الانتخابات الأمريكية وورقة الحرب في المنطقة
تاريخ النشر: 5th, November 2024 GMT
هو موسم إعادة إطلاق مقولتي الشهيرة "اليوم الأمريكيون يختارون بين فيل يجثم على صدر العالم أو حمار يسير شؤونه".
لم تحظ الانتخابات الأمريكية، كما كل استحقاق، بهذا الزخم الذي تحظى به في العالم عامة، وفي عالمنا العربي خاصة، فأزيز طائرات نتنياهو أصمت آذان العالم عن صرخات الضحايا في غزة وبيروت، ودخان بارود مدافعه أعمت مؤسساته الدولية من أن ترى أشلاء الأطفال والنساء، أما الشعوب العربية فمشغولة بتصنيف موقف إيران من المقاومة، ودورها بين الجدل والإنصاف.
ولأن الأمريكيين هم ملوك التسويق والدعاية، حيث يستطيع الأمريكي، كما فعل ولا يزال، أن يبيعك الوهم، بل ويجعلك تتحمس له، وتنصح غيرك بشراء الوهم من العم سام، إذا ما قورن بالوهم المبيع في الأسواق الصينية، وفي توقيت كتوقيت الانتخابات الرئاسية، تبارى كل من مرشح "الفيل" دونالد ترامب ومرشحة "الحمار" كامالا هاريس في كسب ود أصوات الأمريكيين العرب، بالوعد بأنهما قادران على وقف الحرب في غزة وبيروت.
تفاعلت الحملات الانتخابية الأخيرة لكل من دونالد ترامب وكامالا هاريس بشكل ملحوظ مع الجالية العربية الأمريكية، وقد سعى كلا المرشحين إلى استقطاب الأمريكيين العرب، فقد سعت حملة ترامب إلى استمالة الناخبين العرب الأمريكيين، لا سيما في ميتشيغان التي تضم عددا كبيرا من العرب. وقد صاغ رسالته حول وعده بالسلام، مدعيا أنه سينهي الحروب في الشرق الأوسط، وملقيا المأساة التي تعيشها المنطقة على سوء إدارة بايدن للأزمة.
وفي الجهة الأخرى من الطاولة، بذلت كامالا هاريس جهودا لإعادة التواصل مع الناخبين الأمريكيين العرب، فخلال حملتها الانتخابية، أعربت عن قلقها العميق إزاء الأزمة الإنسانية في غزة، والتي بدأت بالتنامي في لبنان، ثم تعهدت بالعمل على تحقيق السلام والأمن لكل من "الإسرائيليين" والفلسطينيين، وإن كانت وعودها تأتي وسط شكوك العرب الذين يشعرون بخيانة الحزب الديمقراطي، الداعم الرئيسي للاحتلال سواء على المستوى السياسي أو الاستخباراتي أو حتى العسكري المباشر.
حالة خيبة الأمل هذه التي يشعر بها الأمريكيون العرب تجاه كامالا وحزبها، وهو ما أدركه ترامب، كانت حافزا للأخير لمزيد من الجرعات المخدرة للناخبين العرب، مراهنا على ذاكرة السمكة التي تتحلى بها الشعوب، لعلهم ينسون أن محدثهم، ترامب، هو من نقل سفارة بلاده إلى القدس، وهو مهندس التطبيع العربي، وصاحب فكرة الـــ"ناتو" الشرق أوسطي الذي سيقوده الاحتلال الإسرائيلي، فموقف ترامب لا يبتعد كثيرا عن موقف كامالا وحزبها منذ بداية الحرب على غزة في أشهرها الثلاثة عشر.
لعلك الآن تحتسي القهوة، وأنت تتابع تحليلات المختصين في الشأن الأمريكي، ويهمك معرفة موقف الأمريكيين العرب من هذه الانتخابات، وأهم ما يهمك في ذلك، موقفهم من حرب الإبادة الجماعية التي تديرها تل أبيب برعاية أمريكية أوروبية، وكيف سيترجم في صناديق الانتخابات بعد ساعات. ولعل استطلاعات الرأي تؤكد حالة الاستياء الشديدة من هاريس وبايدن، حيث يرى العرب أنهما وإدارتهما متواطئون في مسلسل الإبادة الجماعية المستمرة حلقاته على مدى 396 يوما.
هذا الشعور تجاه المرشحين يحمل الناخبين العرب، بحسب سبر الآراء، إلى معاقبة هاريس، على الرغم من أن أغلب العرب في العادة يصوتون للديمقراطيين، لما يحمله برنامجهم دوما بكثير من الانفتاح تجاه المهاجرين واستيعابهم وتوفيق أوضاعهم القانونية، لكن الوضع هذه المرة يختلف مع التواطؤ غير المسبوق للحزب الديمقراطي مع الجرائم اليومية ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني.
ولأن الانقسام هو سيد الموقف العربي، حتى على مستوى الشعوب، فإن سياسة كل من الجمهوريين والديمقراطيين بتجاه إيران والمليشيات الموالية لها، سيكون لها دور في قرار الأمريكيين العرب، وهم يضعون ورقة التصويت في صندوق الانتخاب، وذلك لأن الظروف في المنطقة متباينة، بين من يرى أن الخلاص من الإيرانيين ومليشياتهم سيكون مكسبا استراتيجيا لكبح جماح التمدد الفارسي في المنطقة، وانتقاما لدماء الشهداء، فيما يرى المستفيدون من إيران ومليشياتها، أن المرشح صاحب الموقف الأقل تشددا مع إيران سيكون هو الأفضل، وعليه فإنهم يرون أن اختيارهم للحمار هو الحل.
وبين هذا وذاك يجب الانتباه لما هو أهم من حرب عابرة مرت قبلها عشرات، وستأتي بعدها، حتى ولو وعد المرشح الديمقراطي أو تعهد الجمهوري، الأهم في الحالة الأمريكية هي قوة الجالية العربية، التي تمثّل كتلة تصويتية حاسمة في ولايات مهمة مثل ميتشيغان، ومن ثم يمكن لموقف موحد أن يصنع الفارق، ما يعني أنه ببعض التنظيم وصناعة قيادة موحدة للجالية العربية، يكون ولاؤها للثوابت الشعبية، من دون تفرقة بين القضايا وزخمها الإعلامي، أن تؤثر إلى حد بعيد على نتائج الانتخابات الأمريكية القادمة. ولعلي ضربت مثالا بولاية ميتشيغان لوجود ما يقرب من 200 ألف أمريكي عربي فيها وحدها، وبالتالي يدرك كلا المرشحين أن معالجة مخاوفهم أمر حيوي لتأمين الأصوات.
وهنا أنا لا أريد للجالية العربية أن تحل مشاكلنا، فلها مشاكلها، أعانها الله، ولكن أريدها أن تكون ورقة ضغط، وقيمة مضافة لنصرة الشعوب المقهورة، التي تعاني تحت وطأة حكامها، فتصبح قوة محورية في تشكيل الديناميات الانتخابية، بل والمساهمة في تشكيل سياسة الرئيس الأمريكي القادم وحزبه تجاه العرب وقضاياهم الداخلية والاستراتيجية، ليروا حقيقة المصالح، عوضا عن النظرة للمنطقة من فتحة باب الاحتلال والداعمين له في المنطقة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الانتخابات العربي غزة ترامب هاريس الإسرائيليين إسرائيل امريكا غزة العرب انتخابات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الأمریکیین العرب فی المنطقة
إقرأ أيضاً:
الحرب ليست خيار الأقوياء دائما
يملك التاريخ الكثير من الحقائق التي تستحق أن نعود إليها بين فترة وأخرى؛ لأنها تشكلت عبر الكثير من الممارسات والتجارب وتحولت مع الزمن إلى ما يمكن أن نطلق عليه بالقواعد الثابتة. ومن بين حقائق التاريخ التي لا غنى من العودة إليها، لفهم مسار الأحداث فـي الشرق الأوسط، حقيقة تقول: «إن السلام لم يكن يوما غاية لأولئك الذين لا يستطيعون العيش إلا وسط الخراب». وإذا كانت هذه الحقيقة تصدق على الكثير من بقاع العالم المشتعل بالحروب فإنها فـي منطقة الشرق الأوسط أكثر صدقا بحكم التجارب العملية التي نعيش تفاصيلها منذ عدة عقود مضت. وابتلي الشرق الأوسط، بحكم الجغرافـيا والسياسة والأيديولوجيا، بعقليات لا ترى فـي التعايش خيارا يستحق العمل من أجله، بل تعتبر الحروب والصراعات بيئة طبيعية لاستمرار نفوذها. وتتضح هذه العقلية بشكل جلي فـي دولة الاحتلال الإسرائيلي ومن دار فـي فلكها من كيانات الشرق الأوسط ودوله. وهؤلاء لا يملكون مشروعا إلا الهيمنة والعمل على ضرب كل مواطن القوة والثبات فـي هذه المنطقة، ووسيلتهم لتحقيق ذلك تتمثل فـي إبقاء المنطقة مشتعلة وتشويه المحاولات التي من شأنها إطفاء الحرائق التي تُشعل هنا وهناك.. وهؤلاء لا ينظرون بعين الرضا لأي صوت يدعو إلى التهدئة، أو لأي طرف يسعى بصدق إلى نزع فتيل الأزمات أو لأي دولة تسعى للحفاظ على رسوخها وعلى قيمها ومبادئها.
ووسط هذا التداعي وهذا الخراب السياسي والقيمي وهذه الحرائق السياسية المشتعلة فـي كل مكان من المهم الحديث عن التجربة العُمانية لما فـيها مما يمكن أن يكون أنموذجا يستحق المتابعة.. فإذا كان للتاريخ حقائقه فإن لعُمان تجاربها، أيضا، والتي شكلت الحقائق التي تقوم عليها السياسة العمانية التي نعيشها اليوم، وأهم تلك الحقائق أن السلام لعُمان خيار استراتيجي، وهذا الخيار يقتضي الحكمة والصبر، والقدرة على التفاعل مع جميع الأطراف دون تحيز. وخيار السلام الذي نتحدث عنه فـي عُمان، دائما، لم يأتِ من العدم، ولكنه جاء بعد حروب طويلة قامت عُمان فـيها بدور الحامي للجزيرة العربية ليس ابتداء بتحريرها من الاستعمار البرتغالي وليس انتهاء بوقف المد الماركسي الذي حاول الولوج عبر استغلال رغبات حقيقية لأناس يريدون تغيير واقعهم نحو الأفضل. وبين هذه وتلك الكثير من الأدوار التي يعرفها التاريخ ويعرفها المنصفون من كتابه ومتأمليه؛ لذلك فإن خيار السلام تشكل عبر وعي طويل بماهية الحرب وبماهية الصراعات ودورها فـي تقويض الأمم والحضارات ونسف منجزاتها الإنسانية.
إن موقف سلطنة عُمان من صراع النفوذ فـي المنطقة ـ وهو صراع يتلاعب ببعض الدول والقوى ويسخرها من أجل تنفـيذ أجنداتها الهدامة بوعي منها أو كونها كيانات وظيفـية هذا دورها فـي الأساس ـ موقف واضح جدا، وهو البعد عن الاستقطابات وتمويل الحروب وصب الزيت عليها، وهي بذلك لا تسعى إلى تحقيق مكاسب سياسية آنية على حساب استقرار المنطقة، لكنها فـي الوقت نفسه تقف مع القضايا العربية والإنسانية العادلة؛ لأن فـي دعمها دعم للحق وتشهد التجارب التي باتت واضحة للجميع صدق هذا الطرح ومنطقيته.
إن ما يحدث فـي المنطقة اليوم هو تشكيل للشرق الأوسط الجديد الذي تحدثت عنه الأدبيات الصهيونية منذ عقود طويلة وما حدث ويحدث فـي قطاع غزة وفـي لبنان وفـي سوريا وفـي العراق وإيران هو فـي سياق ذلك التشكيل الذي بات أكثر وضوحا الآن ويمكن رؤيته.
لا يريد البعض الاعتراف أن وقف إطلاق النار ضرورة ملحة للمنطقة بأسرها وليس لقطاع غزة أو الفلسطينيين فقط؛ فعودة الحرب عودة لكل تجليات الأزمة: عودة إسرائيل لارتكاب جرائم الإبادة ضد الشعب الفلسطيني ما يعزز ويؤكد صورة إسرائيل فـي الوجدان الجمعي العالمي، كما أن عودة الحرب عودة لتفاقم التوترات فـي البحر الأحمر والهجمات التي تستهدف حركة الملاحة الدولية. ومن المستفـيد من هذا السيناريو؟ لا أحد. حتى القوى العظمى التي تدّعي حماية حرية التجارة تدرك أن تأجيج الصراع سيضر بمصالحها الاقتصادية على المدى الطويل.
أما على الجانب الفلسطيني، فإن الشعب الذي صمد أمام كل أشكال القمع لن يتراجع الآن، لأنه لم يعد لديه ما يخسره. فإذا نكثت إسرائيل عهودها كما تفعل دائما، وإذا استمرت فـي سياسة القتل والتهجير، فهل يتوقع أحد أن يسلم الفلسطينيون رقابهم؟ إنهم فـي هذه المرحلة أكثر وعيا بأن الحرب ليست خيارا، لكنها فرضت عليهم، وأن المقاومة لم تعد مجرد رد فعل، بل أصبحت قرارا استراتيجيا لشعب لم يعد يملك سوى الصمود.
وأمام هذا المشهد لا بد من دعم الجهود التي تسعى نحو السلام أينما كان، وبأي أوراق أمسكت، سواء فـي قلب الأزمة الحقيقية حيث الكيان الصهيوني أو حيث التداعيات التي أوجدتها تلك الحرب وتفاعلت معها. ولذلك تبرز أهمية القنوات الدبلوماسية التي يمكن فتحها والدخول عبرها من أجل تحقيق الهدف من السلام والاستقرار وهذه القنوات جوهر من جواهر العمل الدبلوماسي التي يعرفها أهل السياسة ويحافظون عليها حتى فـي أسوأ لحظات المواجهة؛ لأنهم يعرفون قيمتها والدور الذي تقوم به فكيف إذا كانت هذه القنوات بأيدي دول مشهود لها بالنزاهة وبالحياد وبصدق المبادئ.
ومن بين النماذج التي يمكن الحديث عنها القنوات التي بقيت فـي أيدي سلطنة عمان فـي العصر الحديث والتي عبرها استطاعت المساهمة فـي إطفاء الكثير من الحرائق التي كانت توشك على الاشتعال فـي منطقتنا وتم عبر تلك القنوات فتح حوارات حقيقية أثبتت للعالم أن السلام يمكن أن يصبح حقيقة بين أكبر الأعداء عندما تتوفر الرغبة والإرادة.
إن صوت العقل والحكمة الذي تتبناه السياسة العمانية خليق أن يُسمع لأنه ينطلق مع وعي عميق بماهية الحرب وماهية ما يحاك للمنطقة والنتائج التي يمكن أن يسفر عنها استمرار المشروع الصهيوني.
وستعلم إسرائيل ومن يدعمها فـي المنطقة ويأتمر بأمرها وينفذ أجنداتها أنهم جميعا يذهبون نحو الجحيم عاجلا أم آجلا. وقد مرّ الشرق الأوسط بفصول كثيرة من الدم والنار، وفـي كل مرة كان الحل يأتي فـي النهاية عبر طاولة المفاوضات، وسيأتي يوم يدرك فـيه الجميع أن منطق الصراخ لا يبني دولا، والتآمر لا يبني حضارات وإنّ صوت العقل، وإن كان خافتا، يبقى أقوى من ضجيج المدافع. وعُمان باقية على مواقفها ليس لأنها تبحث عن مجد سياسي، فمجدها منقوش على صخورها الصلدة، ولكن لأنها ببساطة تدرك أن التاريخ لا يرحم أولئك الذين يختارون الحرب وهم قادرون على تحقيق السلام.
عاصم الشيدي رئيس تحرير جريدة«عمان»