عن خطأ الرهان على الرئيس الأمريكي الجديد
تاريخ النشر: 5th, November 2024 GMT
د. هيثم مزاحم **
ينتخب الأمريكيون اليوم رئيسهم المقبل أو رئيستهم المقبلة وسط انقسام عامودي في المجتمع الأمريكي وتحولات داخلية تهدد استقرار الولايات المتحدة وأمنها وتماسكها السياسي والاجتماعي.
وبغض النظر عن فوز أيٍ من المرشحيْن: الجمهوري دونالد ترامب أو الديمقراطية كامالا هاريس، فإن سياسات الرئيس الأمريكي المقبل لن تؤثر على حيوات المواطنين الأمريكيين ومستقبلهم فقط؛ بل ستطال تأثيراتها مختلف أرجاء العالم بمختلف قاراته وخصوصًا منطقتنا العربية والإسلامية، أو غرب آسيا المعروفة بالشرق الأوسط، فضلًا عن أوروبا وشرق وجنوب آسيا.
وقد كشفت تجربة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في الحكم (2017- 2021) عن خطورة وحساسية موقع الرئيس أو مؤسسة الرئاسة في الولايات المتحدة، على الرغم من كلّ المتغيرات والتحوّلات الكبرى في الداخل الأمريكي وفي العالم، في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
وقد وصف أحد الكُتّاب الأمريكيين، وهو كلينتون روسيتر، الرئاسة الأمريكية بأنها "أخطر منصب على وجه الأرض"، مطلقًا عليها تسمية "الرئاسة الإمبريالية"، وهو وصف دقيق لا يجانب الحقيقة في شيء.
ووصِفت السلطات التي منحها الدستور الأمريكي لرئيس الولايات المتحدة بأنها أكبر مما تمتّع به نابليون أو قيصر؛ بل إنَّ الرئيس الأمريكي ليس رئيسًا لدولة عادية، وإنما رئيس أقوى دولة في التاريخ وفي العالم، التي تدير شؤونه منفردة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، القطب العالمي الآخر عام 1991.
ونتيجة الأوضاع التي مرّت بها المستعمرات البريطانية في شمال الولايات المتحدة، وكذلك المشكلات السياسية في القارّة الأوروبية، اتجه فكر القادة الأمريكيين الذين خاضوا حرب الاستقلال نحو صياغة دستور دائم للولايات المتحدة الأمريكية في العام 1787، شكّل بولادته وعاءً لمعظم الاختلافات داخل المجتمع الأمريكي الحديث التشكّل. ولعلّ أهم ميزة حملها هذا الدستور، هو الدور الواضح الذي أُعطِي لمؤسسة الرئاسة، والذي حدا بالبعض إلى طرح سؤال في غاية الأهمية على بنيامين فرنكلين (أحد أبرز المؤسّسين)، ومفاده: أي نظام نتّبع نحن، جمهوري أم ملكي؟ وقد ردّ فرنكلين: "جمهوري إن استطعنا الحفاظ عليه". وهذه الإجابة تكشف عن عِظم الدور الذي كان الآباء المؤسّسون يأملونه من مؤسسة الرئاسة، لا في الولايات المتحدة فحسب، بل في تزعّم الأخيرة للعالم الغربي في مرحلة تاريخية معيّنة، ثم تزعّمها للعالم كلّه في مرحلة تاريخية أخرى.
كما أن الصلاحيات الواسعة التي أعطاها مؤسّسو الدستور الأمريكي للرئيس لم تكن من فراغ، وإنما أعطوه إياها لاعتبار أن الرئيس هو ممثّل لكلّ الأمّة التي ستنتخبه بإرادتها الحرّة.
ولأن الدستور الأمريكي أَسند إلى السلطة التنفيذية صلاحيات واسعة، فإنها أخذت تمارس دورًا مهمًا في عملية رسم السياسة الخارجية، وكذا عملية صنع الاستراتيجية. وهو دور- وإن كان قويًا- لكنه غالبًا ما يتأثّر بنوعيّة الدور الذي تلعبه المؤسسات الرسمية الأخرى المساهمة في صنع السياسة الخارجية، وخصوصًا المؤسسة التشريعية؛ وكذلك الدور الضاغط الذي يمكن أن تمارسه القوى غير الرسمية التي تساهم في العملية، وخاصة مجموعات المصالح "اللوبيات Lobbies".
لقد أفضى تفسير مؤسسة الرئاسة لعِظم صلاحياتها الدستورية وإصرارها على ممارسة تلك الصلاحيات، إلى التنافس بينها وبين المؤسسة التشريعية، التي رأت أن مؤسسة الرئاسة تجاوزت سلطاتها، لتدخل في مواضيع هي في صلب صلاحيات السلطة التشريعية؛ فالتنافس الحاصل بين المؤسستين التنفيذية والتشريعية، تنافس تاريخي تعود جذوره إلى انطلاق الدستور الأمريكي. كما إن دور الآباء المؤسّسين لا يزال حاضرًا إلى اليوم في أذهان الشعب الأمريكي ورؤسائه.
وإذا كان تكوين الدستور خلال مؤتمر فيلادلفيا عام 1787، ونتائج الحرب الأهلية التي أعادت توحيد البلاد، والنظرة إلى دور رموز الأمّة (الآباء المؤسّسين وقادة الدولة الأمريكية)، قد أسهمت في تكوين النظام السياسي الأمريكي وتحديد شكله وتثبيت أركانه وإبراز مؤسساته، مما جعله إلى اليوم من أكثر الأنظمة استقرارًا، فإنه يمكن القول بعد كل ذلك إن النظام السياسي الأمريكي قد اتّسم بعدد من السمات ميّزته عن غيره من الأنظمة السياسية، وأبرزها الفصل بين السلطات أوّلًا، والعلاقة التبادلية بين السلطتين التنفيذية والتشريعية ثانيًا، وسمو الدستور ثالثًا (لا شرعية لأي قانون يتعارض مع مبادئه)، وأهمية دور جماعات الضغط والمصالح رابعًا، وتميّز مؤسسة الرئاسة خامسًا.
والواقع أن الدستور الأمريكي لم ينص صراحة على تميُّز مؤسسة الرئاسة، إلّا أن تفسير الرؤساء لصلاحياتهم، وعدم اعتراض المحكمة العليا بوصفها أعلى سلطة قضائية على ذلك، هو ما أفضى إلى أن تتميـّز مؤسسة الرئاسة.
وعليه، فإن مجمل تلك العوامل أضفت ميزة إضافية على مؤسسة الرئاسة، وهي ميزة التمتّع بصلاحيات غير مقيّدة، والتي رآها البعض بأنها أضفت صفة (الدكتاتورية المدنية) على الكثير من الرؤساء الأمريكيين؛ ذلك أنهم لم يكتفوا بما خوّلهم الدستور من صلاحيات عندما تبنّى نظام فصل السلطات (مع تداخل محدود ومنسّق فيما بينها)، وخوّلهم السلطة التنفيذية بأكملها، وإنما حاولوا تجاوز ذلك ليتداخلوا مع العملية التشريعية ويشاركوا الكونجرس عملية تشريع وإصدار القوانين والقرارات التي هي من اختصاصه حصريًا؛ وكلّ ذلك بعنوان أن أعمال الرؤساء هي لخدمة الأمّة.
عن طريق السلطات الممنوحة للرئيس في مدّة ولايته الانتخابية المحدّدة دستوريًا بأربعة أعوام، تنبثق الأجهزة والمؤسسات التنفيذية وسلطاتها، والتي تشكّل بمجموعها الإدارة الفيدرالية للدولة، أو ما يُصطلح عليه بمؤسسة الرئاسة التي خضعت في الحقب الزمنية المختلفة إلى عملية تطوّر وإعادة تشكّل مستمرّين. وتتفرّع السلطة التنفيذية إلى عدد من المؤسسات، ومنها الوزارات والوكالات التنفيذية والمجالس الاستشارية. وتتولّى وكالات متخصصة تنظيم بعض القطاعات التي ترتبط مباشرة بالرئيس، فيما يتولّى المكتب التنفيذي لرئيس الجمهورية إدارة شؤون المؤسسات.
كما إن المدى الواسع من الصلاحيات هو الذي يُضفي على الرئيس الدور المهم في صنع الاستراتيجية، وهو الذي يميّز بالتالي السلطة التنفيذية من باقي السلطات، باعتبار أن السلطة التنفيذية مؤسسة ذات دور فاعل في صنع الاستراتيجية الأمريكية. أما منصب نائب الرئيس فهو أُنشئ لضمان انتقال سلمي منتظم للسلطة في حالة فراغ منصب الرئيس، جرّاء الوفاة أو الإقالة أو الاستقالة.
المؤسسة التشريعية (الكونجرس) يمنحها الدستور صلاحيات واسعة، ولها صلاحيات في مجال صنع الاستراتيجية؛ أي إصدار القوانين، وإنشاء الجيوش، وإعلان الحرب، وصلاحية تنظيم التجارة مع الدول الأجنبية، وإقرار الميزانية العامة. لكن التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية يبقى توازنًا نسبيًا. ولهذا، يبدو على الأرجح، وفي مجال صنع الاستراتيجية تحديدًا، بقاء الغلبة في يد السلطة التنفيذية.
المؤسسة القضائية، المتمثّلة في المحكمة العليا لديها صلاحيات ضمن إطارين أساسيين: الأول هو مراقبة الاتحاد؛ بمعنى الاطمئنان إلى احترام توزيع الاختصاصات التي نصّ عليها الدستور بين السلطات الفدرالية وسلطات الولايات؛ والإطار الثاني هو مراقبة مدى موافقة تصرفات السلطتين التنفيذية والتشريعية للدستور، والحيلولة دون تجاوز إحداهما لاختصاصات الأخرى.
ويبقى الدور المهم للقوى غير الحكومية المؤثّرة في صنع الاستراتيجيات الأمريكية، التي تُعدّ أحد أهم مصادر الضغوط الخارجية التي تُمارَس على قرارات الكونجرس والرئيس معًا، والتي تعمل على ممارسة التأثير، إن كان عبر وسائل الإعلام التي تملكها أو تملك أسهمًا مؤثّرة فيها، أو عبر استغلال ظروف الانتخابات التشريعية أو الرئاسية، أو عبر الروابط التي تكون موجودة مع أعضاء الكونجرس، وتحديدًا في اللجان ذوات العلاقة بعمل ونشاط تلك القوى. ويأتي تأثير هذه المؤسسات عن طريق الرابطة المعقّدة من العلاقات بين السياسيين ومجموعات المصالح التي لها تأثير مهم في جموع الرأي العام الأمريكي.
وقد تراجع دور مؤسسة الرئاسة عام 1973، ولا سيما بعد إصدار الكونجرس لقانون سلطات الحرب، الذي حدّ كثيرًا من صلاحيات الرئيس الأمريكي؛ حيث أخذ دور مؤسسة الرئاسة في الانحدار لصالح صعود دور الكونجرس، وزيادة مساهمته في رسم السياسة الخارجية، بسبب ما لاح لمؤسسة الرئاسة من ضعف على إثر أحداث حرب فيتنام وفضيحة ووترغيت.
ولا شك أن حجم التباين الداخلي الذي يُطرح في الغالب في الاستراتيجيات الأمريكية مرجعه الإطار المصلحي والبراغماتي الذي يحكم السياسة الأمريكية، وهو ناجم عن إرث ثقافي يقبل حالة التعدديّة.
ويبقى الفكر الاستراتيجي السائد بين الدوائر المؤثّرة في القرار الأمريكي بتبايناتها (المحكومة في إطار التوجه الرأسمالي)، عنصرًا مؤثرًا في التوجهات الاستراتيجية ورؤى صانعي السياسة في الولايات المتحدة. لذلك، فليس من المستغرب تأثير هذه التباينات في إجمالي الاستراتيجية /الاستراتيجيات التي تنفّذها الإدارات المختلفة؛ بمعنى أنها تعكس مصالح مختلفة تشكّل بمجموعها البنية الثقافية للدولة؛ إذ بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي عام 1991، أدركت الولايات المتحدة عِظم المسؤوليات الملقاة على عاتقها تجاه أمن واستقرار النظام الدولي، إلّا أنها أرادت توظيف عناصر هذا النظام لصالح فرض أجندة الهيمنة العالمية.
ومسألة تحديد توجهات الفكر الاستراتيجي الأمريكي تخضع لعدد كبير من العوامل، ومن الخطأ الرجوع إلى الدستور الأمريكي فقط لتفسير ذلك. كما إن القول إن صنع القرار هو من احتكار الرئيس الأمريكي فقط، وهو في الوقت ذاته مسألة قابلة للاعتراض.
وهناك اتجاهان متكاملان في الولايات المتحدة، أحدهما دستوري والآخر واقعي، يفسّران عملية صياغة التوجهات الاستراتيجية. فدستوريًا، الرئيس هو الشخص الأول المسؤول عن صياغة التوجهات الاستراتيجية. أما واقعيًا، فإن تطوّر الحياة السياسية في الولايات المتحدة، وتوسع مصالحها، جعل صنع التوجهات، وفق التفسير الدستوري، غير مكتمل؛ ويمكن تصحيحه ما دامت هناك جهات رأت مصلحتها في توجيه السياسة الأمريكية، وصياغة خياراتها الاستراتيجية، ممّن لم يذكرهم الدستور صراحة. ويمكن تعداد عدد من مجموعات المصالح هذه: اللوبي الإسرائيلي، كارتيل شركات النفط، كارتيل شركات الأسلحة، كارتيل شركات الأدوية، الخ.
من هنا، فإن الرهان على شخصية الرئيس الأمريكي فقط لتأمل تغيير ما في السياسات والاستراتيجية الأمريكية، وخاصة تجاه منطقتنا العربية والإسلامية، هو رهان خاسر وخاطئ. فقد رأينا كيف غطّت إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن الإبادة الجماعية الصهيونية في قطاع غزة والعدوان الوحشي الإسرائيلي على لبنان، والمرشحة هاريس نائبة الرئيس وتشاركه في قراراته وهي موافقة على هذين العدوانين، مهما حاولت التظاهر بأنها تتعاطف مع الضحايا المدنيين الفلسطينيين أو اللبنانيين.
أما الجمهوري ترامب فهو قد بصم بأصابعه العشرة على المشروع التوسعي الصهيوني، ومنح الكيان الغاصب اعترافًا بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، واعتراف بضم إسرائيل للجولان السوري المحتل، وهو يدعم ضم غور الأردن والمستوطنات اليهودية في الضفة الغربية إلى الكيان المحتل، بصورة تتناقض مع قرارات الشرعية الدولية بل مع السياسات الأمريكية التقليدية على مدى ستة عقود؛ بل إنه صرّح مؤخرًا أنه مع توسيع مساحة إسرائيل في إشارة إلى تأييده لعمليات الضم للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 والتوسع عبر احتلال أراضٍ عربية أخرى. وهو سعى لإبرام اتفاقات أبراهام للتطبيع بين الكيان الغاصب ودول عربية من دون أن تقبل إسرائيل بحل الدولتين وقيام دولة فلسطينية مستقلة والانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967، خلافًا لمبدأ الأرض مقابل السلام، الذي قامت عليه عملية التسوية التي أطلقتها الولايات المتحدة عام 1991 في مؤتمر مدريد.
في المقابل، قامت إدارة بايدن باستكمال خطة ترامب ودعم التطبيع الإسرائيلي مع دول عربية، من دون الضغط على إسرائيل لتقديم حتى الفتات للفلسطينيين، بل دعمت بالأسلحة والذخائر والمال والإعلام والدبلوماسية عملية الإبادة الجماعية في قطاع غزة والعدوان البربري على لبنان، وهددت بالتدخل بأسطولها ومقاتلاتها لحماية الكيان من أي هجون من دول محور المقاومة.
وينبغي أن يكون الرهان العربي والإسلامي على دعم صمود المقاومة في فلسطين ولبنان، ورفض عمليات التطبيع مع الكيان، وتفعيل عمليات المقاطعة للشركات الداعمة لإسرائيل، والضغط الدبلوماسي والاقتصادي العربي والإسلامي على الولايات المتحدة والقوى العظمى الأخرى، كي تضغط بدورها على إسرائيل تحت طائلة العقوبات، حتى توقف عدواناتها على فلسطين ولبنان وسوريا واليمن وإيران، وترضخ لقرارات الشرعية الدولية وتنسحب من الأراضي العربية المحتلة في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة وسوريا ولبنان.
** رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية - لبنان
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
إمبراطورية بلا قائد... من الحاكم الفعلي في الولايات المتحدة؟
نشر موقع " لو ديبلومات" الفرنسية تقريرا سلّط فيه الضوء على طبيعة القوة الحقيقية في الولايات المتحدة، حيث لا يستأثر الرئيس بصنع القرار بشكل مطلق بل تلعب المؤسسات الفيدرالية وخاصة البيروقراطية والإدارات الأمنية والعسكرية دورا أساسيا في توجيه الاستراتيجية الأمريكية.
وقال الموقع، في هذا التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن السلطة الإمبريالية الأمريكية لا تكمن في البيت الأبيض - على عكس ما يُعتقد - حتى عندما يحظى بدعم أغلبية الكونغرس، بل الأجهزة الضخمة للإدارة الفيدرالية هي التي تحدد مسار الأمة مما يضمن الاستمرارية الاستراتيجية للهيمنة الأمريكية.
يُنظر إلى انتخاب الرئيس على أنه محطة مفصلية في المسار الإمبريالي، لكنه في الواقع لا يعدو كونه تغييرا في التمثيل والسرد السياسي أكثر من كونه تغييرا حقيقيًا في النهج، حسب التقرير.
وأشار الموقع إلى أن الانتخابات الأمريكية وتنصيب الرئيس الجديد دائمًا ما يثيران اهتمامًا كبيرًا لما يكتسيانه من أهمية في مسار القوة العظمى المهيمنة عالميًا. لكن في الواقع، يعد مدى تأثير الرئيس في الولايات المتحدة على السياسات العامة والمسار الاستراتيجي للبلاد مبالغًا فيه إلى حد كبير.
وقال الموقع إن أكبر جهة توظيف في العالم ليست إحدى الشركات متعددة الجنسيات الخاصة التي تعمل على نطاق عالمي مثل "وول مارت" أو "ماكدونالدز" أو "كوكاكولا"، وليست أيضًا جيش أحد البلدين الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم، الهند والصين، بل هي وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) التي تضم ما يقارب ثلاثة ملايين موظّف. وهذا الرقم لا يشمل الموظفين "السريّين" أو العاملين في الشركات الخاصة التي تعتمد عليها الوزارة، مثل المتعاقدين.
تعد أجهزة المخابرات الأمريكية بدورها كيانا واسعا ومعقدا للغاية، حيث تتألف من سبع عشرة وكالة استخباراتية أبرزها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) التي غالبًا ما تختلف في رؤاها وتكتيكاتها وتتنافس بشدة فيما بينها. ونظرًا للشبكة الواسعة من المنظمات ومراكز الأبحاث والشركات المرتبطة بها، يصعب تحديد العدد الدقيق لإجمالي العاملين في هذا القطاع.
قدّمت صحيفة "واشنطن بوست" في سنة 2010 تقديرًا تقريبيًا يفيد بأن أكثر من 800 ألف شخص لديهم حق الوصول إلى معلومات حساسة تتعلق بالأمن القومي. لكن هذا الرقم لا يأخذ بعين الاعتبار العدد غير المحدد من العملاء المنتشرين في جميع أنحاء العالم الذين لا تظهر أسماؤهم في السجلات الرسمية بسبب عملهم كعملاء سريين أو متخفين.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار المنظومة الفيدرالية الأمريكية بكاملها، فإننا نتحدث عن أكثر من خمسة ملايين موظف مسجلين، من بينهم آلاف المسؤولين الحكوميين الذين يشغلون مناصب رفيعة يدعمهم عشرات الآلاف من الخبراء الفنيين الذين يمتلكون مهارات متخصصة ويتولّون إدارة وتحمل مسؤولية المناطق الجغرافية الموكلة إليهم حول العالم.
ووفقا للتقرير، فإنه بغض النظر عن هوية الشخص الذي يشغل البيت الأبيض أو الانتماء السياسي للأغلبية في الكونغرس، فإن الآلة الضخمة للإدارة الفيدرالية تضمن الاستمرارية الاستراتيجية للإمبراطورية غير الرسمية التي تقوم على ركيزتين أساسيتين: السيطرة على جميع بحار العالم والهيمنة على أوروبا. للحفاظ على هذه السيطرة وتعزيزها، من الضروري تمامًا منع ألمانيا من التقارب الجيوسياسي مع روسيا والصين وكذلك منع بكين من فرض سيطرتها على بحر الصين من خلال الاستيلاء على تايوان. على هذا النحو، لن يكون بإمكان أي رئيس للولايات المتحدة مهما كان توجّهه السياسي أو أي أغلبية في الكونغرس التخلي عن هذه المصالح الاستراتيجية طويلة الأمد لأن الأجهزة الفيدرالية لن تسمح بذلك.
لكن التواجد في الخطوط الأمامية للحفاظ على الهيمنة العالمية وتعزيزها هو مهمة شاقة للغاية، وليس فقط بسبب حالة الحرب الدائمة التي تفرضها. فكما كان الحال مع الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية البريطانية اللتين سبقتاها، لا يمكن للولايات المتحدة الأمريكية تجاهل عاملين أساسيين يحددان مكانتها كقوة مهيمنة: العجز التجاري الهائل والتدفق الهائل للمهاجرين. العجز التجاري هو أداة ضرورية لإبقاء الدول التابعة اقتصاديًا، حيث تصبح أميركا المستهلك الرئيسي لمنتجاتها مما يضمن استمرار تبعيتها. أما الهجرة الجماعية، فهي ضرورية للحفاظ على مجتمع ديناميكي وتنافسي للغاية، والأهم من ذلك، إبقاء السكان في حالة شبابية عدوانية وعنيفة.
لكن التضحيات الاقتصادية الناجمة عن إلغاء التصنيع والاستيعاب المتواصل للمهاجرين بأعداد متزايدة والاستنزاف الناتج عن الحروب المستمرة، كلها عوامل أدت إلى تنامي شعور بالضيق والسخط داخل بين صفوف العرق المهيمن، وهو شعور يميز جميع الإمبراطوريات الكبرى في مراحلها المتأخرة. في الولايات المتحدة، بدأت ملامح هذا الاستياء بالظهور خلال الولاية الثانية لإدارة جورج بوش الابن، ومنذ ذلك الحين استمرت في التصاعد بشكل ملحوظ.
أورد الموقع أن دونالد ترامب يُعد تجسيدًا بارزًا للعرق الجرماني المهيمن، وقد تمكن من التعبير عن استيائه بوضوح. ارتكزت حملته الانتخابية على شعار "لنجعل أميركا عظيمة مجددًا" وهي تستند إلى ثلاثة أهداف رئيسية لمعالجة هذا الاستياء: إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة واستعادة الهيمنة الاقتصادية، تقليص تدفق الهجرة للحد من التأثيرات الثقافية والديموغرافية، وإنهاء الحروب الخارجية وإعادة الجنود الأمريكيين إلى الوطن.
لكن هذه الرؤية غير واقعية إلى حد بعيد لأنها تعني انسحاب الولايات المتحدة من إمبراطوريتها غير الرسمية والتراجع إلى عزلة قومية قديمة الطراز. وهذا أمر لن يسمح به الجهاز البيروقراطي للدولة، وهو ما أكده بوضوح خلال الولاية الأولى لترامب الذي اصطدم بصلابة "الدولة العميقة" التي حالت دون تنفيذ الكثير من سياساته.
لهذا تتمحور نوايا ترامب، رغم غموضها الكبير، حول تقليص نفوذ الإدارة الفيدرالية التي يصفها بـ "الدولة العميقة" - بمعنى سلبي - ورفع سلطة البيت الأبيض بدعم من الأغلبية في الكونغرس لإعادة تشكيل نهج أميركا الجيوسياسي نحو العزلة. لكن هذا الطموح يصطدم بعائق جوهري وهو استحالة تنفيذ نظام "التطهير الإداري" على عشرات الآلاف من البيروقراطيين المتخصصين، الذين يشكلون العمود الفقري للدولة. حتى لو نجح ترامب بمعجزة في هذا التحدي الضخم، فإن الهوية العميقة للأمة الأمريكية لن تتخلى أبدًا عن دورها كقوة عظمى مهيمنة عالميا.
وقال الموقع إن هنا تصطدم الدعاية الانتخابية بالواقع الجيوسياسي الصلب، حيث لا يمكن للرئيس بغض النظر عن سلطته ونفوذه أن يغيّر بسهولة الأسس الاستراتيجية التي تقوم عليها الهيمنة الأمريكية في العالم. لكن موظفي ما يُعرف بـ"الدولة العميقة" ينتمون في الغالب إلى التيار المهيمن، مما يجعلهم شديدي الحساسية والاستجابة لمشاعر هذا التيار وتوجهاته. وقد شكّل الهجوم على مبنى الكابيتول قبل أربع سنوات نقطة تحوّل كبيرة في المسار الإمبراطوري لواشنطن، حيث أن الأجهزة الحكومية لم تستهِن أبدًا بهذه الموجة الحادة من السخط التي اجتاحت العاصمة قادمة من عمق البلاد.
يوضح ذلك التغيير التاريخي في الموقف الذي بدأته الولايات المتحدة خلال إدارة باراك أوباما، والذي تسارع بشكل كبير في عهد جو بايدن، مباشرة بعد محاولة الانقلاب في 6 كانون الثاني/ يناير 2021. وقد قلّصت أمريكا إلى الحد الأدنى تدخلها بل وحتى وجودها في المناطق التي تعتبرها أقل استراتيجية، معتمدة على وكلائها المحليين لإدارة تلك الساحات بدلاً منها.
يعد الشرق الأوسط، حسب التقرير، مثالًا بارزًا حيث عملت الأجهزة الحكومية الأمريكية بشكل مكثف على تحقيق تقارب بين "إسرائيل" والدول العربية السُّنية بهدف احتواء إيران، مما أدى في النهاية إلى توقيع "اتفاقيات إبراهيم". وبنفس النهج، جاء الانسحاب من أفغانستان، لكن بطريقة "غير منظمة" – إن صح التعبير – حيث لم يكن هناك توافق بشأن الانسحاب وتسليم البلاد في الوقت نفسه إلى حركة طالبان، بل شهدت الساحة انقسامًا واضحًا بين الوكالات الفيدرالية الأمريكية المختلفة.
وفي منطقة الساحل الإفريقي، أدت إعادة تموضع واشنطن إلى فشل فرنسا في الحفاظ على جميع مواقعها، مما تسبب في خسارة بعض معاقلها التقليدية أمام نفوذ روسيا. وفي الوقت ذاته، كثفت الولايات المتحدة سيطرتها على المناطق التي تعتبرها استراتيجية، مثل ألمانيا وأوروبا الشرقية والشرق الأقصى.
وذكر الموقع أن فرض الرسوم الجمركية أو تبني سياسات تحفيزية للصناعة الأمريكية، التي بدأت في عهد "باراك أوباما"، واستمرت خلال الولاية الأولى لدونالد ترامب وتسارعت تحت إدارة جو بايدن لم يكن يهدف إلى تحقيق هدف وهمي أو غير اجتماعي متمثل في إعادة التصنيع كجزء من مشروع إمبريالي، بل كان الهدف منه تحقيق هدف استراتيجي واضح يتمثل في تقليص الفوائض التجارية الضخمة لكل من الصين وألمانيا.
تعتمد هاتان الدولتان بشكل رئيسي على تلك الفوائض للحد من القوى الانفصالية الداخلية القوية، التي لولاها لتفككت وحدتهما الوطنية. في الوقت نفسه، تساعد هذه الفوائض في تعزيز طموحاتهما الجيو-اقتصادية، سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي. ومع ذلك، لا يمكن للتأثير الجانبي الناجم عن إعادة التصنيع الجزئي الناتج عن هذه التدابير إلا أن يخفف من حالة السخط الاقتصادي داخل الفئة السكانية المهيمنة في الولايات المتحدة.
أشار الموقع إلى أن بناء جدار حدودي مع المكسيك، الذي بدأ في عهد إدارة أوباما ولا يزال مستمرًا منذ أربع سنوات، لا يهدف إلى وقف تدفق المهاجرين من أمريكا اللاتينية بل يسعى لتحقيق هدف إمبريالي بحت يتمثل في تسهيل عملية استيعاب المهاجرين من خلال إنشاء حاجز مادي يقطع روابطهم الثقافية مع وطنهم الأم.
نتيجة انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر والخطاب الافتتاحي الأول لدونالد ترامب يؤكّدان توجهًا هيكليًا مستمرًا منذ ما يقارب عشرين عامًا داخل المجتمع الأمريكي: وهو الشعور بالسخط داخل العرق المهيمن. فالولايات المتحدة القارية، التي يغلب عليها الأصل الجرماني والتي تتحمل العبء الثقيل للإمبراطورية، تشعر بالإحباط والغضب. إنها تحمل ضغينة تجاه السواحل و"مقاطعات" أوروبا الغربية - أو ما يُعرف بـ"القارة العجوز" - حيث تُعتبر هذه المناطق طفيليات تعيش على حسابها وتُصنف على أنها المستفيد الأكبر من "السلام الأمريكي" دون تقديم أي تضحيات ضرورية لحمايته. وقد تمكن الرئيس الجديد من استيعاب هذا الشعور بالغضب والسخط والتعبير عنه بمهارة، مما مكنه من تحقيق انتصار في المواجهة الانتخابية.
بعيدًا عن كونه نقطة تحول أو حتى بداية لعصر جيوسياسي جديد، فإن تولي رجل الأعمال النيويوركي الرئاسة في البيت الأبيض سيعزز الموقف الأمريكي الجديد الذي يتبناه الجهاز الفيدرالي منذ أواخر سنة 2010، لا سيما على مستوى السرد السياسي. سترتفع الرسوم الجمركية، خاصة تلك المفروضة على المنتجات الألمانية والصينية.
وبحسب التقرير، فإنه من المؤكد أن "الشركاء" الأوروبيين سيتم دفعهم لتحمل مسؤوليات أكبر داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) للمساهمة في الدفاع عن "السلام الأمريكي" ضد خصومه. ومع أن نبرة الخطاب حول هذه القضايا تتغير، إذ أصبحت أقل ودية مقارنة بالحكومة السابقة، إلا أن الجوهر لا يزال كما هو.