فراغ الكون هو الذي يعطي حياتنا المعنى
تاريخ النشر: 5th, November 2024 GMT
أخطأ نيتشه حينما قال: إذا ما حملقت في الهاوية لوقت طويل فإن الهاوية سوف تبادلك حملقة بحملقة. فالحق أن الفراغ يبقى على صمته، بلا هوادة، ويبقى مفزع الجسامة. ولكننا حينما نشخص إلى السواد اللانهائي الذي يحدد شسوع كوننا، نجد خيارا مطروحا أمامنا. فبوسعنا إما أن نتراجع خائفين منصرفين عن مواجهة إنسانيتنا لذلك الرعب الكوني الخالص، أو أن بوسعنا أن نحوِّل سواد الكون إلى نور يضيء التفرُّد في كل شيء مما نعرفه هنا على الأرض.
أنا عالم فلك، من العلماء الذين يدرسون نشأة الكون وتاريخه وتطوره. وقد أنفقت عمري بحثا في جزء خاص من الكون يطلق عليه الفراغات الكونية، وهي تلك المساحات الشاسعة من اللاشيء التي تمتد بين المجرات. وأغلب كوننا فراغ، فقرابة 80% من حجم الكون مصنوع من لاشيء على الإطلاق. وفقا للحساب الدقيق للوفرة الكونية، فإن كوكبنا والحياة التي نجدها عليه تساوي في الأساس صفرا. فيا لمنتهى الضآلة. إن هي إلا ذرة من الأزرق والأخضر عالقة في محيط من الليل، وإن هي إلا نتفة ضئيلة من الصخر والماء تدور في فلك نجم من النجوم. وقد عملت القوى الكبرى التي تشكل كوننا على إنماء هذه الفراغات على مدار مليارات السنين، فإذا بوحشيتها الراهنة تبرز هذه الضآلة وتزيدها وضوحا. ودعكم من الكواكب والنجوم، فعلى هذه النطاقات الهائلة، تبدو حتى المجرات العظيمة نفسها محض نقاط من الضوء. وثمة غواية عند مواجهة النطاق الحقيقي للكون الفارغ تدعونا إلى أن ننظر إلى عالمنا الضئيل نظرة عدمية، وإلى أن نشعر بأن أعظم إنجازاتنا لا يرقى إلى شيء، وأن تاريخنا أهون من أن يترك أثرا، وأن همومنا ومخاوفنا جميعا عديمة الشأن، وأن إنسانيتنا نفسها شديدة الهوان. لقد أنفقت سنين أعمل على فهم ما يمكن أن تعلَّمه لنا الفراغات الكونية عن الكون الأوسع وتاريخه. وفي مسار دراستي، تعلمت أن أرفض تلك الغواية العدمية. نعم، الكون يغلب عليه الفراغ، ولكننا عثرنا على كثير من الأعاجيب في تلك المساحات العظيمة. فالفراغات ببساطة غير موجودة، إنما هي تحدد المجرات وتبرز التباين بينها. وخصائص تلك الفراغات ـ أي أشكالها وأحجامها وما إلى ذلك ـ تعكس القوى الغامضة التي تحكم تطور الكون. وداخل هذه الفراغات نعثر بين الحين والآخر على مجرة متقزمة معتمة كأنها واحة في صحراء. وقد تبين لنا أن الفراغات تفيض بطاقات كونية قد تطغى في يوم من الأيام على بقية الكون. صحيح أن كوكب الأرض ـ من الناحية الكونية ـ ليس بالضخم ولا بطويل العمر. ولكن ما تلك إلا وسيلة واحدة من وسائل قياس الأهمية. فبالمقارنة مع الفراغات، ثمة شيء خاص يجري على كوكبنا. وبرغم عقود من البحث، لا تزال الأرض هي المكان الوحيد المعروف في الكون كله الذي ترفع فيه كائنات عاقلة أعينها إلى السماء في عجب. كوكب الأرض هو المكان الوحيد المعروف الذي توجد فيه الإنسانية، والذي (يمكن) أن توجد فيه الإنسانية. وهو المكان الوحيد المعروف الذي يوجد فيه الضحك والحب والغضب والبهجة. وهو المكان الوحيد المعروف الذي يمكن أن نعثر فيه على الرقص والموسيقى والفن والسياسة وعلم الفلك. وكل ما لدينا من خلافات وغيرة وتعقيدات جميلة هي التي تجعل منا بشرا ليست عديمة المعنى. ووجود الفراغات الكونية وهيمنتها هما اللذان يضمنان النقيض، والقصص والتجارب التي نملأ بها حياتنا فريدة لأنها لن تحدث أبدا في الشسوع الخاوي الذي يتألف منه أغلب الكون. ولقد تعلمت أن الدروس التي نتعلمها من فراغات الكون موجودة أيضا في فراغات حياتنا. فالفراغات تصقل وتحدد، وتنشئ التقابل، وتمتلئ بالإمكانيات. والألم الذي نحس به من جراء خسارة هو آخر تذكرة لنا بهبة الحياة التي نكن لها أعمق الحب. والصمت في مواجهة عرض يتلألأ بالتوقع المحتدم. واختيارنا أن ننصرف عن الأنباء الباعثة للتوتر ضروري ليتيح لنا التركيز على كل ما هو مهم. لقد فهم الفنانون والفلاسفة منذ أمد بعيد قوة الفراغ. فالشاعر والراهب البوذي في القرن الثاني عشر سايجايو تأمل الفجوات القائمة فيما بين قطرات المطر المتساقطة فلاحظ أن السكتات فيما بين أصواتها مهمة بقدر أهمية القطرات نفسها، إن لم تعلها أهمية. والموسيقي جون كيج تحدانا بمقطوعته (4ʹ33)، وهي مقطوعة مؤلفة كليا من الصمت، تنشئ تجليا للفراغ يسعى الجمهور إلى ملئه بالسعال المحرج والضحك المتوتر، فيصبح ذلك في ذاته موسيقى. والمعماري الهولندي ريم كولهاس احتفى باستعمال الفضاءات السلبية قائلا: «حيث يوجد اللاشيء، يكون كل شيء ممكنا». والفراغ في رأي المحلل النفساني كارل يانج هو فضاء نفسي لا بد أن ندخل إليه لتحقق قدراتنا الكاملة ونصوغ لأنفسنا حياة جديدة. وبعد مليارات السنين من الآن سوف تتضخم الشمس ويستحيل كوكب الأرض غبارا. أما الفراغات الكونية، وهي حراس اللاشيء العظيم، فسوف تبقى، وتلك الحقيقة العارية، المزعجة في الوهلة الأولى، تمنحنا القدرة على الاعتزاز بما أوتينا من هبات. قل طرفة لأصدقائك. قاتل من أجل ما تؤمن به. اتصل بوالدتك. أبدع شيئا لم ير الكون مثيلا له من قبل. فما عناد الفراغات الكونية إلا دعوة لك إلى العمل. ولن يفعل الكون من أجلنا شيئا إلا أن يعطينا حرية الوجود، أما ما نفعله بذلك الوجود فمتروك كله لنا، ومسؤوليتنا هي أن نملأ الكون بالمعنى والغرض. |
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
أشهر 7 لوحات فنية غير مكتملة.. قصص وأسرار خلف الفراغات
عادةً ما تبدو اللوحات الفنية مكتملة عند النظر إليها لأول وهلة، لكن بعض اللوحات تظل غير مكتملة بسبب ظروف معينة؛ لأن الفنانون قد يتعرضون لأحداث خارجة عن إرادتهم أو يفقدون الإلهام، وفي بعض الحالات يختارون بأنفسهم ترك اللوحات غير مكتملة كوسيلة للتعبير الفني، ورغم عدم اكتمالها، تحتفظ هذه الأعمال بجاذبية فريدة لدى محبي الفن.
أشهر 7 لوحات فنية غير مكتملةاللوحات الفنية غير المكتملة تعتبر لغزا محيرًا، وتكثر التساؤلات حول سبب عدم اكتمالها، ولكل لوحة حكاية، فما قصة أشهر 7 لوحات فنية غير مكتملة؟، خلال السطور التالية نستعرض قصص وأسرار خلف هذه الفراغات، وفقًا لما نشره موقع «indiatimes».
لوحة جيمس هنتر بلاك.. مكانه غير معروف حتى اليوملوحة «جيمس هانتر بلاك» الزيتية للفنانة الأمريكية «أليس نيل» على الرغم من عدم اكتمالها قررت «نيل» أن طبيعتها غير المكتملة تنقل المشاعر التي أرادت إيصالها، فوقعت عليها وعرضتها في متحف «ويتني».
تعود قصة عدم اكتمال اللوحة إلى أن «نيل» لم تحظَ بتقدير كبير طوال معظم مسيرتها المهنية، وكانت غالبًا ما تدعو الغرباء للجلوس لرسمهم، وفي عام 1965، دعت «هانتر» الذي اكتشف حديثًا أنه قد تم تجنيده للخدمة في حرب فيتنام، وعكست الجلسة الأولى ملامح وجهه الكئيبة؛ حيث أكملت «نيل» أغلب تفاصيل وجهه وحددت باقي جسدهـ إلا أن «هانتر» لم يحضر الجلسة الثانية، والغريب أن اسمه لم يظهر أبدًا في قائمة الجنود على النصب التذكاري لقدامى محاربي فيتنام.
لوحة مادونا ذات الرقبة.. بارميجيانينوجيرولامو فرانشيسكو ماريا مازولا، كُلف من قبل السلطات برسم صورة للسيدة مريم العذراء ويسوع لكنيسة جنائزية، وقضى سنوات في رسم لوحة السيدة العذراء ذات العنق الطويل قبل أن يموت بسبب الحمى في عام 1540.
لوحة أوسكار بيستوريوس.. الصورة المتقطعةأوسكار بيستوريوس المعروف بـ«بليد رانر»، كان بطلًا في نظر الكثيرين لأنه تحدى إعاقته، وولد دون عظمة الشظية في كلتا ساقيه، وعلى الرغم من ذلك فاز بـ6 ميداليات ذهبية في الألعاب البارالمبية، وكانت هيمنته كبيرة مقارنة بالرياضيين البارالمبيين الآخرين حتى أنه تنافس في سباق 400 متر في الألعاب الأوليمبية الصيفية لعام 2012 وهو أول شخص مبتور الساقين يفعل ذلك.
واحتفالًا بهذا الحدث، كلفت الفنانة الروسية «ناتالي هولاند» برسم عدة صور لـ«بيستوريوس» والصورة الـ3 التي أرادت أن تظهره فيها منتصرًا، هي التي لم تكتمل بعد، ورسمت وجهه وذراعيه وحينها انتشرت أنباء بأن بـ «يستوريوس» أطلق النار على صديقته وقتلها؛ وعجزت عن إكمال الصورة، فظلت متجمدة في الزمن.
لوحة الطريق المنعطف.. الأقل هو الأكثربول سيزان هو رسام غالبًا ما طرحت معظم أعماله اللاحقة سؤال «متى تنتهي اللوحة؟»، لأنه كان يخشى أن تؤدي ضربة فرشاة خاطئة واحدة إلى إفساد القطعة بأكملها. لذا، فإن الكثير من أعماله اتبعت أسلوب الانطباعية القائم على مبدأ «الأقل هو الأكثر»، بمعنى أنه كلما قلت العناصر في اللوحة زاد معناها، وتركت أعماله اللاحقة، مثل لوحة «Turning Road»، أقسامًا كاملة من القماش فارغة، مما أبرز الطلاء المتبقي. يعتقد البعض أن هذا كان غير مقصود وأن ضعف بصره أدى إلى تفويت أجزاء من الصورة، بينما يرجح البعض الآخر أن جمال العمل الفني يكمن في عين الناظر.
لوحة فيكتوري بوغي ووجي.. السبب الوفاةاشتهرت أعمال الفنان الهولندي بيت موندريان التجريدية في جميع أنحاء العالم بالطريقة التي تنقل بها تخطيطات المدينة باستخدام الألوان والأشكال الأساسية. لم تُكتمل لوحة «Victory Boogie Woogie» بسبب وفاة موندريان المؤسفة جراء الالتهاب الرئوي في عام 1944. ومن خلال النظر عن كثب إلى اللوحة، يمكن رؤية أن الخطوط الأكثر جرأة وبساطة قد استُبدلت بمربعات أصغر وأكثر حيوية من الشريط اللاصق مع تطور العمل، مما يعكس التأثيرات الموسيقية.
كما أثار بيع هذه اللوحة، التي تُعرض في متحف «Gemeente museum» في هولندا، مقابل 40 مليون دولار في عام 1998 جدلًا واسعًا عندما اتضح أن المال تم التبرع به من قبل البنك المركزي الهولندي، مما أثار تساؤلات حول ما إذا كانت قيمتها الحقيقية هي 40 مليون دولار.
لوحة معاهدة باريس.. رفض الوفد البريطانيفي 30 نوفمبر 1783 اجتمعت الوفود الأمريكية والبريطانية من مفوضي السلام في باريس لتوقيع معاهدة أنهت الحرب الثورية، وكان بنيامين فرانكلين» و«جون آدامز من بين المندوبين الأمريكيين، ووفقًا للقانون والتقاليد الأمريكية، فإن ما كان ذات يوم مستعمرات أمريكية لم يعد كذلك في الـ4 من يوليو 1776، لكن البريطانيين لم يعترفوا رسميًا بالانفصال حتى دخلت معاهدة باريس حيز التنفيذ.
وللاحتفال بمعاهدة باريس تم تكليف الفنان التاريخي «بنجامين ويست»، بتخليد ذكرى توقيع المعاهدة، بذل «ويست» قصارى جهده، لكن الوفد البريطاني رفض أن يرسم لأنه شعر أن الهزيمة كانت مخزية، وبسبب ذلك تحتوي اللوحة على مساحة فارغة كبيرة، وشعر «آدمز وفرانكلين» بسعادة غامرة لرفض المندوب البريطاني الجلوس لرسم الصورة، وعندما عاد جون آدمز إلى الولايات المتحدة أخذ الصورة معه إلى منزله وعلقها على الحائط، ويعتقد أنها عُلقت ذات يوم في البيت الأبيض أثناء رئاسة آدمز.
عبادة المجوس.. لوحة العشاء الأخير السببترك العبقري ليوناردو دافنشي لوحة سجود المجوس للطفل يسوع غير مكتملة، والتي أعاد رسمها بعده «فيليبينو ليبي»، إذ تلقى «دافنشي» في عام 1481 تكليفًا من الرهبان برسمها في مذبح كنيسة «سان دوناتو في سكوبيتو»، وتعهد بالانتهاء منها في غضون 30 شهرًا، ولكن في نفس الوقت كُلف برسم لوحته الشهيرة «العشاء الأخير»، وبالتالي ترك لوحة المجوس غير مكتملة وغادر إلى فلورنسا.