تتوارى خلف المآلق دموعا تملىء الجفون نخفيها ليس خجلا بل إحتراما لمن فقدنا بأن لانؤثر على من حولنا لحظة فراق من نحب .. بالأمس،فقدت إنسانة عظيمة وأم تملك من العاطفة الجياشة مالا يمكن وصفه ..
رحلت خالتي السيدة الجليلة فاطمة محمد السنوسي “ام عبدالله” التي تحمل في دواخلها الحب للجميع .كافحت في،حياتها وصبرت على الكثير من المواجع والآلام حين فقدت زوجها وهي،في عز شبابها لكنها اخذت على عاتقها تربية أبنائها .
عاشت الخالة فاطمة في مكة واذكر في طفولتي مدى عاطفتها الجياشة حين إستقبلتنا ببشاشة ورحابة صدر كانت أول لحظة لي،أرى فيها التلفزيون “ابيض،واسود” وكنت مشدوها بهذا الاختراع ومتسمرا أمامه حتى بعد إغلاقه انتظر ان يخرج المذيع من التلفزيون لنودعه مع الباب..كانت ضحكات خالتي فاطمة تملىء المكان على بساطة تفكيري وهي تطلب مني النوم ..لكن الحياة لم تكن لها شعلة دائمة مثلها مثل أمي رحمها الله التي،تغربت كثيرا مع والدي،في جل مناطق المملكة ..
شدت الخالة الجليلة الرحال بعد فراق زوجها العم صالح بابكير عليه شآبيب،الرحمة من مكة إلى بلدة حقل في أقصى الشمال الغربي حيث موطن الخؤلة أهلها ..وهناك تبدلت حياتها إلى كفاح آخر مارست فيه دور الاب والام ..لكن ابتسامتها الجميلة وبشاشة وجهها لاتفارق كل من يلقاها ..
تحملت لوحدها تربية الأبناء..ولم اعرف يوما التقيت بها غاضبة او على وجهها آثار حدة وأجمل ماكنت اسمعه ..”هلا يمه”..ابشر وانا خالتك ..عشنا معها بضعا من الوقت ببيت الجدة عزيزة سلطان العباس بحقل كانت من أروع أيام الطفولة تداري كل واحدا منا رغم ان الحال على الجميع بسيط ومتواضع لكنها تخلق في دواخل الأسرة الكبيرة علامات الرضا والصبر..رحلت “أمي الثانية خالتي فاطمة”ورحل معها كل فرح ينبعث من الصدور ..
فارقتنا صاحبة الابتسامة الدائمة والصدر المليء بالحنان لكنها زرعت في طفولتنا التسامح والبعد عن التجافي لكننا كبرنا وعجزنا ان نفعل ماكانت هي تفعله ..تركت ام عبدالله بيتا مليء بالتعاضد والود ..
لكنها تركت فراغا شاسعا برحيلها ..اشاطر في عزائي ابناء الخالة الكرام عبدالله واحمد وسعيد وبنات الخالة في رحيلها..فالمصاب جلل وجرح الفراق لايندمل..رحمك الله يااروع أم في نقاؤك وصبرك وجعل الجنة مسكنك ..طبت في حياتك ورحيلك .
المصدر: صحيفة صدى
إقرأ أيضاً:
فاطمة أحمد إبراهيم: “حج” فاطمة بت باشتيل الأدروبي إلى مسيدها التقدمي
عبد الله علي إبراهيم
(12 اغسطس 2017)
(قيل عن الفنار إنه لا يلاحق السفن يهديها سواء السبيل. فهو يشع فتهتدي به. وهذه حكاية عن فنار شيوعي).
انعقد المؤتمر السنوي للجمعية الأمريكية للدراسات السودانية في 2004 بجامعة مدينة سانتا كلارا بولاية كاليفورنيا. وكان محوره مسألة المرأة في السودان. وكانت مساهمتي فيه هي عرض منزلة “مجلة صوت المرأة" في تنمية حركة المرأة كحركة اجتماعية تمثلت في الاتحاد النسائي السوداني. وقد أملي على هذه الخطة عاملان. أولهما أن العام القادم عام انعقاد المؤتمر (2005) يصادف الذكري الخمسين لصدور المجلة التي تأسست في 1955 وترأست تحريرها الأستاذة المربية فاطمة أحمد إبراهيم. أما العامل الثاني فهو أني بقدر ما قرأت أو استمعت إلى الباحثين في موضوع المرأة السودانية في أمريكا لم أجد منهم إشارة ولو عارضة إلى هذه المجلة. وقد أستثني الدكتورة فاطمة بابكر في كتابها "المرأة الأفريقية بين الإرث والحداثة" (2002). وهذا إهمال لا أدرى كيف ساغ لهؤلاء الباحثين والباحثات ممن يلقون بالأحكام حول الاتحاد النسائي بغير تقليب لمجلته الوحيدة الغراء. واستعنت في تقديم هذه المجلة كمصدر لا غني عنه للباحث على أرشيف ناقص دب فيه الفساد مودع بدار الوثائق القومية. وكنت دعوت في وقت سبق، وفي مناسبة عودة الأستاذة فاطمة للسودان، أن تسهر الناشطات في الاتحاد النسائي على استكمال أرشيف المجلة وإيداعها الإنترنت عوناً للباحثين حتى لا يخبطوا خبط عشواء.
بدا لي بعد دراسة مادة المجلة بعد صيتها وحسن ظن الناس فيها. فقد وقفت تبشر بالمعاني الذكية لجنس مهضوم لا حس له ولا وجود. وأسرت هذه المعاني جماعات من الناس وجعلوا المجلة قبلة ثقافية وسياسية لهم. وهذا ما يجازي به الناس مراكز الإشعاع وبؤر النهضة. وقد تذكرت بذلك كلمة علقت بها على تحقيق من كسلا قام به الشيخ درويش في سبعينات القرن الماضي. قال إنه سأل طفلاً عن ما يعرفه عن الخرطوم. فقال "دار الإذاعة". وعلقت أن على الإذاعة (وكان ذلك عيدها الأربعين) أن تفخر بأنها قد أصبحت عاصمة بمعني ما. وقد ركزت انتباهي خلال قراءتي لأعداد صوت المرأة على كيف أنها أصبحت عاصمة ما. عاصمة للتقدم يأوي إليها المسهدون به العاملون من أجله.
وأسرتني من بين كل رحلات هؤلاء المسهدين رحلة للمواطن باشتيل إبراهيم في نحو نوفمبر 1963 إلى دار صوت المرأة. وباشتيل من البجة وعامل بالسكة الحديد بمحطة هيا. وقد جاء إلى المجلة بصحبة طفلة في السابعة من عمرها حلوة هادئة، دقيقة التقاطيع. وقدمها للمحررة وقال إنها ابنته واسمها فاطمة. وقال إنها محور صراع دائر في أسرته. فقد أراد لها باشتيل أن تتعلم وألحقها بالمدرسة الأولية. ولم تقبل والدتها بذلك وقالت إن المدرسة مفسدة. ومال والده لصف زوجته. وتدخل الأهل لإثنائه عن خطته. وجادلهم بالحسنى وقال إن دخولها المدرسة من إكمال الدين حتى تعرف ربها معرفة وثقى. ولم يتراجع عن عزيمته قيد أنملة. وتعرض للأذى من أهله. فقد فتحوا فيه بلاغاً عند الشرطة بتهمة انتزاع البنت عنوة من أمها. ونجح في توضيح الأمر للشرطة وشطب البلاغ. وظل يقف يومياً بنفسه على تعليم فاطمة. فهو يسرح شعرها، ويعد لها ملابسها المدرسية، يحميها خلال رحلتها للمدرسة، ويذاكر معها درس اليوم في المساء.
وكانت خشية باشتيل الكبرى أن تنتكس بنته وتهجر الدارسة تحت تأثير بيئة البيت الكارهة للتعليم، ومعارضة الأم التي سكنت معها. ولهذا قرر أن ينتهز فرصة إجازته السنوية ليأتي بها إلى الخرطوم لتري بنفسها المتعلمات وجهاً لوجه حتى يرسخ حب التعليم في نفسها. وقد جاء بها برغم أنف أمها. وفي الخرطوم اصطحبها إلى الحدائق العامة، والمطار، والإذاعة، والمتحف، وبعض المدارس. وقال إنه كان يشرح لها على الطبيعة كيف شكل التعليم كل ما يدور حولها. وعندما زار صوت المرأة بدأ يحدثها عن المجلة والمحررات وصنعتهن التي هي بعض تعليمهن.
لم يحتطب باشتيل ليلاً حين غشي صوت المرأة. كان يعرف أنها الصوت الذي ما فتر يذكر الناس والدولة بضرورة تعليم المرأة. كانت افتتاحيات أساتذتنا فاطمة أحمد إبراهيم تتحدث عن وأدنا للبنات بحرمانهن من التعليم. وكانت إحصائيات نقص تعليمهن صافية لا لبس فيها. وكانت المجلة تستبشر بكل تصميم على التعليم. فحيت المجلة ناظرة مدرسة في بلدة مسمار لترغيبها الدمث لنساء البجة في التعليم. وحيت سيدة باسم عطامنو وأباها الشيخ الذي علمها في مدرسة القرية مع الأولاد، ثم جاء بها للخرطوم ليدخلها المدرسة الوسطى. فقبلتها الأحفاد مجاناً. رصدت صوت المرأة كل ذلك وبالصور التي كان زنكغرافها يكلف الشيء الفلاني. ولا بد أن باشتيل قرأ وشاهد كل ذلك. وألهمه ذلك توكلاً مضيئاً ليدفع مستحق التقدم. وقد صورته المجلة وابنته الحلوة الدقيقة التقاطيع شاهداً على حجه المبرور لمنارة من منارات التقدم، صوت المرأة.
"من كتابي "فاطمة أحمد إبراهيم: عالم جميل" من دار عزة، 2012
ibrahima@missouri.edu