كشف الستار عن حالة ظَفَارِ للشيخ عيسى الطائي قاضي قضاة مسقط (27)
تاريخ النشر: 6th, November 2024 GMT
تحقيق: ناصر أبوعون
يقول الشَّيخُ القاضِي الأجَلّ عِيَسى بِنْ صَالِحٍ بِنْ عَامِرٍ الطَّائِيُّ: [(وَكثَيِرٌ مِنْهُمْ يَلْبَسُونَ (سِوَارًا) مِنْ فِضَّةٍ فِي أَعْضَادِهِمْ؛ وَهُمْ يُسَمُونَهُ (مَعْضِدًا) لِوقُوعِهِ فِي الْعَضُدِ؛- وَفِي الْحَقِيْقَةِ – هِيَ عَادَةٌ قَدِيْمَةٌ تَلْبَسُهَا مُلُوكِ حِمْيَرَ، إِلَّا أَنَّ الْمُلُوكَ يَجْعَلُونَ أَسْوِرَةً مِنْ ذَهَبٍ.
وَأَمَّا لِبَاسُ النِّسَاءِ عِنْدَهُمْ فَتَلْبَسُ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ قَمِيْصًا وَاسِعَ الْأَكْمَامِ بِهِ خَفْضَةٌ مِنْ أَسْفَلِهِ تُشْبِّهُ الذَّيْلَ مِقْدَارَ ذِرَاعٍ مِنْ خَلْفِهَا وَمِنْ قُدَّامِهَا رَفْعَةٌ إِلَى تَحْتِ الرُّكْبَةِ. وَأَغْلَبُ النِّسَاءِ يَلْبَسْنَ السَّوَادَ مِثْلَ الرِّجَالِ، فَكَأَنَّ أَيَّامَهُمُ أَيَّامَ (حِدَادٍ). وَهُمْ لَايَسْتَعْمِلُونَ (الْقَهْوَةَ الْبُنِّيَّةَ) أَصْلًا. وَأَمَّا مَسَاكِنُهُمْ فَبُيُوتٌ ذَاتُ (طَبَقَاتٍ) يَرَاهَا النَّاظِرُ فَتُعْجِبُهُ وَتَرُوقُهُ مِنْ بَعِيْدٍ؛ فَالطَّبَقَةُ الْأُوْلَى مِنْهَا مَخَازِنُ (لِلْعِيْدِ) أَيْ (الُعُوْمَةِ)، وَيَدَّخِرُونَهَا لِبَقَرِهِمْ. وَهِيَ تَأْتِيْهُمْ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ؛ وَهُوَ وَقْتُ (الصَّرْبِ) عِنْدَهُم، وَالصَّرْبُ بَعْدَ مَوْسِمِ الْمَطَرِ، وَيُسَمُّونَ فَصْلَ الْمَطَرِ (الْخَرِيْفَ)، وَفِيْهِ تَكُونُ الْأَمْطَارُ عِنْدَهُمْ، وَالسَّمَاءُ فِيْهِ ذَاتُ غَيْمٍ. والْخَرِيْفُ يَكُونُ اِبْتِدَاؤُهُ إِذَا حَلَّتِ (الشَّمْسُ القَضَيْمَةُ). وَللهِ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ)].
*****
أساور فضة لرجال ظَفار
يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(وَكثَيِرٌ مِنْهُمْ يَلْبَسُونَ سِوَارًا مِنْ فِضَّةٍ فِي أَعْضَادِهِمْ؛ وَهُمْ يُسَمُونَهُ مَعْضِدًا لِوقُوعِهِ فِي الْعَضُدِ)].
في قول الشيخ عيسى الطائي [(يَلْبَسُونَ سِوَارًا مِنْ فِضَّةٍ)]، إحالة تاريخية، والسِّوار يُجْمَع على وجهين: فالشائع فيه (أَسْوِرة)، وقليل الاستعمال (أساورة)، ومعناه: (حلقة عريضة من ذهب أو فضة تحيط بالرسغ). وفي هذه العبارة تناصٌّ قرآنيّ، جمع فيها الطائيّ بين الدلالة القرآنيّة في قوله تعالى من سورة الإنسان:{وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ}(01)، والعادة الاجتماعية الظَفارية الشائعة، حيث كان رجال ظفار في هذا الزمان، ومازال البعض منهم إلى يومنا هذا يَلبَسون (أَسْوِرة) من فضّة في[(فِي أَعْضَادِهِمْ)]، ويتخذونها زِينةً لهم في في [أَعْضَادِهِم]، و(العَضُدُ والعَضْدُ والعُضُدُ والعُضْدُ والعَضِدُ) مفرد، ويستوي فيه المذكر والمؤنث، ويُجْمَع (العَضُدُ)على وجهين:(أَعضادٌ)،و(عُضودٌ). [(وَهُمْ يُسَمُونَ(السِّوار) مَعْضِدًا لِوقُوعِهِ فِي الْعَضُدِ)]،أي في: (السَّاعد) ويُقصَدُ بـ(العَضُدُ) في الفقه الإسلاميّ: (ما بين المرفقِ إِلى الكتِفِ).وشاهدُه من الحديث النبويّ:(كُنْتُ يَوْمًا جالِسًا مع رِجالٍ مِن أصْحابِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في مَنْزِلٍ في طَرِيقِ مَكَّةَ، ورَسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نازِلٌ أمامَنا، والقَوْمُ مُحْرِمُونَ وأنا غَيْرُ مُحْرِمٍ، فأبْصَرُوا حِمارًا وحْشِيًّا وأنا مَشْغُولٌ أخْصِفُ نَعْلِي، فَلَمْ يُؤْذِنُونِي له، وأَحَبُّوا لو أنِّي أبْصَرْتُهُ، فالْتَفَتُّ فأبْصَرْتُهُ، فَقُمْتُ إلى الفَرَسِ فأسْرَجْتُهُ، ثُمَّ رَكِبْتُ ونَسِيتُ السَّوْطَ والرُّمْحَ، فَقُلتُ لهمْ: ناوِلُونِي السَّوْطَ والرُّمْحَ، فقالوا: لا واللَّهِ لا نُعِينُكَ عليه بشيءٍ، فَغَضِبْتُ فَنَزَلْتُ فأخَذْتُهُما ثُمَّ رَكِبْتُ، فَشَدَدْتُ علَى الحِمارِ فَعَقَرْتُهُ، ثُمَّ جِئْتُ به وقدْ ماتَ، فَوَقَعُوا فيه يَأْكُلُونَهُ، ثُمَّ إنَّهُمْ شَكُّوا في أكْلِهِمْ إيَّاهُ وهُمْ حُرُمٌ، فَرُحْنا، وخَبَأْتُ العَضُدَ مَعِي، فأدْرَكْنا رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَسَأَلْناهُ عن ذلكَ، فقالَ: معكُمْ منه شيءٌ؟ فَناوَلْتُهُ (العَضُدَ) فأكَلَها حتَّى تَعَرَّقَها وهو مُحْرِمٌ)(02)
لماذا يلبس الظَّفاريون الأَسْوِرة؟
يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(-وَفِي الْحَقِيْقَةِ- هِيَ عَادَةٌ قَدِيْمَةٌ تَلْبَسُهَا مُلُوكِ حِمْيَرَ، إِلَّا أَنَّ الْمُلُوكَ يَجْعَلُونَ أَسْوِرَةً مِنْ ذَهَبٍ)].
[(-وَفِي الْحَقِيْقَةِ-)]: جملة اعتراضية تفسيرية، وتعبير شائع بين عوام الناس، ويأتي على ثلاث صور لفظية أخرى غير الصورة الواردة في المخطوطة، وتتوافق جميعها مع سياق حديث الشيخ عيسى الطائيّ؛ كما في قولهم:(من المؤكد والثابت)، أو (حقيقة الأمر)، أو(من الثابت الصحيح). وذكرها الطائيّ ليفسر ظاهرة لبس الرجال في ظفار (أَسْوِرة) الفضة، وقد ذكر أنها تقليد متوارث من قبل الميلاد واقتداء بملوك وأقيال اليمن الحِمْيريين، فتلك[(عَادَةٌ قَدِيْمَةٌ)] متوارثة منذ عام 115 قبل الميلاد زمن قيام الدولة الحِمْيَرية(03). وكلمة: [(عَادَةٌ)] مفرد وتُجْمَع على وجهين: (عوائد) و(عادات)، وأصلها الاسم منها:(عادٌ). ومعناها: مأخوذ من (الاعتياد)، حيث صارت عادة لِبْس رجال ظَفار الأساور في (أعضادهم) أَثَرٌ متوارثٌ منذ أن كانت [(تَلْبَسُهَا مُلُوكِ حِمْيَرَ)]. وقد أجمعت المصادر التاريخية على أنّ حِميَر بن سبأ مؤسس الدولة الحميرية أول من (تَعَضَّدَ) بالأساور، وتتوّجَ بالذهب. واسمه: "حِمْير بن سبأ بن يشجب بن يَعُرب بن قحطان. وإليه يُنسَب ملوك اليمن وأقياله، وقد غزا وافتتح حتى بلغ بلاد الصين"(04)، وأمّا قوله: [(يَجْعَلُونَ أَسْوِرَةً مِنْ ذَهَبٍ)]، فقد استعمل شيخنا الطائيّ الفعل (يجعلون) بمعنى (يتخذون أو يضعون أو يلبسون). و"كان أولاد الملك (حِمْير بن سبأ أول من تتوّج بالذهب في رأسه، واتخذ الأساور في عَضُديه) ونسلهم من بعده منينزلون (ظَفار) مثل: (آل ذي سحر)، و(آل ذي الكلاع)، و(آل ذي أصبح)، و(آل ذي يزن). وكان مكتوبًا على باب (ظفار) مكتوب بالقلم في حجر أسود: [يوم شيدت ظفار قيل: لمن أنـ/ت؟ فقالت: لحمير الأخيار](05) ، وكان السِّوار أيضًا من شِعار الملوك في بلاد فارس ومصر. وكان المَلِك في هاتين الحضارتين يلبَس سِوَارين من ذهب، وقد كان من عادة الفراعنة في مصر لبس سوارين أو أسورة من ذهب، وربَّما جعلوا (سِوَارين) على الرسغين وآخرين على العضدين. وشاهدُها من القرآن الكريم: {فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ ٱلْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ}(06). إنَّ فرعون لجهله أو تجاهله يُخَيِّل لقومه أنَّ للرسالة شعاراً كشعار الملوك (والإلقاء: الرمي وهو مستعمل هنا في الإنزال، أي هَلاّ ألقي عليه من السماء أساورة من ذهب، أي: سَوَّرَهُ الرَّبُّ بها ليجعله مَلكاً على الأمة. وقرأ الجمهور {أَسَاوِرَة}، وقرأ حفص عن عاصم ويعقوب {أَسْوِرَةٌ}. فلمّا تخيّل فرعون أن رُتبة (الرسالة) مثل (الْمُلْك) حَسَبَ افتقادها هُو من شعار الملوك عندهم أَمَارَةً على انتفاءِ الرسالة"(07).
ثوب المرأة الظَّفاريّة (أبوذيل)
يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(وَأَمَّا لِبَاسُ النِّسَاءِ عِنْدَهُمْ فَتَلْبَسُ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ قَمِيْصًا وَاسِعَ الْأَكْمَامِ بِهِ خَفْضَةٌ مِنْ أَسْفَلِهِ تُشْبِّهُ الذَّيْلَ مِقْدَارَ ذِرَاعٍ مِنْ خَلْفِهَا وَمِنْ قُدَّامِهَا رَفْعَةٌ إِلَى تَحْتِ الرُّكْبَةِ)].
ففي قول الطائيّ: [(لِبَاسُ النِّسَاءِ عِنْدَهُمْ)]، تخصيص في ذاته ولكنه ينسحب على العام في معناه؛ فاللباس بوجه عام هو: كل مَا يُكتسَى ويُسْتَتَرُ به، من ثوبٍ ونحوه. وشاهدُه اللغويّ والمجازيّ سواء، ونقرأه في قول عنترة بن شداد العبسيّ: [وَعُدْنَا وَالْفَخَارُ لَنَا (لِبَاسٌ)/نَسُودُ بَهَ عَلَى أَهْلِ الزَّمَانِ(08)]. وليس في (ظَفار) فَحَسْبُ، بل خضعت الأزياء عند سائر الشعوب عامة، والإسلامية منها خاصة "لتقاليد دينية، وعادات مرعيّة، تفرض على الأفراد التقيّد بها، وعدم تجاوزها"(09)، "ومن خلال الاستقراء ظهر أنَّ [(لِبَاسُ النِّسَاءِ)]، محكوم بثلاثة ضوابط شرعية لابد أن تتقيّد بها المرأة؛ أولها:(ضابط ستر العورة)، وثانيها: (ضابط عدم التشبه بالرجال أو الكفار)، وثالثها:(ضابط عدم الإسراف)"(10) ، وأمّا قوله: [(فَتَلْبَسُ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ قَمِيْصًا وَاسِعَ الْأَكْمَامِ بِهِ خَفْضَةٌ مِنْ أَسْفَلِهِ تُشْبِّهُ الذَّيْلَ مِقْدَارَ ذِرَاعٍ مِنْ خَلْفِهَا وَمِنْ قُدَّامِهَا رَفْعَةٌ إِلَى تَحْتِ الرُّكْبَةِ)]؛ ففيه وصف دقيق للثوب الظَفاريّ النِّسْوِيّ؛ وهو في أصله (قميص)، و"القميص لفظٌ منقولٌ من اللاتينية الكلاسيكية"(11)، ونعثر على لفظة (القميص) في شعر(تأبَّط شرًا) يصف فيه قتيله مُضَرَّجًا في دمائه: [دَنَوْتُ حَتَّى كَأَنَّ (قَمِيْصَه)/ تَشَرَّبَ مِنْ نَضْحِ الْأَخَادِعِ عُصْفُرَ(12)]،و"يعتبر ثوب المرأة الظفاريّة من أجمل أنواع الأثواب التي ترتديها المرأة العُمانية بشكل عام، وقد حاز المركز الأول في عرض الأزياء التقليدية بالعاصمة البريطانية لندن عام 1980م، وذلك نظرًا لتميزه في التصميم والقماش والتطريز. أمّا عن التصميم فهو عبارة عن ثوب واسع فضفاض يصل إلى منتصف الساق من الأمام، ويطلق على هذا الجزء الأمامي (القدمة). أمّا الجزء الخلفيّ من الثوب فيزيد عن طول المرأة بحوالي 50 سم كحدٍّ أدنى أو يزيد حسب رغبة المرأة وإمكانياتها المادية والمُنَاسَبَة التي تستخدم فيها الثوبَ؛ لذا يُطلق على الجزء الخليّ (الذيل) الذي يسحب خلف المرأة، ولهذا عُرف الثوب بأكمله بـ (أبوذيل)(13)، و"تتفق أزياء النساء في المدينة والريف حيث يشمل ذلك الثوب الظفاريّ – قِطَعًا رئيسة وليست تكميلية- وهي:(اللوسي) و(البرقع) و(غيفان) و(شِقت)والصنفان الأخيران؛ هما زِيٌّ تتدثر به المرأة عند خروجها من منزلها"(14).
لماذا يفضّل الظفاريون اللون الأسود؟
يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(وَأَغْلَبُ النِّسَاءِ يَلْبَسْنَ السَّوَادَ مِثْلَ الرِّجَالِ، فَكَأَنَّ أَيَّامَهُمُ أَيَّامَ حِدَادٍ. وَهُمْ لَايَسْتَعْمِلُونَ الْقَهْوَةَ الْبُنِّيَّةَ أَصْلًا)].
ففي قول شيخنا الطائيّ: [(وَأَغْلَبُ النِّسَاءِ يَلْبَسْنَ السَّوَادَ مِثْلَ الرِّجَالِ)] إشارةٌ إلى القاسم المشترك بين الرجال والنساء في المجتمع الظَّفاري الذي أوجدته البيئة الطبيعية، حيث إنّ ارتداء الملابس السوداء طبيعة بدوية وصحراوية في سائر المجتمعات الصحراوية، وهذا ما أكدته دراسة بعنوان "لماذا يختار البدو ارتداء الأسود رغم العيش في الصحراء الحارة؟" وجدوا أن المفتاح يكمن ببساطة في سماكة الملابس، وليس اللون فقط. ،،The Science Behind Choosing Your Wardrobe: Black V.S. White Shirt on Hot Days،، إذ وفقاً للبحث، تزداد الطبقة الخارجية من القماش سخونة لأن اللون الأسود يمتص المزيد من الحرارة. ومع ذلك، لاتصل هذه الحرارة إلى الجلد بسبب النسيج السميك، لذا وجدوا أنه كان يستحسن بين البدو أن تكون الملابس سميكة سواء كانت باللون الأسود أم بألوان أخرى، وبحسب البحث أيضاً، وجد الباحثون أن الملابس السوداء كانت تعمل جيداً تحت أشعة الشمس إذا تم ارتداؤها بشكل فضفاض وواسع ومريح ولا تتشبث بالجلد، وتوصلوا إلى أن الفكرة أن الملابس السوداء تسخّن المسافة بين القماش والجلد لتعزيز تيار الهواء الصاعد كلما مر الإنسان بنسمة جيدة من الرياح، الأمر الذي يعزز الشعور بالبرودة والترطيب (15)
الظَّفاريات يُفضِّلْن اللون الأسود
تقول د. سحر محمد القطري: "ما أبهى المرأة الظفاريّة عندما ترتدي المخمل الأسود؛ حيث تفضل الظفارية الألوان الغامقة في أثوابها سواء من قماش المخمل أو الديباج وغالبا ما تطرز أطراف الثوب سواء من الأمام أو من الخلف بنفس التطريز الذي يأخذه الشريط السابق. أما قماش المخمل فتفضل الظفارية منه اللون الأسود، ويطلق عليه ثوب الفرح"(16). فاللون الأسود يساعد على الوقاية والحماية من الإجهاد العاطفيّ الذي يمكن أن تتعرض له الإنسان ذكرًا كان أم أنثى، حيث يصنع هذا اللون حاجزا بينه وبين العالم الخارجيّ المحيط به؛ فيوفر له الراحة، ويخفي نقاط الضعف ويعتبر اللون الأسود في علم النفس هو لون الأناقة والرقيّ، فغالبًا ما تختار النساء الأنيقات اللون الأسود لارتدائه، كما قد يعني اللون الأسود السيطرة والتحكم، وقادر على امتصاص الطاقة السلبية، وهو مصدر لإظهار السلطة. وإن النساء اللواتي يفضلن اللون الأسود وكذلك الرجال أيضًا يتمتعون بإرادة قوية وشخصية انضباطية"(17).
لا علاقة بين اللون الأسود والحِداد
وفي قول شيخنا عيسى الطائيّ: [(فَكَأَنَّ أَيَّامَهُمُ أَيَّامَ حِدَادٍ)] توصيفٌ انثربولوجيّ لا استهجان ولا إساءة فيه، وإنّما هو رجل قاضٍ وفقيه، ويعلم أن الإنسان ابن زمانه وبيئته -كما قال ابن خلدون- وإنّما أراد شيخنا الطائيّ ذكر وجه الشبه وصورة المماثلة بين أهل ظفار (نساءً ورجالا) في ارتداء الملابس السوداء والتي يتشاركون فيها مع جموع كثير من النّاس في المجتمعات الشرقية والغربيّة وما اعتادوه من طقوس في أحزانهم، وما جرى به العُرْفُ بينهم من ارتداء الأسود من الثياب أثناء الحِداد على موتاهم. وفي الحقيقة لاعلاقة البَتَةَ مطلقًا في الشريعة الإسلامية بين (الحِداد/الإحداد) و(اللون الأسود)، وإنما معنى الحِدَاد في السُّنَة النبويّة والشريعة المرعيّة (أن تترك المرأةُ الطِّيبَ والزينةَ والكُحْلَ والدُّهْنَ المُطَيِّب وغيرِ المطيِّب ، وفي الجامع الصغير )؛ وهذا ما أورده الشيخ محمد البابرتي الحنفيّ في كتابه:(العناية على شرح الهداية)، وذكره. وقرأناه أيضا عند ابن عابدين في (حاشية رد المحتار، على الدر المختار: شرح تنوير الأبصار)، وقال فيها:،، سُئِل أبو الفضل عن المرأة يموت زوجها وأبوها أو غيرهما من الأقارب فتصبغ ثوبها أسود فتلبسه شهرين أو ثلاثة أو أربعة تأسفًا على الميت أَتُعْذَرُ في ذلك؟ فقال: لا. وسئل عنها عليٌّ بن أحمد فقال: لا تُعْذر وهي آثمة؛ إلا الزوجة في حقِّ زوجها فإنها تُعْذَرُ ثلاثة أيام". و"عند المالكية يجوز للزوجة أثناء عِدَّة الوفاة لبس الثوب الأسود إلا إذا كانت المرأةُ ناصعةَ البياضِ، أو كان الأسود زينةَ قومِها".
العمارة الوظيفيّة في البيت الظفاريّ
يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(وَأَمَّا مَسَاكِنُهُمْ فَبُيُوتٌ ذَاتُ طَبَقَاتٍ يَرَاهَا النَّاظِرُ فَتُعْجِبُهُ وَتَرُوقُهُ مِنْ بَعِيْدٍ؛ فَالطَّبَقَةُ الْأُوْلَى مِنْهَا مَخَازِنُ لِلْعِيْدِ أَيْ الُعُوْمَةِ، وَيَدَّخِرُونَهَا لِبَقَرِهِمْ.)]
إنّ طوابق البيت الظفاري قد يكون عددها في الأعم الأغلب خمسة طوابق: "فالطابق الأول يُسمَّى [الضِّيقة – الطابق السفليّ]؛ وهي المدخل التحتيّ للبيت، ويتكون من سبع وحدات هي: [الدرب، والحوش، الدهاريز/البخارير، والمَطْهَرَة، والخزانة، والتنور، والدرج،]، فأمّا (الدَّرب) فهو الفناء الخارجي للبيت، وأمّا (الحوش) فهو حجرة واسعة للمواشي الكبيرة والأعلاف وملاصق للبيت من الخارج، وأمّا (الدهاريز/البخاري)؛ فهي غُرفٌ صغيرة تُستخدم مخازن للغلال والذرة واللبان و(العيد/السردين المجفف). وأمّا (المَطْهَرَة) وتُسمّى (بيت الماء)، فهي مخصصة لقضاء الحاجة والغسل. وأمّا (الخزانة) فيكون موضعها تحت الدرج، وهي غرفة صغيرة تُستخدم لإيواء صغار المواشي ولحفظ الأدوات والأغراض، وأمّا (التنور) فقد يكون داخل الطابق الأرضيّ أو ملحق بـ(الحوش الخارجيّ) وهو عبارة عن حُفرة؛ مبلطة ب(النورة)، ويوضع الحطب فيها لصنع الخبز ويسمى بالمحلية (تَنْهِره) وأمّا (الدرج) والذي يسمّى باللغة المحلية في مرباط بـ(آرْقِيد)، فيُفضي إلى الطابق الثاني من البيت. ثم الطابق الثاني فيتكون من ثلاثة وحدات؛ هي: [المروح، المطول، المربعة والمطبخ]؛ فأمّا (المروح) فهو ممر داخليّ بين الغرف، وأمّا (المطول) فهو غرفة مستطيلة كبيرة تُستخدم لأغراض النوم والجلوس، وأمّا (المربعة) فهي غرفة مربعة مخصصة لاستقبال الضيوف، وأمّا (المطبخ) وبه فتحة أمامية أو خلفية للتهوية وتصريف الأدخنة ويسمّى باللغة المحليّة (ئِيِجْليل). ثم الطابق الثالث ويسمّى بـ(القصر) ويُعبّر عن حالة الرفاه الاجتماعي. وأمّا الدور الرابع ويسمى بـ (الرُّوشان)؛ فهو غرفة وتعتبر دُرّة البيت الظفاريّ، وأمّا الطابق الخامس فيسمّى (العريش)؛ وهي تشبه الملحق العُلويّ المنعزل Penthouse"(18)
الضواغي الظَفاريّة في الصَّرب
يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(والُعُوْمَةِ تَأْتِيْهُمْ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ؛ وَهُوَ وَقْتُ الصَّرْبِ عِنْدَهُم، وَالصَّرْبُ بَعْدَ مَوْسِمِ الْمَطَرِ)].
فصل (الصَّرب) عند أهل ظَفار؛ هو فصل (الربيع)، وذلك وِفْقَ (التقويم المَحَلِيّ الظَّفاريّ) ويبدأ (يوم 26 من سبتمبر، وحتى 26 من ديسمبر)، و"هو ينقسم إلى 7 نجوم، وكل نجم = 13يومًا. ومع بدء موسم الصّرب "تبدأ مجموعات كبيرة من (الضواغي- الرجال/العُمّال) في ارتياد الشواطيء والخلجان لجمع (أسماك السردين/ العيد/العومة)؛ بكميات كبيرة متنوّعة تغطي احتياجات الأسواق المحلية، والفائض يتم تجفيفه، وتُعْطى عَلَفًا للماشية، ويُستخدم بعضها في تسميد المزارع. وتسمّى كل مجموعة من هذه المجموعات التي تشتغل بجمع أسماك السردين في اللغة المحلية بـ(الضاغية)؛ وتتكون كل ضاغية من إدارة وعاملين ومعاونين، وأدواتهم: (السنابيق/القوارب المحليّة)، والحِبَال، و(الجُرُف/شباك الصيد) والتي يجمعون بها كميات (العيد/أسماك السردين)، ثم يُقسّم المحصول على العاملين في هذه المهنة، ثم يُجفف في مكان مخصص يسمى باللغة المحلية (المنجيب). ومن هناك يُصَرِّفُون كميات السردين لإطعام الحيوانات أو نقلها إلى المخازن لحاجتهم إليها كأعلاف للأبقار والإبل والأغنام؛ وذلك وقت الشتاء عندما تتقلص مساحة المراعي الخضراء في موسم (القيظ/الصيف)، ومع دخول (الزيون/بداية موسم الخريف) الذي تهزل فيه الحيوانات"(19)
طقوس ظَفارية في الخريف
يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(وَيُسَمُّونَ فَصْلَ الْمَطَرِ الْخَرِيْفَ، وَفِيْهِ تَكُونُ الْأَمْطَارُ عِنْدَهُمْ، وَالسَّمَاءُ فِيْهِ ذَاتُ غَيْمٍ. والْخَرِيْفُ يَكُونُ اِبْتِدَاؤُهُ إِذَا حَلَّتِ الشَّمْسُ القَضَيْمَةُ)].
مع موسم الخريف في ظفار يبدأ "رذاذ الأمطار في الهطول من أواخر شهر يونيو حينما يعانق الضباب الجبال، وتنحصر التجارة مع العالم الخارجي، وتتوقف الأسفار؛ وذلك بسبب هيجان البحر، واشتداد الرياح الموسمية، ومعه يبدأ نزوح السّكان من الكهوف والأودية إلى (تخوم الريف/القطون)، ويصنعون مساكن بديلة مكوَّنة من الأحجار وأغصان الأشجار، والحرص على إغلاقها من جهة الجنوب لسدّ مهبّ الرياح الجنوبية الموسمية، التي تندفع بقوة مع رذاذ الأمطار والضباب، وتركها مفتوحة من الجهة الشمالية، والتي تسمى باللغة المحلية (أم بُري)، وتُفرش بـ(النطوع/جلود الأبقار)، والتي تُسمّى باللغة المحلية (أركيت). وفي هذا الموسم تصعد العائلات الحضرية من سكان المدن إلى الأرياف الجبلية في مجموعات كبيرة يُطلق عليها (الرقايا). وطوال موسم الخريف توفّر الأسر الريفية (السكن والحليب) للأسر الحضرية التي نزلت ضيفةً عندها. ومن كان له دَيْنٌ من أُسر (المدن) الحضرية عند أهل الأرياف يُسْتَوْفَى له من (السَّمْن الْمَحَليّ الريفيّ)، أو يَقبضُ المواطن الريفيُّ مالا مقابل ما قدَّمَ من رعاية ومنافع للأسر الحضرية النازحة إليه في موسم الخريف. بينما ينزح أصحاب الإبل والأغنام من الجبال والأودية إلى السهول الساحلية أو إلى تخوم الريف الشمالية (القطون). وفي كلا الحالتين لسكان (الحضر والجبال)؛ فهذا نزوح مؤقت بسبب كثرة الأمطار"(20) ومن أعاجيب وغرائب الأوصاف حديث شيخنا الطائيّ عن بداية فصل الخريف في ظفار في قوله: [(اِبْتِدَاؤُهُ إِذَا حَلَّتِ الشَّمْسُ القَضَيْمَةُ)]، وفيه وصفَ لون الشمس في بدايات الخريف بأنه برتقاليٌّ ممزوج باللون الأحمر اللامع، وهذا الوصف مأخوذ من ثمار نبات (القضيم أو القنطريون الأحمر/Grewia tenax) الذي يُعالج فقر الدم وتكثر زراعته في بعض مناطق اليمن. أو هي وصف لطعام مطبوخ يغلب عليه اللون الأحمر البرتقالي؛ وشاهده نقرأه في قول الصاحب بن عباد [وَأَتَتْنَا (قَضِيْمَةٌ) قَلِيْلَةٌ(21)]
تضمين بلاغيّ وتناصٌّ قرآنيّ
يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(وَللهِ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ)]. وفي هذه العبارة (تضمين)؛ وهو غرض بلاغيّ قديم مازال قيد الاستعمال؛ حيث ساق شيخنا عيسى الطائيّ العبارة على نموذج المثل العربيّ، وفيه إشارة إلى أنّ أحوال أهل ظَفار وسائر الناس في معايشهم تتوافق وتتبدل وتتأقلم مع متغيّرات الفصول الأربعة ودورة الحياة. وفي العبارة أيضًا (تناصٌّ قرآنيّ) مع الآية رقم (149) من سورة الأنعام التي يقول فيها الله -جلّ شأنه-:{قُلْ فَلِلَّهِ ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَٰلِغَةُ ۖ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَىٰكُمْ أَجْمَعِينَ}، وقد ورد إيضاحها في (التفسير الوسيط) للدكتور محمد سيد طنطاوي بقوله:(لله وحده الحُجَّة البالغة. أى البيِّنة الواضحة التي بلغت أعلى درجات العلم والقوة والمتانة، والتي وصلت إلى أعلى درجات الكمال في قَطْعِ عُذْر المحجوج وإزالةِ الشكوك عمَّن تدبَّرها وتأمَّلها).
....
يتبع....
المراجع والمصادر:
([01]) سورة الإنسان، الآية: 21
([02]) الراوي:أبو قتادة الحارث بن ربعي، المُحَدِّث: البخاري، المصدر: صحيح البخاري، رقم الحديث: 5407، خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
([03]) لم يصل التنقيب عن الآثار حتى الآن إلى التاريخ الصحيح لقيام الدولة الحميرية. والمشتغلون بهذا العلم واقفون عند رأي إدوارد جلازر(الأعلام للزركلي، ص: 284
([04]) الأعلام للزركليّ، ص: 284
([05]) مروج الذهب للمسعوديّ، مجلد 2، ص: 88
([06]) سورة الزخرف، الآية 53
([07]) التحرير والتنوير، لابن عاشور، تفسير الآية 53 من سورة الزخرف
([08]) شرح ديوان عنترة، الخطيب التبريزيّ (ت، 502هـ)، قدّمَ له ووضع هوامشه وفهارسه: مجيد طراد، دار الكتاب العربيّ، بيروت، ط1، 1992م، ص: 197
([09]) الجمال البشريّ، عمر رضا كحالة، ص: 48
([10]) ضوابط لباس المرأة في ضوء التوجيه التربويّ والإسلاميّ، د. عدنان حسن باحارث، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة الكويت، مجلد: 19، عدد: 56، 2004م، ص: 48
([11]) غرائب اللغة، اليسوعيّ، ص:279
([12]) ديوان تأبط شرًا وأخباره، جمعه وحققه: علي ذو الفقار شاكر، دار الغرب الإسلاميّ، بيروت، ط1، 1984م، ص: 102
([13]) التراث التقليدي لأزياء النساء في عُمان، د. سحر محمد القطري، مجلة دراسات في آثار الوطن العربيّ – دورية علمية محكّمة، المجاد 20، سنة 2017، ص: 1115
([14]) الموروث الشعبي لولاية مرباط، أحمد عبد الرحمن بن سالم بالخير، كتاب بحوث ندوة مرباط عبر التاريخ، 2012م، ص 420
([15])https://www.sciencetimes.com/articles/26454/20200714/science-behind-choosing-wardrobe-black-v-s-white-shirt-hot.htm
([16]) التراث التقليدي لأزياء النساء في عُمان، د. سحر محمد القطري، ص: 1116
([17]) مدى تأثير الملابس ودلالات ألوانها على الحالة المزاجية: دراسة تطبيقية على المجتمع العُمانيّ، د. سعود مبارك البادري، مجلة دراسات على النفس والصحة، المجلد: 8، العدد: 1، سنة 2023م، ص: 30
([18]) مرباط عبر التاريخ، الموروث الشعبي المادي، د. أحمد بن عبد الرحمن بن سالم بالخير، 2012م، ص: 434- 435
([19]) الأعراف والعادات الاجتماعية والثقافية في ظفار، سعيد المعشني، مطابع ظفار الوطنية، صلالة، سلطنة عُمان، 2003م، ص: 134
([20]) الأعراف والعادات الاجتماعية والثقافية في ظفار، ص: 130
رابط مختصر
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
من يسدل الستار على «مسرح الابتكار»؟
في عام (2014)، أعلنت شركة (ثيرانوس) الناشئة في وادي السيليكون ابتكارها التحويلي في فحوصات الدم، وتبعًا للاهتمام العلمي والمجتمعي بهذا الابتكار الواعد؛ قُدّرت قيمة الشركة في ذلك الوقت بتسعة مليارات دولار، ولكن كشفت الأحداث المتتابعة بأن التقنيات والأجهزة التي يقوم عليها الابتكار لم تكن ذات جدوى واقعية، مما عرَّض مؤسسي الشركة للمحاكمة بتهمة الاحتيال، واستقطبت هذه المحاكمة التي انتهت في عام (2023م) اهتمامًا واسعًا داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها، وعلى سبيل المثال، وصفت إحدى التغطيات الإعلامية قصة شركة (ثيرانوس) بأنها أحد أشكال رمزية «مسرح الابتكار»، وأن ما أعلن عنه بأنه ابتكار «لم يكن سوى أنصاف حقائق، لأن ادعاء شركة (ثيرانوس) بقدرتها على إجراء فحوصات الدم باستخدام قطرة من وخزة إصبع بدلًا من إبرة في الوريد ليس سوى سراب»، والسؤال: هل مسرح الابتكار ظاهرة جوهرية تستحق التوقف والتحليل، أم أنها مجرد حالات فردية لشركات ناشئة وطموحة؟
في البدء، لا بد من الإشارة إلى أن «مسرح الابتكار» هو في الأصل مصطلح علمي وليس تعبيرًا مجازيًا في الصحافة، وقد صاغ هذا المصطلح المؤلف ورائد الأعمال المشهور (ستيف بلانك)، ويمكن القول إن هذا المصطلح لم يكتسب الاهتمام مثل جميع المصطلحات الشائعة في الابتكار سوى مؤخرًا، وذلك مع تكرار قصص الابتكارات التحويلية التي هي في الأصل ليست ابتكارات حقيقية، ويفترض مفهوم مسرح الابتكار بأن الميل العام للإشارة إلى معظم ممارسات الرشاقة الاستراتيجية والتفكير التصميمي كمصادر نموذجية للابتكار يعكس حالة عدم الفهم الكامل لجذور الابتكار، ويحدث ذلك بقصد أو دون قصد، وتؤدي في النهاية إلى فشل الابتكارات بعد أن تصل إلى ذروة التوقعات المبالغ فيها.
والوقوع في فخ مسرح الابتكار لا ينطبق على الشركات الناشئة والقائمة على التكنولوجيا وحسب مثل شركة (ثيرانوس)، ولكنه يحدث مع جميع محاولات التطوير والابتكار الفردي والمؤسسي، ونجد أن مجموعات الابتكار والشركات والمؤسسات تعمد إلى زيادة عدد الأنشطة المولدة للابتكار، مثل حلقات العمل النقاشية، وبرامج دعم الأفكار الابتكارية، ومسابقات الهاكثون، والمختبرات ومسرعات الشركات وبالتالي، والمنطق الظاهري يتوقع بأن وجود هذه الممارسات يُعد محرّكًا لأن تصبح المؤسسات أكثر قدرة على الابتكار، ولكن في الواقع، هناك احتمالات عديدة بأن تنفيذ هذه الأنشطة على طول سلسلة الابتكار لا يعدو كونه نشاطا سطحيا يُوجد عملًا غير ضروري للمؤسسة، ولا يضيف قيمة حقيقية للابتكار المؤسسي، فهو يصنع الضجيج ويبقي فرق العمل مشغولة ولكن دون إضافة القيمة إلى الابتكار.
وبمعنى أدق، فإن ظاهرة مسرح الابتكار هي محاولة المبتكرين والمؤسسات للاستجابة للمتغيرات الخارجية، ومتطلبات التطور، وذلك من خلال محاكاة الممارسات المتعارف عليها، وتنفيذ الأنشطة الهجينة والرمزية، والتي ليس لها تأثير جوهري على أي مرحلة من مراحل عملية الابتكار، ولكن في بعض الأحيان، قد يتم الخلط بين حالات مسرح الابتكار وبين محاولات الفشل في تطوير الفكرة الابتكارية، وهما نوعان مختلفان من نتائج المحاولات، وتختلف الدوافع فيهما بشكل جذري، ففي إطار سعي المؤسسات لانتهاج مسارات ابتكارية، أصبحت أنشطة توليد الأفكار -مثل الهاكاثونات ومسابقات الأفكار- من الممارسات الراسخة التي تكتسب قيمة كبيرة، وإذا فشلت هذه الأفكار بسبب العوائق المنهجية، أو تحديات في التنفيذ فإن هذه الجهود لا تصنف ضمن ظاهرة مسرح الابتكار، لأن الفشل هو جزء لا يتجزأ من العملية التطويرية، ويمكن التعامل مع هذه الحالات بتفعيل الأدوار الحيوية لمُمارسي الابتكار في المؤسسة، مثل إضافة وحدات للدعم في هيكلية المؤسسة، ووضع خطط موجهة لتسهيل مرحلة تنفيذ مبادرات الابتكار، والتركيز على استكشاف آفاق جديدة للعمل، ورسم صورة للمستقبل المنشود، ولكن مع مواجهة اللحظة الراهنة لفهم مسألة الطموح بشكل واقعي، لأن كل جهد في الابتكار هو بمثابة قرار استثماري، وعلى متخذي القرار المفاضلة بين تحقيق الاستدامة والنمو المتسارع، أو المحافظة على البقاء بتحقيق العائد المتوقع وبأقل درجة من المخاطر.
وأما حالات مسرح الابتكار فهي على النقيض تمامًا من المحاولات الفاشلة، لأنها تتميز بوجود حالة عدم الترابط بين التوقعات والممارسات الفعلية، وكذلك بغياب التوافق بين الطموح ومحركات التنفيذ، ويعود ذلك إلى عدم وجود دوافع حقيقية لدعم الابتكار، وبذلك تقتصر الممارسات على مواكبة الحراك القائم، وليس على تثمين القيمة المكتسبة من الابتكار، ونجد أمثلة كثيرة على نشوء ثقافات مؤسسية غير صحيحة، مثل الاعتقاد بأن الوحدات الإدارية أو المجموعات المعنية بالابتكار يجب أن تكون حرفيًا ودائمًا مُبدعةً، وذلك من حيث إمداد المؤسسة بمخزون لا ينضب من الأفكار الإبداعية التي قد تُستخدم أو لا تُستخدم، وهذا التوجه يتسبب في تراكم مبادرات الابتكار غير المنجزة، وبالتالي هدر الوقت والجهد لإضفاء طابع مسرحي على الابتكار، ولكن دون الوصول إلى مخرجات حقيقية وذات قيمة في التطوير والابتكار.
وعلى الرغم من أن مسرح الابتكار شائع جدًا على كل المستويات؛ إلا أن هناك فهمًا محدودًا بشأن المخاطر والتبعات السلبية التي يمكن أن تنشأ من هذه الظاهرة، فالهاجس الأكبر هو في احتمالية أن تتورط شركات الابتكار في قضايا الاحتيال، ولكن الآثار السلبية لمسرح الابتكار أكبر بكثير، وتشمل العديد من الجوانب الفردية والمؤسسية، وعلى عدة مستويات؛ وفي مقدمتها يأتي فشل مجموعات الابتكار والمؤسسات في اقتناص فرص إطلاق محركات ابتكارية لحلول جديدة وواقعية للتحديات التي تواجهها. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تُحدث أنشطة الابتكار المجزأة والمهجورة فجوات عميقة تحول دون القدرة على إحياء الأفكار الابتكارية عندما تتوفر الدوافع الجدية لتبني الجهود، وتوجيهها إلى المسار الصحيح في التنفيذ.
إن ظاهرة «مسرح الابتكار» لا ترتبط بشكل حصري مع الشركات العلمية والتكنولوجية التي تطلق ابتكارات وهمية بغية الحصول على قيمة سوقية في القطاعات الصناعية الرائدة، ولكنها كامنة في معظم محاولات التطوير التي تضع مبادرات ابتكارية ذات وقع ملفت، ولكن تأثيرها في إضافة القيمة الابتكارية ضئيل أو معدوم، وعلى المجتمع العلمي مسؤولية تفعيل أدوات أكثر دقة لتقييم التأثير المحتمل في قياس مخرجات الابتكار بشكل واقعي، وأخلاقي لضمان مصداقية الجهود المعرفية والابتكارية.