مؤيد الزعبي

لو أعدنا النظر بواقع حياتنا اليوم قياسًا على قول المتنبِّي: «وَخَيْرُ جَلِيْسٍ في الزّمانِ كِتابُ»، لوجدنا أنه أخطأها هذه المرة؛ فالكتاب تحوَّل لصورة أو فيديو يُعرض على الهاتف المحمول "الموبايل"، أو شاشة أيًا كان حجمها، وقريبًا سيلمع على عدسات نظاراتنا، ومن بعدها سيدخل لعقولنا عبر الشرائح والمجسَّات، فنحن نعيش في عصر الصُورة لا عصر الكلمة، ولم تعد النصوص قادرة على إشباع رغباتنا وطموحاتنا في التسلية، ولم تعد وسيلة محببة للعلم والتعلم، وباتت الصور والإنفوجرافيك (الرسوم البيانية) والفيديوهات أقرب لقلوبنا وعقولنا.

لهذا سنتناقش أنا وأنت عزيزي القارئ، فيما إذا اخطأ المتنبي أم لم يُخطئ؟

لكن قبل أن أبدأ دعني أخبرك بأنني لن اتناول موضوع تراجع قيمة الكِتَاب، إنما تراجع الكلمة والنص مقابل الوسائل المرئية، وعن دخول الذكاء الاصطناعي التوليدي وكيف سيؤثر على مكانة النص في قادم الوقت.

عندما عبَّر المتنبي واصفًا الكتاب بأنه خير الأصدقاء وخليل الإنسان في تعمُّقه الفكري أو صولاته وجولاته في العلوم والأدب وحتى السفر للماضي والمستقبل، لكن بات اليوم الهاتف المحمول أو الموبايل هو خليل الإنسان بالمعنى الحرفي للكلمة، هو الذي يرافقك أينما حللت وترحلت، وهو نفسه الذي يطير بك عبر الأزمان؛ ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وهو ذاته ما تشاهد عليه كل ما تريده، ولو احتجت لشيء فأول ما تقوم به أن تُخرج هاتفك من جيبك أو حقيبتك لتستعين به. وغدًا عندما تُصبِح أدوات الذكاء الاصطناعي هي الحاضرة في أغلب مفاصل حياتنا حينها سيكون صديقنا الكتاب منسيًا في ركن الزاوية. وسنقول إن هذا النص من هذا الكتاب أو من ذلك لكن وسيلتنا في استقبال المعلومات أو إرسالها لم تعد أوراقًا وحروفًا وكتابات، إنما تحولت لصور وفيديوهات وأصوات وشروحات ممزوجة بالقليل من النصوص؛ فالنص بات غير جذاب، كما ذكرت لك في البداية، وبات دوره مقتصرًا على العناوين أو التوضيحات البسيطة.

قد تقول إنني أُبالغ في هذا الطرح، لكن تفكَّر معي- عزيزي القارئ- بأننا تحوَّلنا للعالم الرقمي، وأقصد هنا دخول الكمبيوتر والانترنت لحياتنا بهذا التوسع والشمولية منذ ما يقرب من 20 عامًا فقط؛ أي إن الكِتَاب بات يتراجع دوره كناقل للمعلومات، مقابل الوسائل الحديثة بسرعة غير مسبوقة. واليوم ومع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي ستتغير المُعادلة، فلم نعد بحاجة لأن نبحث في الكتب ولا في النصوص؛ بل كل ما سنطلُبه أن يُلخِّص لنا النصوص ويعطينا "الزبدة"، يعطينا الملخص، يعطينا أقل عدد من الكلمات. وفي قادم الوقت سنطلب منه أن يُحوِّل لنا تاريخنا المعرفي من كُتب ونصوص لصور وفيديوهات، ويُكمل مسيرتنا البشرية التي بدأناها بتحويل كل إرثنا وموروثنا العلمي والفلسفي والفني لموروث رقمي، يظهر على الشاشات بمختلف أشكالها وأحجامها واستخداماتها، فمع كل هذا يجدر بنا أن نتساءل إلى أين يتجه المستقبل؟!

ثمّة إشارة واضحة بأن الذكاء الاصطناعي سيساعدنا كثيرًا في تعزيز قدراتنا البشرية في توليد النصوص المعرفية، خصوصًا مع تطور أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي، وبات بالإمكان لأي شخصٍ أن يكتب كتابًا في يوم واحد فقط. وفي المقابل تتجه البشرية إلى وسائل بصرية في تلقي المعلومات والرسائل وحتى في تبسيط العلوم؛ وصولًا لدخولها في أنظمة التعليم فبات لدينا مدارس رقمية وكتب رقمية وفيديوهات تعليمية وباتت وسيلة فعالة لنقل المعرفة. وأنا هنا لا أُنكر هذا الأمر، إذ إنني واحد ممن يحصلون على معلوماتهم بهذه الطريقةـ لكن طرحي هنا لندرك أين نحن من لغات وكلمات وحروف، بتنا نستسيغ تداولها وتناولها بشكل مختصر وصغير والفجوة تتسع يومًا بعد يوم.

في السياقات الأكاديمية والعلمية حتى الآن مازال التوثيق والتحليل الكتابي من أهم وسائل التواصل؛ فالنصوص المكتوبة توفر التفاصيل، والاستدامة، والدقة والموثوقية التي يصعب ايجادها في جميع الوسائل البصرية، وأنا أقول إنه حتى الآن، ولكن ماذا سيحدث لاحقًا يكون مغايرًا، فلن يبقى الكتاب مصدر توثيقي للأبد، ولن يبقى خير جليس؛ فالموبايل وما يستحدث من تكنولوجيا قادمة ستكون هي خير جليس هذا شيء حتمي لا نقاش فيه، فلن تقول لي إن الكتاب سينافس نظارات الواقع المعزز التي تدخلك في قلب الحدث صوت وصورة، ولن يصدم أمام عوالم الميتافيرس القادمة، ولن يصمد أيضًا أمام شرائح مدمجة بعقولنا ستوفر لنا التسلية والمتعة التي نريدها دون أن نحرك ساكنًا، ولكن يكون الكتاب هو خليلنا مع كل هذه التطورات.

ما أريده- عزيزي القارئ- بأنه بات من الواجب أن نحمي إرثنا وموروثنا الفكري الذي نقلناه عن أجيال وعقول سبقتنا وبات من الواجب أن نحفظ مكتباتنا وكتبنا ولا أقصد هنا أن نحولها لكتب رقمية فنحافظ عليها من الضياع إنما علينا أن نفكر بأن الإنسان عاش الآلاف من السنين وكان النص والكلمة وسيلته للتعبير والشرح والنسخ والتناسخ والاستفاضة والتراسل والتواصل وكل هذا تبدل بأقل من 20 عامًا فما هو حالنا بعد 20 عامًا من الآن، في وقتها سوف التقي بك عزيزي القارئ لأقول لك إن الكلمة باتت نادرة في عصر باتت فيه للصورة والفيديو، طريقتنا لنتواصل، وربما تكون الإشارات الإلكترونية التي تدخُل عقولنا هي وسيلتنا لنتواصل، وننقل معارفنا دون نص أو كلمة أو كتاب، ولا حتى صورة ولا فيديو ولا صوت.. حينها سنخطئ كلنا في استنتاجاتنا ليس فقط المتنبي!

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

الحوار مع الذكاء الاصطناعي قد يدفع الفرد للانتـ.حار.. كيف ذلك؟

قال الدكتور أسامة عبدالرؤوف، عميد كلية الذكاء الاصطناعي، إنّ حادث انتحار مراهق في الولايات المتحدة الأمريكية بسبب تأثره بحوار مع أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي له أبعاد كثيرة سواء في اتجاهات تطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي، أو الاتجاهات التعليمية، أو النفسية، موضحا أنّ الحوار مع أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي يفوق الـ18 عام.

وأضاف «عبدالرؤوف»، خلال لقائه مع الإعلاميين محمد الشاذلي وجومانا ماهر، ببرنامج «صباح الخير يا مصر»، المذاع على القناة الأولى والفضائية المصرية، أنّ المراهق المنتحر كان في عمر 14 سنة واندمج في حوار مع شخصية خيالية على أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي، مشيرا إلى أنّ المراهق ارتبط بالشخصية وأدمن الحديث معها، لكن تطورت اللعبة وأعجبت الشخصية بملك وتزوجت منه، بالتالي شعر الطفل بأنّه واقع حزين، مما دفعه للانهيار والانتحار.

وتابع: «حادث الانتحار يعطينا مؤشر لوجود اندماج شديد بين الإنسان وشخصية الذكاء الاصطناعي لدرجة تجعل الشخص ينسى أنها مجرد شخصية مفتعلة و«أنيميشن»، لكن العلاقات الإنسانية مع الأسرة والأصدقاء والحوار الطبيعي معهم يجنب الشخص اللجوء للحوار مع شخصية افتراضية على الذكاء الاصطناعي».

مقالات مشابهة

  • تطوير كاتب سيناريو آلي باستخدام الذكاء الاصطناعي
  • اختبار «جوجل» الجديد ومواجهة أدوات الذكاء الاصطناعي
  • من سيفوز بالانتخابات الأميركية؟.. هذا جواب الذكاء الاصطناعي
  • نسب احتيال تصل 60%.. الذكاء الاصطناعي يهدد الأمن الرقمي
  • أمازون تستخدم الذكاء الاصطناعي لتلخيص ما تشاهده
  • الذكاء الاصطناعي في خدمة التنمية الإماراتية
  • بين التلاعب والشفافية.. هل يغير الذكاء الاصطناعي مسار الانتخابات الأميركية؟
  • الحوار مع الذكاء الاصطناعي قد يدفع الفرد للانتـ.حار.. كيف ذلك؟
  • تايوان.. ركيزة مستقبل الذكاء الاصطناعي بقيمة 1.3 تريليون دولار