برعي محمد دفع الله (1-3): الألمعية والأناقة..!
تاريخ النشر: 5th, November 2024 GMT
مجموعة طيبة من الأحباب السودانيين غصّت بهم إحدى القاعات الفسيحة بالنادي الثقافي العربي بمدينة الشارقة...تقاطرت في هذه الأيام الحزينة للاحتفاء بالوطن من خلال أحد رموز إبداعه؛ ولتوقد شمعة في مشكاة لطيفة رمزاً لهوياته المتنوعة..حتى ترسل إشارة تذكير وتنبيه لمن يحاولون التقليل من شأن بلادنا الحبيبة ..تفاؤلاً بأيام قادمات سوف تشرق على السودان بالعافية.
كانت وجهة الملتقى التذاكر والاحتفاء بمشروع الموسيقار الكبير (برعي محمد دفع الله) وسيرته العامرة في دنيا الثقافة والفنون والموسيقى والإبداع..!
برعي يخدعك منه هدوئه العجيب..ونشأته الحضرية وسماته المدينية و(هندام الأفندية) وكأنك تستبعد عنه أن يكون غوّاصاً في الأنغام الشعبية التي تذخر بها التربة السودانية..تلك الأنغام والألحان التي تتجمّع وتتكاثف مثل السحائب الحبلى من لدن الحضارات القديمة.. ثم عبر الممالك والفدراليات والسلطنات وأزمنة سنار والعهد التركي والحكم الثنائي.. بكل محمولات الأهازيج الدينية والتعبيرات الصوفية والإيقاعات الفولكلورية..من دارفور وأقصى الشمال..ومن كردفان والوسط والجنوب والشرق والنيل الأزرق والفونج والانقسنا والوطاويط..ومهاد الوازا والبالمبو والنقارة وأم كيكي...ثم التجديدات العصرية..وإلى التراث النغمي في الإقليم ودول الساحل وبحيرة تشاد والغرب الإفريقي والشمال العربي والمشرق الأوسطي والتراث الموسيقى العالمي..!
**
"التم تم" كان أيضاً حلقة من الحلقات التي تشتمل عليها فنون الغناء والموسيقي والإيقاعات في السودان..وبرعي كان من العارفين بهذا الميراث ومن المجتهدين ذوي الدأب في تطويره وتقنينه عبر منجزاته الموسيقية المتعددة والمتنوّعة..وهو إيقاع تنوعّت فيه الاجتهادات النظرية والعملية من لدن "تومات كوستي" وأشجان "الرديف" وأغاني المرحاكة والسباتة والنفرة والشكرة..إلى توقيعات الحصاد ورقصات الفرح و(فرقة البساتين)..!
وهناك حلقة لاحقة من "رابحة تم تم" وصويحباتها، كان من روّادها إسماعيل عبد المعين ثم فضل المولى زنقار وإبراهيم عبد الجليل قبل أن تنتهي هذه الحلقة الأخيرة إلى عبد العزيز محمد داوود فيكون منها العجب..!
**
كان "أبو داوود" يكن إعجابا كبيراً بفضل المولى زنقار.وفي أحد الحوارات ذكر احد أبناء عبد العزيز أن والده أخذ فكرة استخدام (الكبريتة) في ضبط الإيقاع من زنقار..! وحين وصلت هذه المعلومة إلى "محمود أبو العزائم" سأل أبو داوود في لقاء إذاعي قائلاً: (إنت الكبريته دي اخدتها من زنقار)؟! غلبت النكتة على أبوداوود فرد عليه (لا..أخدتها من الدكان)..!
ومن طرائف "رابحة تم تم" ما جاء في موقع لحقيبة الفن وموقع آخر باسم "وثائق سودانية" أن لرابحة أثر وتقدير عند الفنان الكبير والموسيقار التاج مصطفى..وأنها كانت شديدة الاعتداد بنفسها..فقد رفضت الانخراط في تسجيل الاسطوانات وقيل أنها قالت: أنا ما بسجل اسطوانة عشان أي واحد صعلوك يجي القهوة ويشنّق طاقيتو ويطلب شاي بي تعريفة ويقول (شغلوا لي رابحة)..!
**
الكلام عن برعي معناه الكلام عن الغناء والموسيقى في السودان؛ والمؤسسة الموسيقية الغنائية في السودان هي المؤسسة التي ظلت متماسكة ومُنتجة ومُزهرة ومزدهرة..مقارنة بجميع مؤسسات الدولة الأخرى بما في ذلك المؤسسة السياسية والمؤسسة الاقتصادية والمؤسسة العسكرية والمؤسسة التعليمية والمؤسسة العدلية..إلخ وجميعها ظل في حالة تراجع وانحلال أقرب إلى الانهيار...!
هناك حالة وصفتها بـ "مظلومية الموسيقى السودانية" وقد كان برعي من أكبر "مظاليم الهوى" حيث أن إبداعه وريادته وفي التلحين وفي الموسيقى البحتة - إذا جاز التعبير- كانت من السعة بحيث كانت لتضعه في مصاف الموسيقيين العظام على المستوى الإقليمي والعالمي..!
وعند المقارنة يتضح مدى الفارق (لصالح برعي) عند مقارنة إنتاجه كماً وكيفاً بدهاقنة الموسيقيين في المنطقة وعبر العالم...وقد أخذنا المثال الأقرب من مصر؛ التي عرفت الفنون الموسيقية المؤسسية منذ أيام الخديوي إسماعيل، وشهدت قاعات الأوبرا ومعاهد الموسيقى وتقديم الأوبريتات والأوبرات والكونشيرتات والباليهات والسيمفوني والموسيقى التصويرية والروائية...الخ
المبدعون المصريون في المجال الموسيقي يجدون الاهتمام الأوفر من الدولة التي تغدق عليهم العطاء وتتكفّل عنهم بمؤونة العيش بل تقترب بهم من حياه الرفاه، بجانب الصيت والمرتبة الاجتماعية..وكانت تنحت لهم التماثيل وتصك باسمهم الأوسمة..!
ومن هؤلاء على سبيل المثال (أبوبكر خيرت وأحمد الحفناوي ويوسف جريس وميشيل المصري وعمر خيرت ومحمد حسن الشجاعي وعبدالحليم ابو نويرة ومحمد عبدالوهاب).. ومنهم من أساطين التلحين مثل الموجي وكمال الطويل ومحمد القصبجي وبليغ حمدي ورياض السنباطي..إلخ
كم لهؤلاء من المقطوعات الموسيقية البحتة؟ وكم لهم من الألحان..؟! وكم لبرعي ولزميله وتلميذه بشير عباس..؟!
**
يُضاف إلى مظلومية برعي مظلومية مُجمل الموسيقيين السودانيين ملحنين ومؤدين وعازفين..!
ومن صور هذه المظلومية: انعدام الدعم من الدولة ومؤسساتها والتجاهل وغمط الحق الأدبي والمعنوي والحق في الاعتراف والاعتبار Recognition..ثم ضعف المكافأة المالية مقارنة باستحقاقات المُطربين، مع ضمور الاهتمام الإعلامي بالفن الموسيقي، والتجاهل في مجال النقد والتقويم والمتابعة والرصد..ثم غمط حقوق الملحنين حتى من (مجرد ذكر أسمائهم) في القنوات الإعلامية مقرونة باسم الشاعر والمُطرب المؤدي حتى ولو تذيّلت الترتيب..!
وبالنسبة لبرعي وأضرابه في مجال الموسيقى البحتة هناك مظلومية أخرى داخل (المظلومية العامة)..! من شواهدها الظلم البيّن في وضع المقطوعات الموسيقية ضمن البرمجة العادلة في الأجهزة الإعلامية، والاهتمام المُسرف بالأداء الغنائي (على حسابها)..!
**
أمر محيّر..! كيف تسنّى للموسيقيين السودانيين عزف أي أغنية تعرض عليهم والقيام بأداء الإلحان بمصاحبة المُغني أو بدونه كما هي بالسماع والاستذكار ومن غير نوتة موسيقية أمامهم..؟
كيف يحفظون كوبليهات مئات بل آلاف الأغنيات بتنويعاتها المختلفة بل أن بعض الأغاني قد يكون بها نشاز يفارق القواعد اللحنية...بخروج مقصود عن الإيقاع يسمونه (سنكوب) وهو "خروج عن الدوم" كما يقولون..وكسر للرباط الإيقاعي اللحني والزمني ومفارقة الـ ((click بين "كروش" وآخر..؟!
ذلك في حين أن العازف هو الذي يسبق المُغني بمقدمة اللحن وببداية الكوبليهات والنقلات..!!..فأنظر إلى هذه الصعوبة المركّبة التي يواجهها الموسيقيون ..خاصة وأن كثير من الألحان الغنائية السودانية فيها الكثير من الانتقالات (العفوية التلقائية) التي تخالف السياق المنطقي التراتبي..؟ حكاية عجيبة..!!
مرتضى الغالي
murtadamore@yahoo.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
إسرائيل: الجيش والمؤسسة الأمنية يقران بأن محاربة الحوثيين معقدة
أكد إعلام إسرائيلي، أن الجيش والمؤسسة الأمنية يقران بأن محاربة الحوثيين معقدة لصعوبة جمع معلومات استخباراتية، وفقا لما ذكرته فضائية “القاهرة الإخبارية” في نبأ عاجل.
إسرائيل: الاستخبارات ترصد أهدافا عسكرية للحوثيين في اليمن إسرائيل تتهم بابا الفاتيكان بـ"ازدواجية المعايير"وفي إطار آخر، أعلنت جماعة الحوثي اليمنية، مساء اليوم الأحد، إفشال هجوم أمريكي بريطاني على اليمن، عبر استهداف حاملة الطائرات الأمريكية يو أس أس هاري أس ترومان، وعدد من المدمرات التابعة لها بعملية نوعية.
قال المتحدث العسكري باسم الجماعة يحيى سريع، إن العملية نفذت بالتزامن مع بدء الهجوم العدواني مساء أمس على اليمن، موضحًا أنها نفذت بـ8 صواريخ مجنحة، و17 طائرة مسيرة.
وأشار إلى أن العملية أدت إلى إسقاط «طائرة F18»، ومغادرة معظم الطائرات الحربية المعادية الأجواء اليمنية إلى أجواء المياه الدولية في البحر الأحمر.
وأوضح أن العملية أدت إلى فشل الهجوم المعادي على الأراضي اليمنية، وانسحاب حاملة الطائرات بعد استهدافها من موقعها السابق نحو شمال البحر الأحمر، بعد تعرضها لأكثر من هجوم من القوات الصاروخية والبحرية وسلاح الجو المسير.
وأكد استعداد الحوثي للتصدي لأي حماقة أمريكية بريطانية الفترة المقبلة، محذرا الاحتلال الإسرائيلي وواشنطن من العدوان على اليمن.
وذكر أن الحوثي ستستخدم حقها الكامل في الدفاع عن اليمن، استمرارًا ومواصلة لإسناد الشعب الفلسطيني حتى وقف العدوان على غزة ورفع الحصار عنها.