المجتمع الدولي أمام مساءلة المستقبل القادم
تاريخ النشر: 5th, November 2024 GMT
قبل عقود كانت التقارير والتحقيقات الصحفـية التي تفضح الاحتلال، أي احتلال كان، لها تأثيرها العميق حيث كانت تحرج الاحتلال أمام نفسه وأمام المجتمع الدولي وتجعله مضطرا لمراجعة خططه القتالية وضبط سلوك جنوده على أقل تقدير.. حدث ذلك بشكل واضح عندما فضحت صحف أمريكية الجيش الأمريكي الذي ارتكب مذبحة ماي لاي فـي فـيتنام، وحدث عندما كشف صحف أمريكية فضيحة سجن أبوغريب فـي العراق.
لا يمكن للبشرية إن بقيت محتفظة بشيء من إنسانيتها أن تتصور بعد سنوات من هذه الحرب كيف سمحت لجيش الاحتلال الإسرائيلي أن يرتكب كل هذه المجازر؛ أن يبيد المدنيين، ويحرقهم فـي خيامهم التي أجبرهم على النزوح إليها أو أن يحكم بالموت جوعا على سكان شمال القطاع، وأن يحرقهم فـي مستشفـياتهم على مرأى من العالم الذي يتفرج على المشاهد أمام شاشات التلفزيون. لا يمكن للأجيال القادمة أن تتصور كيف صمت العالم حتى الآن على جرائم الاحتلال ضد الأطفال الخدج فـي مستشفـيات القطاع، كيف قطع عنهم الأجهزة التي كانوا يعيشون عليها وأجبر طواقم المستشفـيات على المغادرة، وكيف حكم على آلاف الأسر التي كانت تقيم فـي ساحات المستشفـيات الخارجية بالموت ثم قام بدفنهم، بعضهم حيا، باستخدام جرافات سحلتهم ثم ساوتهم بالتراب. هذه المشاهد لا يمكن تصورها اليوم فكيف للأجيال القادمة أن تتصورها، وكيف لها أن تنساها؟!!
تتحدث كل منظمات «المجتمع الدولي» الآن عن حجم الجرائم فـي شمال القطاع وكيف تنتشر رائحة الموت بعد أن تحول الدفن إلى مقابر جماعية، وكيف أصبحت جثامين الشهداء تطوى فـي أكياس بلاستيكية بعد أن انتهت الأكفان!
أكملت إسرائيل المحتلة الآن أكثر من شهرين منذ أن بدأت حملتها الجديدة على شمال القطاع وبشكل خاص على بيت لاهيا، وتسببت فـي استشهاد المئات أغلبهم من الأطفال والنساء. وما زالت التقارير الصحفـية تتحدث عن أكثر من مائة ألف شخص ما زالوا فـي جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، وهذا العدد يعادل نصف العدد الذي كان موجودا قبل بدء الحرب فـي أكتوبر من العام الماضي.. نزح الكثيرون إلى الجنوب فـيما استشهد الآلاف وماتوا جوعا وحرقوا فـي المستشفـيات وآلاف منهم ما زالوا تحت الركام.
وصفت الأمم المتحدة الوضع فـي شمال قطاع غزة بأنه «كارثي» ولكنّ الجميع يعرف أنه كارثي ولكنها لم تستطع أن تقدم أي شيء للتخفـيف من هذه الكارثية ولو حتى غذاء يحمي الناس من الموت جوعا أو دواء يخفف حجم الألم الجسدي الذي يعيشه المرضى إذا ما تجاوزنا الحديث عن الألم النفسي الذي لا أحد يتحدث عنه خلال الحروب.
والغريب فـي الأمر أن العالم فـي كل خطاباته ما زال يتحدث عن السلام وعن فرصه المنتظرة.. ولا يمكن أن يُفهم هذا السلام فـي لحظة تنتهك فـيها حقوق الإنسان الأساسية ويجوع ويشرد ويطارد ويحرق أطفاله أمامه ولا يجد حتى قطعة قماش يكفنهم بها قبل أن يهيل عليهم بعض تراب الوطن ولو كان محتلا.
على العالم أن يراجع نفسه الآن؛ فخزي التاريخ أبدي لا ينسى بالتقادم.. وعار البشرية التي تتآمر على غزة وأطفالها لا ينتهي أبدا.
فـي ظل هذه الأحداث المأساوية، يبقى السؤال الأهم حول كيفـية تحقيق السلام والاستقرار فـي المنطقة، وضمان حقوق الإنسان والحياة الكريمة لجميع سكان غزة الذين يعانون من واقع يومي من الألم والخوف.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: لا یمکن
إقرأ أيضاً:
ما الذي تفتقده صحافتنا اليوم؟
د. يوسف الشامسي **
لربما يُوحي طرح السؤال بهذه الصيغة أني بصدد تقييم مُفصَّل للموضوع بناءً على تصوُّر معياري حول الصحافة ودورها، وبالتالي يمكن تحديد المفقود بالتعرّض للموجود؛ لكن الاستماع لأصوات الصحفيين والمختصّين بالشأن الإعلامي اليوم قد يجعلني أعيد التساؤل السالف ذكره بتساؤل لا يخلو من مفارقة ساخرة بلسان ذوي الشأن أنفسهم: ما الذي لم تعُد تفتقده صحافتنا اليوم؟!
أزعمُ أنَّ النقاش في هذا السياق لا يستدعي بحثًا وتحليلا معمقًا؛ بل مجرد الاستماع لذوي الاختصاص من جهة ووجود إرادة حقيقية من قبل الجهات المسؤولة من الجهة الأخرى كفيل بإعادة إنعاش هذا القطاع ليتبوأ دوره المؤمل في العلاقة بين المجتمع والسياسة، وسأكتفي باختزال الإجابة في مفقودَيْن اثنيْن جديرَيْنِ بدفع صحافتنا المحلية لمسارها المنشود، وأجزم أن أغلب المهتمين بهذا الحقل يجمعون على هذين المطلبين: مزيدًا من الحماية القانونية والتمكين، ومزيدًا من الدعم المادي والتحفيز.
تُعد الصحافة أداة حيوية لتعزيز الحوكمة، والتماسك الاجتماعي، والمشاركة العامة، وتمكين الفئات الأقل حظًا في المجتمع، ولئن كانت مهمة الصحافة وجوهرها "نقل الحقيقة"، فإن ذلك لن يتأتى إلّا عبر بوابة الحرية، في مناخٍ ضامن لأمن الصحفي وأحقيّته في الوصول للمعلومة الصحيحة والتحقق منها، لذلك وقبل كل شيء، صحافتنا بحاجة إلى قوانين تدعم الشفافية والتمكين لاستقصاء المعلومات ومراقبة الجهات المُرتبطة بمصالح المواطنين. وغياب قانون حق الحصول على المعلومات هو حكم على الصحافة بالبقاء تحت وصاية الجهات الرسمية وغير الرسمية لتزويدها بالمعلومة، وبالتالي تضعف جودة التغطية الإعلامية وتغيب التنافسية بين المؤسسات الصحفية، ناهيك عن المخاطر القانونية التي قد تورِّط الصحفي جراء نشره معلومة ما دون إذن من الجهات الرسمية نتيجة لغياب قانون ينظّم له ذلك الحق. ورغم إقرار قانون الإعلام الصادر قبل أشهر- والذي ما يزال يثير تساؤلات المختصين- بهذا الحق في مادته الثالثة، إلّا أنه يظل قاصرًا عن منح الصلاحيات الكاملة للصحفي لينطلق بحرية في ميدانه. ولعلَّه من الجدير أن أشير هنا لجهود مجلس الشورى وطرحه لمقترح مشروع قانون حق الحصول على المعلومات قبل قرابة عقد من الزمن؛ ولكن لا أدري إذا ما سقط المقترح خلال دورته التشريعية آنذاك، أو أنه ما يزال يراوح مكانه في أروقة المجلس.
ولسنا بحاجة للوقوف كثيرًا حول أهمية هذا القانون؛ إذ يكفي أنه يعمل بمبدأ تعزيز الثقة وحُسن الظن في القائم على الرسالة الإعلامية، عكس تلك القوانين التي تحدّه بالعقوبات وتُكرِّس مبدأ سوء الظن في الصحفي، فيقبع يستظهر النصوص القانونية خوفًا من الوقوع في شيء من المحظورات، ويتجنب- من ثمّ- تغطية القضايا التي قد تشغل الرأي العام هروبًا من كل ما قد يأتيه بتبعات ومساءلة.
اليوم.. ثلاثة أرباع دول العالم تبنَّت قانون الحصول على المعلومات، 50% من هذه الدول أقرّت القانون فقط خلال العشر سنوات الماضية، لذلك لا ينبغي أن نتأخر كثيرًا عن الركب، خصوصًا وأن مثل هذه القوانين ذات تأثير مباشر على الأداء في مختلف المؤشرات الدولية. فليس بغريب أن نجد أغلب دول المنطقة العربية اليوم- وللأسف- مُصنَّفة في مراتب مُتدنية في مؤشرات حرية التعبير والصحافة العالمية، كتقرير "مراسلون بلا حدود"، و"بيت الحرية"، وغيرها. هنالك بالطبع من يُشكِّك في نزاهة هذه المؤشرات ويعيب مثل هذه التقارير الدولية بحُجة أنها ذات نزعة غربية تُحابي دول "المركز" في تقييمها وتُهمِّش "الهامش"، وهذا جزئيًا لا يُمكن إنكاره؛ كما لا يصحّ قبوله بالمُطلق؛ فبعض المؤسسات إذا ما تقدمت في أحد المؤشرات الدولية أذاعت بذلك في كل محفل، وإن تراجعت في التصنيفات انتقدتْ التقارير ورمتها بالتحيز وما شاءت من التّهم!
وللإنصاف، علينا أن نتساءل: هل صحافتنا اليوم أفضل حالًا مما كانت عليه قبل عقدين أو ثلاثة عقود؟ هل فعلًا نستحق ترتيبًا أفضل؟ وهل توجد مؤشرات وطنية أو إقليمية لنعتمدها فيما يخص حرية الصحافة في بلداننا؟ هل تقدّمنا فيها؟ وهل يعتدّ بها لدى المكتب الوطني للتنافسية؟ هذه التساؤلات ضرورية قبل انتقاد التقارير "الغربية" خاصة بعدما أضحت هذه المؤشرات الدولية شريطًا متريًا بخارطة مستقبل عمان لقياس مدى تقدمنا في مستهدفات رؤية "عُمان 2040".
وتفتقد المؤسسات الصحفية اليوم للدعم المادي، وهذا ما ليس يخفى على المهتمين، فضلًا عن العاملين بهذا القطاع، فأغلب المؤسسات الصحفية قائمة على الدعم الحكومي والإعلانات، واليوم وفق تعبير رئيس جمعية الصحفيين العُمانية، فإن أغلب الصحف الخاصة "تحتضر"، وبالتالي سيفقد المجال العام منابر ضرورية وُضِعَت لتُسهم في تحريك المناخ الثقافي والسياسي وذلك بخلق تعدُّدية في الآراء عند معالجة قضايا الشأن العام.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإنَّ الكثير من العاملين في هذا القطاع يشكون ضعف المُحفِّزات المادية للبقاء فيه، ناهيك عن غياب النظرة التكاملية بين المُخرجات وسوق العمل. وعلى المعنيين بسياسات هذا القطاع دراسة هذه القضية بشفافية والتساؤل: ما تأثير غياب الدعم المادي المُستدام على جودة المحتوى الصحفي واستقلاليته؟ وإلى أي مدى يعكس سوق العمل احتياجاته الفعلية في عدد الخريجين الجدد من كليات الإعلام والصحافة بالسلطنة؟ وما السياسات التي يُمكن أن تُعتمد للحد من الفجوة بين المخرجات الإعلامية وسوق العمل؟ أيضًا كيف يمكن مُعالجة الفجوة بين الجنسين في فرص العمل داخل المؤسسات الصحفية؟ وأخيرًا هل هناك تجارب ناجحة في دول أخرى يمكن الاستفادة منها لدعم المؤسسات الصحفية الخاصة؟
هذه التحديات لربما باتت مصيرية وستتطلب إصلاحات جذرية إن تأخرنا في مُعالجتها؛ فبدون بيئة قانونية داعمة، وتمكين اقتصادي يحفظ للمؤسسات الصحفية استقلالها واستدامتها، سيظل هذا القطاع يُعاني من التراجع والقيود.
إنَّ تعزيز حرية الوصول إلى المعلومات، وزيادة التحفيز والدعم للمؤسسات الصحفية الخاصة، أصبحا من الضرورات لضمان دور الصحافة في تحقيق أهداف التنمية وتعزيز الحوكمة. فهل سنشهد تحركًا جادًا لإعادة إنعاش هذا القطاع وتمكينه، أم ستظل هذه المطالب مجرد أصوات في مهب الريح؟
** أكاديمي بقسم الاتصال الجماهيري- جامعة التقنية والعلوم التطبيقية في نزوى