تمثّل الفترة التي عاشها الفيلسوف عبدالوهاب المسيري في المملكة العربية السعودية، باعترافه شخصياً في أكثر من مناسبة، أغزر مراحل حياته إذ يقول أنه وجد الوقت للتفرغ التام للموسوعة الشهيرة التي نشرها لاحقاً بعد ذلك، وكان في الوقت نفسه يكتب للصحف والمجلات السعودية وقتها إذ كان يحرّر باباً أسبوعياً في جريدة الرياض تحت عنوان :”إسرائيليات معاصرة.
”
يقول المسيري أن جامعة الملك سعود كانت في غاية الكرم معه، حيث اعتمدت مبلغاً من المال لشراء بعض الكتب، ولتغطية بعض بنود التكاليف الأخرى، كما خصّصت له مكتبة الملك سلمان في جامعة الملك سعود غرفة خاصة، وسهّلت له الوصول إلى الكثير من المراجع الأجنبية، والكتب، والصحف العالمية، في أرشيفها الضخم.
في هذه الفترة، يمكن القول إن معظم النماذج المعرفية التي تحدّث عنها في الموسوعة، قد تبلّورت هنا في السعودية، ومنها النموذج الأشهر الذي سمّاه نموذج الجماعات الوظيفية، واستخدمه كثيراً كأداة تحليلية أساسية.
الجماعات الوظيفية، بحسب تعريف المسيري، هي جماعة يجلبها المجتمع من خارجه، أو يجنّدها من داخله (من بين الأقليات الإثنية أو الدينية أو حتّى من بعض القرى أو العائلات)، ويوكل إليها وظائف شتّى، لا يمكن لغالبية أعضاء المجتمع، الاضطلاع بها، لأسباب مختلفة قد تكون غير مناسبة اجتماعياً، أو تتطلّب دراية وخبرة، كالطب، والترجمة، أو أمنية عسكرية، أو لأنها تتطلّب الحياد الكامل، كالتجارة، وجمع الضرائب.
من سمات أعضاء الجماعات الوظيفية، أن علاقتهم بالمجتمع الذي يتواجدون فيه، علاقة نفعية تعاقدية، فهم وسيلة لا غاية، دور يُؤدى، أو وظيفة تؤدّى؛ لذا فهم يُعرّفون، بحسب المسيري، في ضوء الوظيفة التي يضطلعون بها، ولا علاقة لماهيتهم الإنسانية بالأمر. هم عناصر حركية لا ارتباط لها بالمكان، ولا انتماء له، ويعيشون على هامش المجتمع في جيتو خاص بهم.
يصف مصطلح “المتعاقد” الظاهرة بدقَّة: فالمتعاقد موجود في دولة ما، لأنها في حاجة إلى خبراته، وعندما ينتهي عقده، تنتهي علاقته الوظيفية، ويعود ببساطه إلى بلده الأصلي. لهذا السبب، في رأي المسيري، يفضّل الكثير من المتعاقدين العيش في عزلة، أو في جيتو خاص بهم، فلا علاقة لهم بالأوضاع السياسية، ولا بعامة الشعب في بلدهم المضيف.
لكن مع قسوة هذا النموذج، يعتقد المسيري أن التراحم في السعودية قد تغلّب على التعاقد بحكم المرجعية الدينية، إذ يقول المسيري: “لقد أحببت السعوديين إلى درجة كبيرة إذ وجدت بين طلبتي وفاء وطيبة وذكاء خارقاً. وقد فكّرت مرة أن أرتدي الزي السعودي حتى لا يشعر طلبتي بأن أستاذهم مختلف عنهم، فنحن كلنا عرب ومسلمون.” ذكر المسيري أن ابنه كان يرتدي الثوب السعودي في المدرسة التي كان يذهب إليها. “كنت أشجّعه على ذلك بسبب الإحساس بالمساواة الذي يولّده الثوب فهو لا يفرّق بين الخفير والأمير،” يقول المسيري في مذكراته. وقد أكّد المسيري أن غلبة التراحم في السعودية، تتجلّى في صلاة الجماعة، وباقي الشعائر الإسلامية التي نجحت في إزالة الفوارق، ويمارس فيها الناس إنسانيتهم المشتركة، الأمر الذي كان له أعمق الأثر في العلاقة بينهم.
khaledalawadh @
المصدر: صحيفة البلاد
إقرأ أيضاً:
الدُّب … الذي بكته السماء !
مناظير الخميس 1 مايو، 2025
زهير السراج
manazzeer@yahoo.com
* في مساء حزين غابت فيه شمس العام الماضي، صعدت روح صديقي العزيز (عزالدين علي عبدالله)، المعروف بين أصدقائه بـ"عزالدين الدب"، إلى بارئها، وعلى وجهه نفس الابتسامة التي رافقته في الحياة، كأنما كانت تعانق الموت وترحب به، فبكته السماء قبل أن يبكيه البشر، وسالت دموعها فوق مقابر عين شمس في القاهرة، حيث وُري جثمانه الثرى بعد رحلة صمود طويلة، لا يملك من يعرفها إلا أن ينحني احتراماً أمام عظمة هذا الإنسان الفريد.
* لم يكن "الدب" مجرد لقب طريف أطلقه عليه الأصدقاء في صباه بسبب امتلاء جسمه، بل صار مع الأيام رمزاً لقلب كبير يسع الدنيا، وروح مرحة، وجَنان صلب لا تهزه العواصف. ورغم إصابته بالفشل الكلوي لأكثر من عشر سنوات واعتماده على الغسيل المنتظم، لم يكن أحد يصدق أنه مريض، فقد كان صحيح البدن، قوي النفس، عالي الضحكة، حاضر النكتة، سيّال الفكرة، متوقد الذهن.
* عرفته كما عرفه غيري إنسانا مثقفا ومحدثا لبقاً، مجلسه لا يُمل، وحديثه لا يُنسى، وتحليله السياسي والاجتماعي لا يشق له غبار. كان موسوعة متحركة، لا تسأله عن شأن في السودان أو في العالم إلا وتنهال عليك منه الدهشة والإفادة. ولم يكن هذا لشغفه بالسياسة فقط، بل كان عاشقاً للفن والشعر والغناء، يحفظ القصائد والأبيات والأغاني ومَن قالها ولحّنها وغنّاها وتاريخها، وكأنما خُلق ليكون ذاكرة حية لكل شيء جميل.
* عشق الفروسية ونادي الفروسية وسبق الخيل، وكان يحفظ عن ظهر قلب اسماء الفرسان والخيل وصفاتهم وحركاتهم وسكناتهم، وظل طيلة الخمسين عاما الاخيرة من حياته التي لم يغب فيها يوما واحدا عن ميدان السبق مع رفيقه وصديقه (ماجد حجوج) من أعمدة النادي والمؤثرين والمستشارين الذين يؤخذ برأيهم، ومحبوبا من الجميع.
* كان بيت أسرته في حي بانت شرق بأم درمان ندوة يومية يقصدها الناس من كل فج، ينهلون من علمه ويضحكون من قلبهم لطرائفه التي لا تنتهي، وحكاياته التي تتفجر دفئاً وإنسانية، كما لو أنه خُلق من طينة خاصة لا تعرف غير البهجة، رغم معاناته الطويلة مع المرض.
* ثم جاء يوم 15 أبريل، يوم الفجيعة الكبرى، وانفجر جحيم الحرب اللعينة في السودان، وسقطت القذائف على المدن والناس، وأظلمت الحياة، وانعدم الأمان وانهارت المستشفيات، وانقطع الدواء، وتوقفت جلسات الغسيل، فصار عزالدين يخاطر بحياته بحثاً عن مركز يعمل، ينتقل على عربات الكارو بين الدانات والقذائق وزخات الرصاص، ورغم كل ذلك لم تغب ابتسامته، ولم يفقد شجاعته.
* نزح إلى كسلا، ثم بورتسودان، الى ان قادته الأقدار إلى القاهرة، حيث احتضنه أصدقاؤه الأوفياء الدكتور مجدي المرضي، وشقيقه ناصر المرضي، والدكتور صالح خلف الله، وفتحوا له قلوبهم وبيوتهم ووقفوا بجانبه حتى آخر لحظة من حياته، جزاهم الله خير الجزاء، وجعل ما فعلوه في ميزان حسناتهم.
* لكن القلب الذي صمد كثيراً، أنهكته أيام السودان، وضربات الحرب، وعدم انتظام الغسيل وصعوبة الحياة تحت نيران المدافع، فلم يحتمل، واختار الرحيل في صمت هادئ، بابتسامته البهية التي كانت عنواناً له في الحياة، كأنه يقول لنا وداعاً دون نحيب.
* نعزي أنفسنا وأسرته المكلومة، وشقيقاته العزيزات د. سامية، د. سلوى، وسميرة، وأصدقاءه الذين كانوا له عوناً وسنداً، ونبكيه بقدر ما أحببناه، ونترحم عليه بقدر ما أدهشنا بعظمة صبره وروعته وبهاء روحه. إنّا لله وإنّا إليه راجعون.