كلما أوغل الإنسان في العمر تراجعت عنده جوانب كانت في أوج اتقادها إبّان المراحل الأولى من عمره، وحدها الذاكرة الموغلة في الزمن الأول غالباً ما تزداد اتقاداً لتشده إلى الوراء بينما كل شيء يدفع به إلى الأمام بلا رحمة، بسرعة صاروخ عابر للمسافات الضوئية وهو منطلق إلى محطته الأخيرة.
ولكن ما الذي يحدث عندما نواجه ذاكرتنا بواقع مناقض لها؟ هل نرفض الذاكرة أم نرفض الواقع؟ هذه جدلية تمس وتراً حساساً من المشاعر التي تشفّ كلما أوغلنا في سنين العمر، لكنها جدلية مرهقة إلى حد عدم الرغبة في الذهاب إليها لأنها تكبدنا خسائر لا قبل لنا بها في هذه المرحلة من العمر، فلماذا ننبش في الذاكرة ونحن غير قادرين على تحمل تبعات هذا النبش وآثاره؟
ذات مرة سأل خالد بن طوبال صديقه روجيه نقاش: "لماذا لم تعد ولو مرة واحدة لزيارة قسنطينة؟ أنا لا أفهم خوفك، إن الناس ما زالوا يعرفون أهلك في ذلك الحي ويذكرونهم بالخير.
كان خالد بن طوبال هو بطل رائعة الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي "ذاكرة الجسد"، وكان روجيه نقاش هو صديق طفولته وغربته الذي كان مولعاً بقسنطينة، والذي لم يعد إليها منذ أن غادرها عام 1959 مع أهله، وكان حلمه السري أن يعود إليها ولو مرة واحدة، أو يأتيه أحد على الأقل بثمرة واحدة من شجرة التين التي كانت تطال نافذة غرفته، والتي كانت في حديقة بيته منذ أجيال.
هل كان روجيه نقاش يعبر عنا جميعاً عندما قال إن مواجهة الذاكرة بواقع مناقض لها هو أصعب شيء على الإطلاق فعلاً؟ وهل كان لهذا يخاف أن يواجه ذاكرته وحده، حتى لو قالها بشيء من المزاح؟
يحدث أن يغمرنا هذا الشعور عندما نذهب لزيارة الأماكن التي وُلدنا فيها وعشنا طفولتنا الأولى بين معالمها، وتفتحت عيوننا على تفاصيل مشاهدها، حتى لو كانت هذه المشاهد محدودة وبسيطة، وحتى لو كانت هذه التفاصيل قليلة، في زمن كان يتسم بقلة التفاصيل وسيادة البساطة.
نحن نخاف أن نواجه ذاكرتنا وحدنا، خاصة عندما نشعر أن هناك واقعاً مناقضاً لتلك الذاكرة يمكن أن يهزمنا، صحيح أن الأماكن الأولى تستثير فينا ذكريات حميمة مفعمة بالمشاعر والحنين، لكنها تبعث في نفوسنا شجناً طاغياً، لأن وجوه أناس نحبهم تكون غائبة عن الواقع، ولأن صوراً جميلة أحببناها تكون قد اختفت من المشهد، فيصدمنا الواقع بوجوده ووجوهه وصورة المكان الذي جئنا نبحث عن ذاكرة تشكلت في أركانه الأربعة ذات يوم بدا بعيداً، وهي تتسرب منا اليوم بفعل هذا الواقع المناقض لما اختزنته تلك الذاكرة من وجوه وصور وأحداث، فليس ما يخيفنا هو ألّا يعرفنا الناس في تلك الأماكن.. ما يخيفنا هو ألا نعرف نحن الناس الذين يمشون اليوم في أزقتها، ويسكنون البيوت التي كانت ذات يوم بيوتنا، ويعبثون بمكونات ذاكرتنا التي تختزن أجمل سنوات العمر وأنقاها وأطهرها.
المهم في هذه الحالات إنقاذ الذاكرة.. توصل خالد بن طوبال إلى هذه النتيجة بعد أن تذكر كلام صديقه روجيه نقاش، يجب علينا أن نحتفظ بذكرياتنا في قالبها الأول وصورتها الأولى ولا نبحث لها عن مواجهة اصطدامية مع الواقع، يتحطم بعدها كل شيء داخلنا كواجهة زجاجية. اقتنع خالد بن طوبال بهذا المنطق.
هل حدث أن قادتك قدماك يوماً إلى البيت الذي وُلدت فيه وترعرعت بين جدرانه ولعبت في أزقة حارته، وكبرت مشمولاً بحب ساكنيه والأهل والجيران؟
ما الذي تشعر به بعد كل هذه السنوات التي مرقت كالسهم المنطلق مخترقاً جدران العمر التي غدت مثل ثوب كثير الثقوب لكثرة ما عصفت به رياح الزمن؟
ما الذي تشعر به عندما ترى الأحجار تتطاير من فوق رقعة الشطرنج، وأنك غدوت بيدقاً يصارع من أجل البقاء؟
هنا تصبح مواجهة الذاكرة بواقع مناقض لها أصعب شيء على الإطلاق.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان النيجر مانشستر سيتي الحرب الأوكرانية عام الاستدامة
إقرأ أيضاً:
شاهد.. أين كانت تعيش عائلة القيادي في القسام محمد الضيف؟!
مقالات مشابهة المحذوف من مقررات الصف التاسع والثالث الثانوي للعام الدراسي 2024/2025
8 ساعات مضت
تنزيل تطبيق “ديب سيك” الصيني.. طفرة في عالم التطبيقات الذكية المجانية 100% بميزات مذهلة هزت عالم الذكاء الإصطناعي11 ساعة مضت
“أوبن إيه آي” تتهم عملاق الذكاء الاصطناعي الصيني DeepSeek باستخدام نماذجها لتدريب نموذج منافس21 ساعة مضت
أحلامك قد تكشف عن خطر الإصابة بالخرف21 ساعة مضت
واتساب تُصلح ثغرة أمنية خطِرة في ميزة “العرض لمرة واحدة” على آيفون21 ساعة مضت
جوجل تعزز قدرات Google Sheets بالذكاء الاصطناعي عبر Gemini22 ساعة مضت
تقرير خاص|أين كانت تعيش عائلة القائد في كتائب القسام محمد الضيف؟.
كشفت مشاهد فيديو عن تفاصيل جديدة تتعلق بمكان إقامة عائلة القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسام، محمد الضيف، الذي يعد أحد أبرز الشخصيات في المقاومة الفلسطينية.
وبحسب المعلومات، فإن عائلة الضيف كانت تقيم في منطقة سكنية متواضعة داخل قطاع غزة، بعيدًا عن الأضواء، حيث حرص الضيف على إبقاء عائلته بالتساوي مع الشعب الفلسطيني، حتى في ظل محاولات الاحتلال المستمرة لاستهدافه.
أين كانت تعيش عائلة القيادي في القسام محمد الضيف؟! pic.twitter.com/0faZuOrVhO
— سمير النمري Sameer Alnamri (@sameer_alnamri) January 31, 2025 ذات صلة السابق المحذوف من مقررات الصف التاسع والثالث الثانوي للعام الدراسي 2024/2025اترك تعليقاً إلغاء الرديجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.
آخر الأخبار شاهد.. أين كانت تعيش عائلة القيادي في القسام محمد الضيف؟! دقيقتان مضت المحذوف من مقررات الصف التاسع والثالث الثانوي للعام الدراسي 2024/2025 8 ساعات مضت تنزيل تطبيق “ديب سيك” الصيني.. طفرة في عالم التطبيقات الذكية المجانية 100% بميزات مذهلة هزت عالم الذكاء الإصطناعي 11 ساعة مضت “أوبن إيه آي” تتهم عملاق الذكاء الاصطناعي الصيني DeepSeek باستخدام نماذجها لتدريب نموذج منافس 21 ساعة مضت أحلامك قد تكشف عن خطر الإصابة بالخرف 21 ساعة مضت واتساب تُصلح ثغرة أمنية خطِرة في ميزة “العرض لمرة واحدة” على آيفون 21 ساعة مضت جوجل تعزز قدرات Google Sheets بالذكاء الاصطناعي عبر Gemini 22 ساعة مضت ليس الكتاب وحده مفتاح النجاح.. دراسة كندية تكشف طرق التفوق الدراسي للأطفال 22 ساعة مضت فلكي سعودي يصعق الجميع ويكشف ما سيحدث خلال شهر شعبان 23 ساعة مضت الصين تكشف عن اختراع مذهل وتبهر العالم وتهز عرش التكنولوجيا الأميركية وتسقط أسهم الذكاء الاصطناعي يومين مضت هل تُنهي بطاريات الألمنيوم عصر الليثيوم؟ ابتكار جديد يُعيد تشكيل مستقبل تخزين الطاقة 3 أيام مضت خطوة بخطوة.. كيف تقرأ رسائل واتساب المحذوفة على Android وiOS؟ 5 أيام مضت © حقوق النشر 2025، جميع الحقوق محفوظة | لموقع الميدان اليمني