تتكون المدارس الوسطى في ستينات القرن العشرين، من تلامذة من طبقات متعددة، ورغم ذلك فإن التعليم كان مجانيا أو شبه مجاني، يبيح لأبناء العمال وطبقة الموظفين الصغار والكبار وأبناء التجار، أن يجتمعوا معا ولا تظهر فروق إلا عند المواصلات قبل وبعد الدراسة.
(1)
الحكاية هي في بداية الستينات، جمعتنا مدرسة الخرطوم الاميرية الوسطي، وهي كانت المدرسة الحكومية الوحيدة بمدينة الخرطوم، كان طلابها هم ابناء الموظفين الذين يسكنون في بيوت الحكومة في شرق الخرطوم وغربها، وحي بيوت الصحة "جاكسون"، الملاصق للمدرسة، وابناء الديوم، حيث تنتهي حدود المدينة في ذلك الوقت.
كانت هناك عربة كومر عسكرية مكشوفة تأتي بأبناء العسكريين واساتذة الجامعة والموظفين، الي المدرسة وترجعهم نهاية اليوم الدراسي. لا اتذكر غير: "بابكر " والذي كان ذو صلة شقيقه العازف عبد الله عربي بعربة مرسيدس، و"كمال" الذي كانت توصله والدته التي تعمل مدرّسة بمدرسة البنات المجاورة لمدرستنا، وكانت العربة ماركة" أوبل"، أما نحن أبناء الديوم، فبعضنا كان يركب بصات الديوم ويدفع قرشا واحدا.
وبعضهم يوفر هذا القرش، ليكون عنده نهاية الاسبوع ،ما يمكنه من دخول السينما، وأظن قيمة التذكرة كانت خمسة قروش. ولا أنسي طالبا اسمه "عجبنا" رغم انه كان يسبقنا في الدراسة، إلا أنه كان يرافقنا نحن الساكنين بالحلة الجديدة، للذهاب والعودة الي المدرسة. كان يسكن مع والده بإسطبلات الرميلة، التابعة لدائرة المهدي، وعلمت انه درس بالخرطوم الثانوية القديمة، وكان يسير المشوار راجلا خلال الأربعة سنوات التي يدرس بها. شاءت الظروف أن أجده بكلية الهندسة، عند دخولي الجامعة 1970.
(2)
لا أتذكر كيف كان يصل "أمير" وأخوه أسامة داوود"، حيث كانا يسبقاني في الدراسة، ولا "أمين النفيدي" والذي كان في الدفعة اللاحقة لي.
عندما درسنا بالثانوية الجديدة، وكنت أول الدفعة بها، كان معظم الطلاب من الديوم، وامتداد الدرجة الثالثة، حي الخرطوم ثلاثة، حيث موقع المدرسة المطل علي ميدان عبد المنعم، والذي تقام به احتفالات المولد السنوية. "حاليا هو نادي الاسرة". كان هناك طالب واحد يسكن بالحي الشرقي، توصله للمدرسة عربة حكومية ماركة "همبر" مكسوة من الداخل بقماش أبيض، ويرتدي سائقها شورت وقميص أبيض، ويعمل والده في وظيفة كبيرة. كان مستر "هول "مدرس اللغة الإنجليزية، وهو في عمر مقارب لنا، وكان يأتي إلي المدرسة، راكبا عجلة بسكليت (دراجة هوائية)، ويرتدي شورت كحلي به أزرار كحلي، وقميص أبيض، وكان يشاهد العربة الهمبر توصل أحد طلابه كل يوم، لكنه لم يسأل ولم يكن له فضول للتعرف علينا كثيرا، ومعرفة من هو والد هذا الطالب الذي يأتي بعربة الهمبّر. تشاء الأقدار أن يأتي هذا الطالب متأخرا عن موعد بداية الحصة الاولي للغة الانجليزية، فما كان من مستر هول إلا أن صرخ في وجهه: اخرج من هنا.
(3)
كانت البيوت المجاورة للمدرسة يسكنها كبار الموظفين، ويطلق عليه حي جاكسون اليوم. البيت مكون من غرفتين بينهما برندة، وفي ركن الحوش يوجد مطبخ وحمام ودورة مياه بنظام "الجرادل"، والذي الغاءه وزير الداخلية وقتها فاروق حمد الله عام 1970. وكانت هناك بيوت بشارع علي عبد اللطيف يسكنها وزراء منهم حسن بشير نصر نائب الفريق عبود، ومدير المطافئ، وضباط كبار في الشرطة. كان هذا النموذج مكون من ثلاث غرف وصالون وغرفة للضيوف، ويسمي حسب نموذج وزارة الاشغال ،بيت نموذج "أ"، وكانت بيوت نظار المدارس الثانوية في كل مدن السودان من نفس النموذج، حيث يسكن المفتشين والزوار مع الناظر، في الغرفة المخصصة للضيوف. ولا خيار آخر غير ذلك.
(4)
زرت السويد قبل أعوام، وطلبت من مرافقي، أن نقضي الساعات المتبقية، لأتعرف علي نمط الحياة في مدينة استكهولم، فدخلنا مول وتجولنا، وأثناء دخولنا لمحل ملابس نسائية، قال مرافقي: هنا كانت تتبضع رئيسة الوزراء، فقام بطعنها شخص مخبول. ونحن متوجهين الي موقف السيارات للذهاب للمطار، قال مرافقي: هنا كان وزير الخارجية، يمتطي دراجة بسكليت (دراجة هوائية)، وتم الاعتداء عليه من قبل مخبول أيضا.
كل هذه الحكاية تذكرتها، واليوم يثار جدل حول استيراد سيارات فاخرة، لأعضاء مجلس السيادة، وظهرت صورة لوالي النيل الأبيض يمتطي سيارة فاخرة مكشوفة، وهو يلوح للمارة، فقلت: هل يعقل نحن السودانيين البلد الفقير، والذي ليس به إرث لطبقة كما في أوروبا، بل الطبقة الوسطي الناشئة، تعمل فينا كده؟؟
لا أظن أن حالنا سينصلح ولو نزل لنا الصلاح من السماء؟؟؟
يوسف محمد إدريس
yidries@ hotmail.com
9أغسطس2020
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
الجزيرة ترصد أوضاع مدارس الطوارئ بمخيمات النازحين في السودان
وسط ظروف استثنائية فرضتها الحرب في السودان تواصل مدارس الطوارئ في مخيمات النازحين بولاية كسلا شرقي البلاد مهمتها في توفير التعليم للأطفال النازحين رغم التحديات الكبيرة التي تواجهها على المستويين البيئي والإنساني.
ورصد مراسل الجزيرة الطاهر المرضي هذه الأوضاع في مخيم المطار للنازحين، إذ تحولت الخيام إلى فصول دراسية تستقبل أكثر من ألفي طالب وطالبة يحافظون على شغفهم بالتعليم رغم قسوة الظروف.
ويخلع الطلاب أحذيتهم عند دخول الفصول ويجلسون على الأرض في ظل غياب المقاعد والطاولات التي باتت ذكرى من ماضٍ أكثر استقرارا.
وتصف المعلمة أميرة واقع التدريس في هذه الظروف الاستثنائية قائلة "في مدارس الطوارئ كل شيء تغير، الفصل مكتظ بـ230 تلميذة، والمفترض أن يكون 18 أو 20 من أجل المتابعة"، مضيفة أنها تواجه صعوبات في التصحيح ومتابعة هذا العدد الكبير من الطالبات.
ويشرف على العملية التعليمية في المدرسة معلمون من مختلف التخصصات، وهم أنفسهم نازحون اضطرتهم الحرب إلى ترك منازلهم، وقد تم تقسيم أيام الأسبوع مناصفة بين البنين والبنات، مع ملاحظة أن صفوف البنات تشهد اكتظاظا أكبر مقارنة بصفوف البنين.
ومن القصص المؤثرة في المدرسة قصة أبو ذر، وهو طالب في المرحلة المتوسطة ويجمع بين التعليم والعمل، حيث يقضي صباحه في الفصل الدراسي، وفي المساء يعمل في صيانة الفحم لمساعدة أسرته وتأمين مصاريف دراسته.
إعلانوتتفاقم المأساة مع وجود أكثر من 60 طفلا في سن التعليم وصلوا إلى المخيم وهم يعانون من اضطرابات نفسية، وتحاول الطبيبة النفسية نهاد مساعدة هؤلاء الأطفال من خلال الموسيقى والرسم.
وتشير نهاد في حديثها إلى أن آثار الحرب ظهرت جلية في رسومات الأطفال التي تحفل بصور الأسلحة والجنود، مما دفعها إلى العمل على دمجهم مع زملائهم في المدرسة.
وفي خضم هذا الواقع المرير تبقى الآمال معلقة على مستقبل أفضل لهؤلاء الأطفال الذين يواصلون تعليمهم رغم كل الصعاب، فمع كل رسمة يخطونها وكل كلمة يتعلمون نطقها يتجدد الأمل في أن طفل اليوم الذي يرسم زهرة قد يتمكن غدا من زراعة حديقة من الأحلام.
ومنذ منتصف أبريل/نيسان 2023 يخوض الجيش السوداني وقوات الدعم السريع حربا خلّفت أكثر من 20 ألف قتيل وما يزيد على 14 مليون نازح ولاجئ، وفق تقديرات الأمم المتحدة والسلطات المحلية.