لجريدة عمان:
2025-01-30@23:15:39 GMT

الابتكار في عصر اقتصاد «الدونات»

تاريخ النشر: 5th, November 2024 GMT

إذا تأملنا الشركات الابتكارية العملاقة سنجد بأن محور الاستدامة هو الأبرز لديها، وتتراوح درجات الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية بحسب مجالات الابتكار، ففي الابتكارات التكنولوجية ينصب التركيز على الجوانب الاقتصادية والبيئية، وتركز الابتكارات الاجتماعية على البعد الإنساني والمجتمعي، ولكن قلَّما أن يحدث وتجتمع كل هذه الأبعاد في ابتكار واحد، ليس هذا فحسب، بل إن العديد من شركات الابتكار الناشئة لا تنظر إلى الاستدامة باهتمام كاف رغم أن جائحة كوفيد -19 قد برهنت بأن البشرية على أعتاب عالم تتفاقم فيه التحديات الصحية والاجتماعية والبيئية، فهل حان الوقت لترسيخ الاستدامة البيئية والاجتماعية بعقلية اقتصادية أكثر ملاءمة لواقع القرن الحادي والعشرين؟

ولعل البداية تكمن في حقيقة أن النظريات الاقتصادية في القرن الماضي، والفكر السائد عن اكتساب القيمة من الاستثمار في الابتكار لم يتطرق للاستدامة كمنطلق أساس لحل التحديات عن طريق المعرفة، وهذا ما أنتج المسار التقليدي للنمو الاقتصادي الذي يتمحور حول تحقيق عوائد الاستثمار، وانعكس هذا التفكير على الخطط الاستراتيجية والسياسات ونماذج الأعمال وموضوعات البحث والتطوير، مما دفع بالمفكرين والأكاديميين ولممارسين إلى البحث عن أطروحات تتناسب مع متغيرات العصر، ومن أبرزها وأحدثها أطروحة «اقتصاد الدونات» الذي سُمي على صورة «الكعكة الدائرية»، وقد قدمتها للمجتمع العلمي الخبيرة الاقتصادية، وزميلة معهد الاستدامة البيئية بجامعة أكسفورد؛ البروفيسورة كيت راورث التي طورت هذا المفهوم، وأسست كذلك مختبر عمل اقتصاد الدونات في عام 2012، ويقوم اقتصاد الكعكة الدائرية على فكرة أن التنمية يجب أن تسعى لتعزيز تكامل الأبعاد الاجتماعية والبيئية مع البعد الاقتصادي، وقد استقطب مفهوم اقتصاد الدونات في بداية ظهوره انتباه منظمات الأمم المتحدة، والناشطين البيئيين، وقادة الأعمال، ولكنه اكتسب أهمية كبيرة بعد جائحة كورونا، وفي ربيع هذا العام 2024م، استضافت قمة الاستدامة التي نظمها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا البروفيسورة راورث كمتحدثة رئيسية لشرح نموذجها، وتوضيح آليات الاستفادة من هذا الفكر الجديد الذي يتألف من حلقتين متحدة المركز تشكلان ما يشبه الدونات، حيث تمثل الحلقة الداخلية الأساس الاجتماعي للتنمية، في حين تمثل الحلقة الخارجية السقف البيئي لاستدامة النظم البيئية والتي يجب عدم تجاوزها، والفضاء بين هاتين الحلقتين هو النقطة المثالية لمجتمع متزن بيئيًا وصحيًا وآمن من الكوارث الطبيعية والأوبئة، ومستقر اجتماعيًا، وبقيادة اقتصاد متجدد، وتكمن المساهمة الحقيقية لهذه الأطروحة في أن إنشاء النقطة المثالية لهذا النموذج هو في الأصل دور شركات الابتكار ذات التفكير المستقبلي المسؤول، والتي ترتبط ابتكاراتها بالموضوعات الراهنة مثل التكنولوجيا الخضراء، والطاقة المتجددة، وتوظيف التقنيات الرقمية المتقدمة للثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي.

ومن باب: «الشيء بالشيء يُذكر» فإن فكر الاستدامة في أطروحة الاقتصاد الدائري لا يختلف عن اقتصاد الدونات، ولكن الأخير ينظر إلى جميع الأبعاد الثلاثة للاستدامة بشكل أكثر تفصيلًا، وبمنهجية توزيعية بحيث لا يطغى الاهتمام على مجال دون آخر، وكذلك منحت هذه الأطروحة دورًا كبيرًا وبارزًا لشركات الابتكار التكنولوجي والاجتماعي في تحقيق التنمية، ورسمت معايير جديدة لما يمكن أن يطلق عليه «النجاح الاقتصادي» والذي يقوم على المعرفة والابتكار، إذ لا يمكن أن يعتبر النمو الاقتصادي الذي يقوم على التأثير السلبي على البيئة نجاحًا، فهو لا يعدو كونه ارتفاعًا في العائدات، والحقيقة أنه من الأولى والضروري أن يسعى المفكرون والأكاديميون إلى تقديم بوصلة جديدة لتوجيه التنمية الاقتصادية، ووضع مسارات ومعالجات جذرية لحالات اختلال التوازن بين أضلاع الاستدامة، وتحقيق الملاءمة بين أهم ركائز أطروحة اقتصاد الدونات وهي ضمان الأساس الاجتماعي الذي يجب تحقيقه من جهة، والالتزام بالسقف البيئي الذي يجب عدم تجاوزه.

وهذا يقودنا إلى النقطة الأساسية وهي توظيف الابتكار للقيام بدوره في الوصول للسيناريو المثالي في أطروحة اقتصاد الدونات، وضمان حصول مؤسسات وشركات الابتكار على حصة في عملية صنع القرار في المستقبل، إذ يجب أولًا مراجعة واستقراء الفكر المعاصر في الاقتصاد والاستدامة، وتقييم الفجوة بين معطيات هذا الفكر ومتطلبات واقع ومستقبل الحياة والاقتصاد، ثم تأتي الخطوة الأساسية وهي إسقاط التحديات الاجتماعية والبيئية الحالية على إطار عمل اقتصاد الدونات للتأكد من قدرة هذا الإطار على معالجتها، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بكسر الحلقة المتصلة للفكر السائد عن أهمية اكتساب القيمة، ورفع العوائد كهدف أساسي للنمو في حد ذاته؛ لأن الأجدى هو السعي نحو إعادة تصميم عمليات إنتاج المعرفة والابتكار، وضخ التمويل والاستثمار، وتأسيس الأعمال التجارية القائمة على مخرجات الابتكار، وذلك للوصول إلى الغاية الكبرى وهي خلق اقتصادات متجددة بالابتكار، وتضمينية للأبعاد الاجتماعية والبيئية على حدٍ سواء.

إن دور المعرفة في الاقتصاد يتنامى بوتيرة سريعة تسابق الفكر المعاصر للتنمية، مما يتطلب الإسراع في تغيير قواعد اللعبة، وإلهام جيل جديد من المفكرين الاقتصاديين الذين يمكنهم إعادة صياغة فهم التنمية الاقتصادية في سياق الاستدامة بجميع أبعادها، وإبراز وتفعيل أدوار غير تقليدية للمعرفة والابتكار، وهي غايات مستقبلية تستلزم العمل التشاركي بين جميع القطاعات المتعلقة بإنتاج المعرفة، واكتساب القيمة من توظيف مخرجاتها، وبذلك تبدأ سلسلة التكامل بالتركيز على أولويات بحثية وتطويرية موجهة نحو الاستدامة الكاملة، ثم إيصال مخرجات هذه الجهود إلى الجهات المستفيدة لضمات تقليل الهدر في إنتاج معارف وتقنيات غير مستغلة، ويرافق كل هذه الخطوات دراسات تحليلية واستقرائية لضمات الخروج بدروس مستفادة للتغذية الراجعة، والتي يمكنها تعزيز الباحثين والمبتكرين في تحديد النماذج الأكثر توافقًا مع الواقع المحلي، فليست كل الأطروحات المشهورة مناسبة لجميع المنظومات، ولا يستلزم النجاح استنساخ تجارب الآخرين وإن كانت ناجحة ومميزة، فالتنمية القائمة على المعرفة بحاجة إلى وضع نظريات جديدة، واقتراح سياسات محدثة، ودعم الابتكارات غير المسبوقة، وعدم التوقف عن التفكير التجديدي، فكما ظهرت أطروحة اقتصاد الدونات واستحوذت على الاهتمام بعد جائحة كورونا، في المقابل ستظهر نماذج أخرى أكثر تقدمًا، وعلى منظومات الابتكار التعلم المستمر من هذه المعارف، واختيار ما يتناسب مع متطلباتها، وتطوير فكر أصيل يمنحها الميزة التنافسية في العصر الرقمي، لأن عجلة الابتكار والتغيير لا تتوقف.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الاجتماعیة والبیئیة

إقرأ أيضاً:

جناح الأزهر بمعرض الكتاب يعرض الضوابط المنهجية للمعرفة والنظر عند أهل السنة

يقدِّم جناح الأزهر الشريف بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، في دورته الـ56 لزوَّاره كتاب "الضوابط المنهجية للمعرفة والنظر عند أهل السنة.. دراسة تأصيلية"، إعداد: وحدة التأليف بمركز الإمام الأشعري بالأزهر الشريف.

يعتبر هذا الكتاب بمثابة التقعيد لما يليه من إنتاج علمي، فقد ركز على الجانب المنهجي من خلال الضوابط المتعلقة بالمعرفة والنظر؛ لتكون مقدمة لأي بحث كلامي، تم تناول الضوابط من خلال ذكر موجزها وشرحها والنماذج التطبيقية عليها، وذلك من خلال 8 ضوابط.

الضابط الأول: "المعرفة ممكنة عقلا واقعة فعلا"، فقد قرر أهل السنة أن حقائق الأشياء ثابتة ردا على المشككين من السوفسطائية، ومنكري الحقائق، والقائلين بنسبيَّتها بوجه عام، مع الوضع في الاعتبار أن الاختلاف في الرأي والتعدد في الاتجاهات يدخل تحت مظلة الثوابت، وفارق كبير بين القول بإمكان المعرفة عقلا، وما لا يقع في دائرة النظر العقلي كحقيقة ذات الله تعالى وصفاته عز وجل.

الضابط الثاني: "أسباب حصول المعرفة ثلاثة: العقل الصحيح، والحواس السليمة، والخبر الصادق"، فالعلم إما أن يكون حاصلا من خلال الإنسان نفسه، أو لا، فإن كان من نفسه فالحواس والعقل، وإن كان من غيرها فالخبر، فالحواس من طرق وآلات المعرفة التي تمد العقل بالمعلومات، وبها يتعرف على مظاهر الإبداع في الكون ووجوه الحكمة فيه، وكان القيد بكونها سليمة للرد على المشككين في أداء الحواس، والعقلُ أحد أسباب حصول المعرفة، وسيلةٌ صادقة إذا تمت على شروطها، والمعرفة العقلية الصحيحة هي أساس صحة الحس والخبر، ولدور العقل المهم جعل أهل السنة والجماعة المعرفة العقلية واجبة، وليس معنى ذلك أن فيه الغنية عن النقل، فلا غنى للعقل عن توجيه الشرع وإرشاده. ومن أسباب حصول المعرفة: الخبرُ الصادق؛ لأن النص هو أصل الدين، وهو الكفيل بتحصين العقائد عن شرود العقول ومراوغات الخصوم، من أجل ذلك كان قطعيُّ النقل مقدَّمًا في الاعتبار عند أهل السنة على ظنِّيِّ العقل.

الضابط الثالث: "شروط إفادة الأدلة لليقين"                                   
إذ الدليل إما أن يكون نقليًّا أو عقليا، فالنقلي يفيد اليقين إذا ثبت قطعا لفظه ومعناه وأنهما مرادان للشارع الحكيم، والعقليُّ يفيد اليقين إذا ترتَّبت أحكامه على قضايا يكون التصديق بها ضروريًّا أو مكتسبات تنتهي إلى تلك الضروريات.

الضابط الرابع: "لا تعارض بين العقل والنقل"،                             فبعد أن اتضحت شروط إفادة الدلائل لليقين، كان هذا الضابط الذي يبين أنه لا تعارض بين صريح النقل وصحيح العقل؛ لأن النقل والعقل كلاهما يصدران من مشكاة واحدة وهي نور الحق سبحانه، وقد جعلهما الله طرقًا من طرق الهداية لعباده.

الضابط الخامس: "الأدلة النقلية عقلية أيضًا في وقت واحد"، يهتم هذا الضابط ببيان أن النصوص الشرعية تحمل بداخلها دلائل عقلية، بحيث لو صيغت هذه الأدلة بطريقة عقلية مجردة لم تخرج عن المعنى المراد من النص؛ لذا فهي دلائل شرعية عقلية في نفس الوقت.

الضابط السادس: "وجوب معرفة الله تعالى"   فمعرفة الله تعالى من خلال النظر واجبة على كل مكلف بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أجمعت الأمة على ذلك.

الضابط السابع: "العالم آية على وجود خالقه"، وقد تناول الأشاعرة هذا الضابط بعبارات متعددة، مصدرين به مباحثهم في هذا العلم الشريف، مستخدمين مصطلحات الحدوث، والإمكان، ودلالة الأثر على المؤثر، وبناء عليه تنوعت الطرق في الاستدلال على وجود الله سبحانه تعالى، فبعد بيان تحقق العلم بوجود الأشياء انتقل الأشاعرة إلى إثبات حدوثها وحدوث العالم بإطلاق؛ لما يعتريه من تغير، أو ترجيح للوجود على العدم وهو ما يعرف بدليل الإمكان الذي استخدمه بعض أعلام المدرسة، ولا بد للعالم من محدث من خارجه وهو واجب الوجود سبحانه وتعالى.

الضابط الثامن: (صحة إيمان المقلد) فالمقلد الذي يأخذ بقول الغير من غير أن يعرف دليله، فلا يخرج من دائرة الإيمان، وهذا ما دل عليه أعلام المدرسة الأشعرية الذين يبتعدون عن التكفير ما وجدوا إلى ذلك سبيلا، ولا ريب أن الخلاف في إيمان المقلد الجازم، وليس الظان أو الشاك فعدم صحة إيمانهما متفق عليها، والخلاف أيضًا بالنظر لأحكام الآخرة وفيما عند الله تعالى، أما بالنظر إلى أحكام الدنيا فيكفي الإقرار فقط ويجري عليه أحكام الإسلام في الدنيا.

وبهذه الضوابط المنهجية التي ضبطت منهج أهل السنة والجماعة العقدي يتضح لنا ما تميز به هذا المنهج الأغر من سمات توضع في ميزان فضله من وسطية واعتدال واتباع وعموم وشمول.

ويشارك الأزهر الشريف -للعام التاسع على التوالي- بجناحٍ خاص في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ 56، وذلك انطلاقًا من مسؤولية الأزهر التعليمية والدعوية في نشر الفكر الإسلامي الوسطي المستنير الذي تبنَّاه طيلة أكثر من ألف عام.

ويقع جناح الأزهر بالمعرض في قاعة التراث رقم "4"، ويمتد على مساحة نحو ألف متر، تشمل عدة أركان؛ مثل قاعة الندوات، وركن للفتوى، وركن الخط العربي، فضلًا عن ركن للأطفال والمخطوطات.

مقالات مشابهة

  • حضور واسع لذوي الهمم في ندوة حول تقنية "ديزي" بمعرض الكتاب
  • التوعوية بالمعايير الفنية والبيئية للمنازل قيد الإنشاء بالعوابي
  • مجمّع دبي للعلوم يدعم الابتكار خلال الحدث
  • مناقشة أثر الذكاء الاصطناعي في الاستدامة
  • "OpenAI" توجه اتهاما لشركات صينية بسبب "ديب سيك"
  • "OpenAI" تتهم شركات صينية بنسخ نموذجها للذكاء الاصطناعي
  • جناح الأزهر بمعرض الكتاب يعرض الضوابط المنهجية للمعرفة والنظر عند أهل السنة
  • المكتب الإقليمي لمجلس العلوم الدولي في مسقط .. الأهمية والطموح
  • الإمارات ومصر تبحثان آفاق التعاون المعرفي لدعم الشباب
  • جامعة صحار تشارك في "حوار المعرفة العالمي مسقط"