كثيرة هي الوجوه التي تعرَّت أمام دماء النساء والأطفال في غزة، وباتت مكشوفة أو مفضوحة بعد أن تخفَّت طويلا تحت ستائر الديمقراطية والليبرالية الناعمة. لقد أدت الإبادة الجماعية غير المسبوقة في التاريخ، إلى "فرز" المواقف على المستويين الشعبي والنخبوي في الدول العربية والعالم أجمع وداخل الكيان الصهيوني نفسه، لتظهر الوجوه على حقيقتها الواضحة سواء بإدانة فظائع الاحتلال أو مباركتها.

ومن بين الوجوه التي فضحتها الحرب الوحشية على غزة، الكاتب والمؤرخ الإسرائيلي يوفال نوح هراري؛ طفل اليسار الليبرالي المدلل، وأحد أبرز الأسماء التي روجت لها الآلة الإعلامية الغربية في السنوات الأخيرة، على أنها الصوت "العاقل" داخل الكيان المحتل، وحائط الصد ضد صعود اليمين الإسرائيلي المتطرف، حتى أن مجلة "لوبوان" الفرنسية وصفته بأنه "أهم مفكر في العالم في الوقت الراهن". ظهر "هراري" في قنوات إعلامية متعددة بمناسبة مرور عام على "طوفان الأقصى" ليتضح لنا أن النخبة الإسرائيلية المثقفة، لا تتجاوز "ليبراليتها" مجرد "قشرة" سطحية تخفي تحتها الفكر الاستعماري العنصري البغيض.

في حوار أجراه جال بيكرمان مع "هراري" لمجلة "ذي أتلانتيك" الأمريكية (٤ أكتوبر ٢٠٢٤) بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لهجوم "طوفان الأقصى"، يبدو "أيقونة اليسار الصهيوني" حزينا ويائسا ومصدوما من "الحالة التي وصلت إليها إسرائيل". يقول في نبرة أسى واضحة: "إسرائيل تقف الآن عند مفترق طرق. لا أعتقد أن وجودها على المحك، بل أعتقد أن هويتها نفسها على المحك. إن روح البلاد أصبحت الآن ساحة معركة، والنتيجة سوف تحدد ليس فقط شكل إسرائيل لسنوات عديدة قادمة، بل شكل اليهودية أيضا. أعتقد أن اليهودية تقف عند مفترق طرق. ربما لم نكن في مثل هذا المكان منذ ألفي عام، منذ نهاية عصر الهيكل".

يستنكر "هراري" وصف الصهيونية بالعنصرية، ويحاول تبرئتها من خطاياها، قائلا: "من المهم استعادة مكانتها التي تعرضت للتشهير، ليس فقط الآن، بل منذ عقود. عندما أسمع الناس يقارنون الصهيونية بالعنصرية، فهذا في حد ذاته تصريح عنصري، لأن الصهيونية ببساطة هي الحركة الوطنية للشعب اليهودي. وإذا كنت تعتقد أن الصهيونية عنصرية وبغيضة، فأنت تقول في الأساس إن اليهود لا يستحقون أن يكون لديهم مشاعر وطنية". يحاول القفز على حقائق الجغرافيا والتاريخ، ويبرر اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم لإقامة دولة يهودية استعمارية لقيطة على أنقاض الشعب الأصلي بقوله: "يمكن للأتراك أن يكون لديهم مشاعر وطنية، ويمكن للألمان أن يكون لديهم مشاعر وطنية، ولكن عندما يكون لدى اليهود مشاعر وطنية، فهذا عنصرية". ما الذي يريد أن يقوله نوح هراري هنا، وما الذي تقوله الصهيونية في رأيه؟ ها هو يغسل عار هذه الأيديولوجيا المبنيِّة على شرب الدم، ويشرح درسه الكاذب: "تقول الصهيونية في الأساس ثلاثة أشياء بسيطة يجب أن تكون غير مثيرة للجدل. تقول إن اليهود أمة، وليسوا مجرد أفراد معزولين. يوجد شعب يهودي. الشيء الثاني الذي تقوله الصهيونية هو إنه، مثل جميع الشعوب الأخرى، يتمتع الشعب اليهودي أيضا بحق تقرير المصير، مثل الفلسطينيين، مثل الأتراك، مثل البولنديين. والشيء الثالث الذي تقوله هو إن لليهود ارتباطا تاريخيا وثقافيا وروحيا عميقا بالأرض الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، وهي حقيقة تاريخية"، وعلينا أن ندقق جيدا في جملته الأخيرة، إذ أنها تقر في ثناياها بحق إسرائيل في التوسع "من النهر إلى البحر"!

ينفي "هراري" في حواره، الحقائق الدامغة بأن اسرائيل دولة استعمار استيطاني، ويزعم أن من يرددون هذه المقولة لا يفهمون حقيقة الصراع. يقول: "لا يفهم الناس الصراع حقا. رأيي أن ذلك إسقاط للتفسير الاستعماري. يأخذ الناس هذا النموذج، الذي يشكل محورا رئيسيا في الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية، ويفرضونه على وضع مختلف تماما. يقولون، حسنا، الإسرائيليون هم الأوروبيون البيض الذين جاءوا لاستعمار الفلسطينيين الأصليين. يوجد بعض الحقيقة في هذا، لكنه نموذج خاطئ. أعني أنه ينكر حقيقة وجود يهودي مستمر على الأرض، يعود إلى ٣ آلاف عام"، حسب ادعاءاته أو افتراءاته.

ويختتم "هراري" حواره بالمقولة البالية التي تروِّج لأن اسرائيل واحة للديمقراطية في الشرق الأوسط، مصوِّرا كيانه المحتل بأنه فريسة بين الوحوش، ويناشد أمريكا لإنقاذها. يقول حرفيا: "تواجه إسرائيل تهديدا وجوديا حقيقيا من إيران ووكلائها، وهذا ليس سرا. إنهم يقولون ذلك صراحة، إنهم يريدون تدمير إسرائيل. ما أعتقده هو أن الولايات المتحدة يجب أن تستمر في دعم إسرائيل"، أي أنه يريد استمرار المذبحة حتى آخر طفل، فحسب دراسة أعدها "معهد واتسون" ونشرتها مجلة "ذا نيشن" الأمريكية (عدد أكتوبر ٢٠٢٤) وافقت أمريكا على تصدير أكثر من ١٠٠ صفقة سلاح إلى الكيان المحتل حتى مارس ٢٠٢٣ بما يقارب صفقة واحدة كل ٣٦ ساعة.

كان "هراري" قد كثَّف جهوده طوال عام كامل للدفاع عن كيانه الاستعماري الوحشي، وهاجم بلا ملل ولا كلل ما أسماه "لا مبالاة بعض التقدميين الأميركيين والأوروبيين تجاه فظائع حماس"، واتهمهم "بخيانة السياسة اليسارية". سعى في وقت سابق إلى حشد ٩٠ اسما بارزا من الأكاديميين و"نشطاء السلام" في الكيان المحتل  للتوقيع على بيان يعبر فيه عن "انزعاجه من عناصر داخل اليسار العالمي تبرر تصرفات حماس". حمل البيان الذي أعده "هراري" ووقَّع عليه الروائي الشهير ديفيد جروسمان، تقريعا حادا للقوى اليسارية في العالم: "لم نتخيل أبدا أن أفراد اليسار المدافعين عن المساواة والحرية والعدالة والرفاهية، سيُظهرون مثل هذا القدر الشديد من عدم الحساسية الأخلاقية والتهور السياسي". وقال في تصريحات نشرتها صحيفة "الجارديان" البريطانية (٢٤ أكتوبر ٢٠٢٣)، إنه اتخذ هذه الخطوة بعد أن تحدث مع نشطاء سلام في اسرائيل، وشعر بأنهم "مدمَرون تماما بسبب التخلي والخيانة من الحلفاء المفترضين، بمن فيهم أكاديميون وفنانون ومثقفون لم يدينوا حماس". يضرب مثالا ببيان أصدره الاشتراكيون الديمقراطيون في أمريكا يوم ٧ أكتوبر، جاء فيه: "إن أحداث اليوم هي نتيجة مباشرة لنظام الفصل العنصري الإسرائيلي"، ويشبههم ببعض الاشتراكيين في الولايات المتحدة وأوروبا الذين دعموا "ستالين"، قائلا: "هذه ليست المرة الأولى التي يجد فيها اليسار الراديكالي نفسه متحالفا مع بعض الحركات والأنظمة الوحشية للغاية خلال سعيه لتحقيق رؤية ثابتة للعدالة"، و"هراري" يقصد هنا أنهم يتحالفون مع حماس، أي أنه وهو المفكر اليساري الذي من المفترض أن يكون في صف المقاومة (أي مقاومة، وكل مقاومة) يفضح انحيازه اليميني الاستعماري السافر، ويصف حركة تحرير بالتوحش!

وحول رأيه في ردود فعل شرائح من اليسار داخل الولايات المتحدة وأوروبا تجاه الحرب على غزة، قال: "من المذهل سماع بعض الردود التي لم تدن حماس فحسب، بل وضعت المسؤولية كلها على إسرائيل، ولم تتضامن مع الهجمات المروعة على المدنيين الإسرائيليين". كما استنكر "هراري" البيان الذي أصدرته مجموعات طلابية بجامعة "هارفارد" في اليوم التالي لهجوم ٧ أكتوبر، ويؤكدون فيه أن "النظام الإسرائيلي يتحمل المسؤولية الكاملة عن جميع أعمال العنف الجارية"، زاعما أنه بيان يوحي بأن "الأشخاص الذين قتلوا الأطفال لا يتحملون حتى ١% من المسؤولية، وأن المسؤولية الكاملة تقع على عاتق إسرائيل"، رغم أن "هراري" نفسه يعلم علم اليقين أن قتل الأطفال واغتصاب النساء على أيدي عناصر المقاومة هي مقولة كاذبة، وبات ثابتا أن الآلة الإعلامية الصهيونية فشلت في تسويقها. وفي ختام تصريحاته لصحيفة "الجارديان" يغمز "هراري" الأنظمة العربية، قاصدا أنها أشد عنفا من اسرائيل، بقوله: "إن وضع السكان الفلسطينيين مروِّع، ولكن من الواضح على الأقل أن إسرائيل لا تنوي قتل أكبر عدد ممكن من المدنيين، على عكس ما فعله نظام الأسد في حمص وحلب"، وكأنَّ "هراري" يقيس أو يقارن أو يبرر حجم الدم بالدم!

لا يقف يوفال نوح هراري وحيدا وعاريا في بركة الدم الفلسطيني. المؤرخ الذي يُشتهر بأنه "يخصص شهرا كل عام ينعزل فيه عن العالم، مكرسا روحه للتأمل الصامت دون كتب أو وسائل تواصل" يقف معه كثيرون في الجانب المنحط من التاريخ. لقد نزعت الإبادة الجماعية لشعب غزة الأعزل ورقة التوت الأخيرة التي كانت تتستر بها شرائح واسعة من المثقفين على اختلاف بلدانهم وألسنتهم. إن الدم الفلسطيني البريء المُراق على مرأى ومسمع من العالم كله طوال أكثر من عام، فاضح وكاشف ولا يحتمل سوى موقف واحد: إما أن تكون إنسانا أو وحشا، وما أكثر الوحوش -عربا وأجانب- الذين فضحت غزة مخالبهم وأنيابهم.

يوصينا جي. إم. كوتزي في روايته "العار"، بأنه لا يكفي في زمن الانحطاط أن نتعاطف مع الضحية، بل يجب على كل واحد منا أن يكون هو نفسه الضحية، وها نحن عشنا لنرى وجوها لا تُحصى تتعاطف مع الجلاد.

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: عماد أبو صالح

إقرأ أيضاً:

اليابان..احتجزته عارياً في الشرفة حتى مات برداً

اتهمت يابانية باحتجاز شريكها عارياً في شرفتها في ليلة باردة منتصف شتاء 2022، ما أدى إلى وفاته بسبب انخفاض حرارة الجسم، وفق الشرطة اليابانية، أمس الجمعة. 

وقالت الشرطة في منطقة ناغاساكي إن المرأة، 54 عاماً، متهمة بالاعتداء والاحتجاز المميت بعد وفاة شريكها الذي كانت تعيش معه.
وأوضح الشرطي ماسافومي تانيغاوا أنه في فبراير (شباط) 2022، "أمرت المتهمة الضحية بالخروج إلى الشرفة عارياً، واحتجزته هناك".

وأضاف، أنه عندما وصلوا إلى مكان الحادثة بعد مكالمة طوارئ، عثرت الشرطة على الرجل، 49عاماً، "وقد شارف على الموت" قبل أن يموت بعد وقت قصير بسبب انخفاض حرارة الجسم.

A Japanese woman was arrested for allegedly locking her naked partner on their balcony for the night, leading to his death from cold, police said Friday. READ: https://t.co/uL51M178gJ pic.twitter.com/Kuwx8wDlnL

— PhilSTAR L!fe (@philstarlife) March 8, 2025

وأفادت صحيفة "ماينيتشي" اليابانية بأن الحرارة الخارجية وصلت إلى 3.7 درجة مئوية في تلك الليلة.
ونفت المرأة الاتهامات وقالت للشرطة، إنها "لم تفعل شيئاً" حسب الصحيفة، التي أوردت أنه سبق لها أن هاجمت شريكها بسكين، ما أدى إلى إصابته في أنفه.

مقالات مشابهة

  • ياسر جلال عن ظهور صالح العويل في جودر2: كان نفسي يكون موجود ويشوف المشهد
  • وزيرة التضامن: الطفل الذي يدخل الحضانة صغيرا يكون تحصيله ووعيه أكبر
  • الثورة الفلسطينية الكبرى.. يوم قام القسام ضد الإنجليز والمنظمات الصهيونية
  • امرأة تحتجز شريكها عارياً في البرد القارس حتى الموت
  • تشقق اليسار الإسرائيلي.. أمن طريق إلى حل الدولتين؟!
  • اليابان..احتجزته عارياً في الشرفة حتى مات برداً
  • الطاهر ساتي يكتب: هذا الذي ..!!
  • عماد الدين حسين: إسرائيل تهربت من المرحلة الثانية وتريد استعادة المحتجزين دون تنفيذ الاتفاق
  • عماد الدين حسين: إسرائيل تهربت من مفاوضات المرحلة الثانية وتريد الحصول على أسراها دون تنفيذ الاتفاق
  • كاتس: إسرائيل تسعى لأن يكون جنوب سوريا منزوع السلاح