان} [النحل: ٩٠]؛ وفي الالتزام بهذا الأمر، والعمل به، وتحقيقه على أرض الواقع البشري، عبادةٌ لله تعالى وطاعة لأوامره، جل شأنه، وفي مخالفته معصية كبيرة يعاقب عليها في الدنيا والآخرة. وإقامة العدل بين الناس حق إنساني يشترك فيه الناس جميعاً؛ لأن أصل البشر واحد.

وقد جاء في خطبة الوداع: "أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وإن الله عليم خبير، وليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى".

ومقتضى ذلك: أن يكون جميع المواطنين طائفة واحدة بلا تمييز لأحدهم على الآخر في تطبيق القانون، والقانون في النظام الإسلامي هو الكتاب والسنة، وما بني عليهما من أحكام، والكتاب والسنة ليس فيهما محاباة لطبقة على طبقة، ولا لجنس على جنس، ولا للون على لون، فالأجير والأمير، والأسود والأبيض، والرئيس والمرؤوس، والغني والفقير، كلهم سواسية؛ فقد هدم الإسلام كل تمايز في تلك الصفات، ولم يجعلها سبباً لامتياز وتفوق ما، وأقام التفاضل بين الناس على التقوى ونافع الأعمال، قال تعالى: {إنَّ أَكرمَكم عند اللَّه أتقاكم} [الحجرات: ١٣].

2 ـ الحرية:

انطلاقاً من مبدأ حرية العقيدة الذي قرره الإسلام، على الدولة الحديثة المسلمة والمسلمين جميعاً واجب التسامح الديني إزاء سائر أهل الملل والنحل، والتسامح الديني ليس معناه بالطبع اتخاذ المواقف المتأرجحة من الأديان أو القول بأن الكل سواء، فهو إما جهل أو نفاق، فللتسامح الديني مقومات من أهمها رسوخ الإيمان، وقوة الاقتناع بأن الإسلام وحده هو الدين الحق، قال تعالى: {إنَّ الدِّين عند الله الإسلام} [آل عمران: ١٩].

وبهذا المنطق الإيماني يحب المسلم الخير لجميع الناس، ويتقدم المسلم بعرض دينه أمام الجميع، ويدعوهم إليه دون فرضه على أحد، بل ولا بد من ترك الناس أحراراً في أن ينظروا في أمرهم، ويختاروا أي دين أو معتقد يميلون إليه.

ويجب على المسلم رعاية شعور غير المسلمين وخاطرهم بعدم إيذائهم بالقول أو الفعل، فمن المنهي عنه سب معتقداتهم، أو الاستهزاء بما يدينون به، سداً للذريعة، كذلك من المحظور التضييق عليهم عند ممارسة دينهم، بل ينبغي تمكينهم من ممارسة شعائر دينهم، وإعطائهم الحرية الكافية في ذلك، مع مراعاة النظام والشعور العام.

وكذلك فإن الله كفل للناس في القرآن الكريم حرية الاعتقاد عامة، وهي تقتضي تقرير حرية الرأي والتعبير، لأن حرية الاعتقاد لن تتم إلا بجعل العقل حراً طليقاً، للتفكُّر والتدبر في الكون والإنسان، وليصل الإنسان “برأيه” وقناعته إلى الإيمان أو الكفر أو حتى الحيادية. وتبرز حرية التعبير من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يقول الله تعالى: {كنتم خير أُمَّةٍ أُخرِجت للنَّاس تأمرون بالمعروف وتنهَون عن المنكر وتؤمنون باللَّه} [آل عمران:110].

ـ الخاتمة:

إن المبادئ العامة للمواطنة الحديثة (الحرية والمساواة والعدالة والمشاركة) موجودة بنسقها العام في الإسلام وحقوق المواطنة الإسلامية، وتكتسب شرعيتها من أن الله تعالى هو مصدر إقرار تلك الحقوق، وهي أيضا واجبة، فالتنازل عنها إثم، فالجهاد ما شرع في الإسلام إلا لأجل حمايتها، وتتعمق هذه الشرعية بكون الإنسان خليفة الله في الأرض، وكون الإنسان غاية والدين وسيلة.

مقالات مشابهة

  • في ذكرى الشهيد الصدر
  • محمد أسد المُهتدي اليهودي الذي غيرته سورة التكاثر
  • هل الزواج في شهر شوال مكروه؟.. دار الإفتاء تكشف عن سبب المقولة الخاطئة
  • كأنك تبحث عن إبرة في كومة قش.. شهادة مسعف حول مجزرة فرق الإسعاف برفح
  • المواطنة العادلة في الإسلام.. تشريع إلهي يسبق مواثيق العصر الحديث
  • دعاء قبل النوم أمر بترديده الرسول.. اقرأه لأطفالك
  • الدكتور السيد عبد الباري: النصر والتمكين سيكونان لأمة الإسلام في النهاية
  • تعرف على أفضل الأدعية عند زيارة قبر النبى صلى الله عليه وسلم
  • أدعية زيارة قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم
  • ما موقف الإسلام من دراسة الساينس (العلم التجريبي)؟.. علي جمعة يوضح