تناولت مجلة "فورين أفيرز" في مقال للباحثتين سارة يركس، الزميلة في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، و سابينا هينبرغ، الزميلة في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، الأوضاع السياسية الراهنة في تونس بعد مرور 13 عاما على الربيع العربي.

وقالت الكاتبتان، إن تونس كانت تعتبر، قبل فترة ليست طويلة، واحدة من أكبر قصص النجاح في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فعلى عكس الدول العربية المجاورة التي شهدت انتفاضات شعبية ضخمة في عام 2011، لم ترجع تونس على الفور إلى الاستبداد أو تنحدر إلى حرب أهلية.

بدلا من ذلك، بعد فرار دكتاتورها القديم، عقدت حكومة مؤقتة انتخابات حرة ونزيهة. تبنى النظام الجديد المنتخب ديمقراطيا دستورا ليبراليا وسمح للمجتمع المدني ووسائل الإعلام المستقلة بالازدهار.

وأضاف المقال، مع ذلك، انهار هذا النجاح الآن بشكل حاسم. ففي الشهر الماضي، وللمرة الأولى منذ 14 عاما، أجرت تونس انتخابات رئاسية صورية، اتسمت بالتلاعب والقمع على نطاق واسع. أعلن الرئيس الحالي قيس سعيد أنه فاز بنسبة 90% من الأصوات. لقد حاول التونسيون الاحتجاج على استبداد سعيد، مما أثار الأمل بين المراقبين في أن البلاد قد تعود إلى مسارها الديمقراطي.

وبينت الكاتبتان، أن الحقيقة هي أن انهيار الديمقراطية التونسية الشابة كان قادما منذ فترة طويلة، وكانت المشاكل التي واجهتها نتيجة لانتصاراتها المبكرة.

بمرور الوقت، أدت السمات التي ساعدت حركة الربيع العربي في تونس على التميز وتحقيق إصلاح حقيقي - وأبرزها استعداد القادة التونسيين لتقاسم السلطة - إلى إعاقة الحكومة وأدت إلى الشلل. لم تتمكن الديمقراطية الجديدة من تحقيق إصلاحات جوهرية.

وعدم قدرة سماسرة السلطة في تونس بعد عام 2014 على إصلاح الاقتصاد على وجه الخصوص، إلى جانب الشعور المتزايد بين الناخبين بأن النخب تركز فقط على تعزيز ثرواتها، إلى تمهيد الطريق للاستيلاء الاستبدادي، وفق المقال.

انتُخب سعيد، استاذ القانون الدستوري، رئيسا ديمقراطيا في عام 2019، لكنه سرعان ما بدأ في تعزيز سلطته من خلال حل البرلمان وتعليق الدستور وسجن المعارضين.

وكان من غير الممكن انقاذ نموذج تونس للتحول الديمقراطي إلا إذا زادت الحكومات الأجنبية من دعمها للمعارضة والمجتمع المدني التونسي.. ولكن للأسف، لم تتحقق المساعدات بالكمية اللازمة. والآن فات الأوان لمثل هذا الإصلاح لإحداث فرق كبير بما فيه الكفاية.

وذكر المقال، أنه يمكن أن يُعزى قدر كبير من نجاح تونس خلال العقد الذي أعقب عام 2011 إلى مجتمع مدني نشط وقادة كانوا على استعداد للتنازل، باختصار، كان نموذج الحوار والإجماع هو الذي أخرج البلاد من الدكتاتورية. لكن دستور تونس لعام 2014، الذي صُمم لتجنب التركيز المفرط للسلطة، انتهى به الأمر إلى إعاقة عملية صنع القرار في الحكومة الديمقراطية.

ونتيجة لذلك، لم تتمكن الحكومة من تبني إصلاحات اقتصادية هيكلية كان من الممكن أن تعالج البطالة المتفشية بين الشباب، وارتفاع التضخم، والفساد المستمر الذي ابتليت به تونس لعقود من الزمان.

في البداية، برر سعيد تحركاته القمعية بأنها مؤقتة، بحجة أن البلاد كانت في خضم أزمة وأن السياسيين الآخرين غير مجهزين بشكل جيد لتلبية احتياجات التونسيين.

كان الجمهور قد أصيب بالإحباط بسبب فشل الديمقراطية في تحقيق مكاسب اقتصادية، ورأى في سعيد شخصا قادرا على كسر الجمود والتصدي للفساد داخل بقية الطبقة السياسية. لذلك دعموه في البداية، حتى مع تحايله على القانون. ولكن في عام 2022، نظم استفتاء لتدوين سياساته خارج نطاق القضاء في دستور جديد. ولم يكلف التونسيون أنفسهم عناء التصويت، وتم تمرير الاستفتاء.



حتى ذلك العام، كان الداعمون الرئيسيون لتونس - الولايات المتحدة وكذلك الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء - يقدمون للبلاد أكثر من 1.3 مليار دولار في شكل مساعدات اقتصادية سنويا. لكن الولايات المتحدة بدأت تشعر بالقلق من أن الاستمرار في تقديم هذه المساعدة قد يؤدي إلى دعم دكتاتور، لذلك خفضت ميزانية مساعداتها لتونس ووبخت سعيد على سلوكه الأكثر فظاعة وفق وصف المقال.

في غضون ذلك، أصبحت أوروبا أكثر استثمارا في قدرة تونس على وقف تدفق المهاجرين من دعم الديمقراطية في البلاد، كما خفضت مساعداتها للبلاد لكنها استمرت في تمويل شرطة الحدود وظلت صامتة إلى حد كبير بشأن قمع سعيد، ونتيجة لذلك، عانت الكيانات غير الحكومية التي كان من الممكن أن تستفيد من استمرار المساعدة.

وأشار المقال إلى أن تونس تبدو اليوم بشكل متزايد كما كانت في عهد زين العابدين بن علي، الدكتاتور الذي عمل التونسيون بجد للإطاحة به في عام 2011، فهناك القليل من حرية التعبير أو الصحافة، وتعمل قوات الأمن مع الإفلات من العقاب تقريبا.

وعلى الرغم من عدم مواجهة أي معارضة قابلة للتطبيق قبل انتخابه في عام 2024، أشرف سعيد في وقت سابق من هذا العام على اعتقال ما لا يقل عن اثني عشر مرشحا محتملا للرئاسة، تلقى العديد منهم أحكاما جنائية تحظر مشاركتهم في السياسة الانتخابية مدى الحياة.

وتم القبض على أحد المرشحَين اللذين وافقت الحكومة على خوضهما الانتخابات ضد سعيد، عياشي زامل، في أيلول/ سبتمبر وأدين بتهم ملفقة بتزوير التوقيعات لوضع اسمه على ورقة الاقتراع. أدار حملته من السجن، حيث من المقرر أن يبقى هناك لأكثر من 30 عاما. كما منعت لجنة الانتخابات التابعة لسعيد اثنين من أبرز الهيئات الرقابية المحلية في البلاد من مراقبة الانتخابات، متهمة إياهما بتلقي "تمويل أجنبي مشبوه" - وهو مصطلح شعبوي شائع.

لقد سجن سعيد العديد من النشطاء والمعارضين الآخرين، وعلى مدى العامين الماضيين، استخدم قانونا مثيرا للجدل صدر عام 2022 يجرّم نشر "الأخبار الكاذبة" لسجن كل من شيماء عيسى، زعيمة حركة المعارضة جبهة الإنقاذ الوطني؛ وسامي بن سلامة، العضو السابق في لجنة الانتخابات التونسية؛ والمحامية والمعلقة السياسية سونيا الدهماني.

وفي أيلول/ سبتمبر 2023، وفي خطوة وقحة بشكل خاص، حشدت الحكومة 51 شخصا من مختلف الطيف السياسي للمحاكمة في قضية واحدة. يواجهون بتهمة التآمر للإطاحة بالحكومة، اتهامات قد تشمل عقوبة الإعدام. حتى سهام بن سدرين، الرئيسة السابقة لهيئة الحقيقة والكرامة التونسية - التي أنشئت للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت خلال فترة ما قبل الثورة - اعتقلت في آب/ أغسطس بتهمة زائفة على الأرجح بأنها قبلت رشوة لتزوير التقرير النهائي للجنة.

وقالت الكاتبتان، إن نظام سعيد ليس وحشيا فحسب؛ ولكن في تونس، لا تزال الحكومة الحالية غارقة في الفوضى كما لا يمثل سعيد أي حزب سياسي ونادرا ما يتواصل مع مستشاريه. وقليل من المعينين في حكومته يستمرون في مناصبهم لأكثر من عام.

وفي آب/ أغسطس، أقال رئيس الوزراء، وعين خامس رئيس وزراء له في أقل من خمس سنوات، وبدأ تعديلا وزاريا أوسع نطاقا. وبعد بضعة أسابيع، استبدل جميع المحافظين الإقليميين في البلاد دون تفسير أو تحذير يذكر. وهذا التغيير المستمر في كبار المسؤولين يعني أن معظم السياسات تُصنع الآن بموجب مرسوم رئاسي مع القليل من المدخلات من أشخاص أو إدارات أخرى.



بعد إحباطهم من استيلاء سعيد على السلطة، بدأ التونسيون في الاعتراف بدوره في الأزمة الاقتصادية المتصاعدة والركود السياسي الذي يعاني منه بلدهم. يبلغ معدل البطالة الإجمالي في تونس 16 بالمئة وهو أعلى بكثير بين النساء والشباب؛ ومن المتوقع أن يكون نمو الناتج المحلي الإجمالي في البلاد لعام 2024 أقل من 2  بالمئة، ومن المتوقع أن يتجاوز التضخم 7 بالمئة هذا العام.

وأشارتا إلى أن التونسيين يواجهون العديد من المشاكل نفسها التي واجهوها في عهد بن علي ــ الفساد، وعدم المساواة، ووحشية الشرطة، والبطالة ــ فكلما طال أمد بقاء سعيد في منصبه، كلما قلت قدرته على تسويق نفسه باعتباره الرئيس الذي جاء من خارج الطبقة السياسية وهو يفقد القدرة على التضحية بالسياسيين الآخرين، لأن التونسيين يعرفون أنه يسيطر على كل أدوات السلطة الحكومية.

وأضافتا، أن زعيم أهم نقابة عمالية في تونس، نور الدين طبوبي، أصبح صريحا بشكل متزايد في انتقاده لسعيد، ومع عضوية أكثر من مليون شخص - حوالي 8% من إجمالي سكان تونس - فإن نقابة طبوبي لديها القدرة على إيقاف الاقتصاد المتعثر بالفعل إذا دعت إلى إضراب. وعلى الرغم من قمع سعيد، لا تزال المظاهرات المناهضة للحكومة تندلع. في الأسابيع التي سبقت الانتخابات، نزل الآلاف من التونسيين إلى الشوارع تحت مظلة الشبكة التونسية للحقوق والحريات  مرددين هتافات برحيل سعيد وإطلاق سراح السجناء السياسيين.

وعلى الرغم من خيبة أملهم في التجربة الديمقراطية في تونس، نشأ الشباب في البلاد في مناخ من الحرية لا يرغب الكثيرون في التخلي عنه. لكنهم فقدوا الثقة في الانتخابات. فوفقا للحكومة التونسية، أدلى 28% فقط من الناخبين بأصواتهم في تشرين الأول/ أكتوبر، مقارنة بـ 49 بالمئة في عام 2019. وظل الشباب على وجه الخصوص في بيوتهم. ولكن بدلا من ذلك، يرى العديد من الشباب التونسيين أن الهجرة إلى أماكن أخرى هي الحل الأفضل.

ومع ذلك، لا يزال هناك أمل في أن يتمكن التونسيون من إصلاح مشاكل بلادهم من خلال العملية السياسية، فوفقا لدستور سعيد نفسه، يقتصر منصب الرئيس على فترتين، مما يعني أنه لا يمكنه الترشح في الانتخابات الرئاسية لعام 2029. وبالتالي، فإن التونسيين لديهم الفرصة - والالتزام - لبناء طبقة سياسية جديدة وأكثر جدارة بالثقة وفعالية على مدى السنوات الخمس المقبلة.

وعلى الرغم من أن العديد من الناشطين التونسيين المؤيدين للديمقراطية يعيشون الآن في المنفى في أوروبا أو أمريكا الشمالية، إلا أنهم قادرون على خلق الأساس لأحزاب وحركات سياسية جديدة ومنتعشة تقدم منصات واضحة لمعالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي ابتليت بها البلاد منذ ما قبل عام 2011.

كما ينبغي للحكومات الغربية بحسب الكاتبتين، أن تظهر للأصوات المؤيدة للديمقراطية المتبقية في البلاد أنها لا تزال تحظى بدعم خارجي من خلال إدانة القمع الشديد الذي حدد الحملة الانتخابية بقوة أكبر. كان القادة الغربيون محقين في عدم تهنئة سعيد بفوزه الصوري.

ويجب على الولايات المتحدة والدول الأوروبية تمويل شبكات حقوق الإنسان داخل البلاد وخارجها ويجب أن تستعد لاحتمال تجاوز سعيد لخطوط حمراء معينة، مثل إعدام سجين سياسي أو إصدار أوامر للشرطة بإطلاق النار على المتظاهرين.



ويمكن للدول الغربية، على سبيل المثال، إعداد قائمة بالأشخاص في الدائرة الداخلية لسعيد الذين هم على استعداد لمعاقبتهم إذا تجاوز خطا أحمر. لقد رفع سعيد بالفعل الرهان بشكل كبير على قمعه على مدى الأشهر القليلة الماضية، مثل اعتقال كل شخص تقريبا حاول الترشح ضده في الانتخابات الرئاسية.

وأوضح المقال، أنه ليس من السهل مواجهة حقيقة أن النموذج التونسي للانتقال الديمقراطي، الذي كان يُعتبر ذات يوم النقطة المضيئة الوحيدة في أعقاب الربيع العربي المحبطة، قد فشل. ألهمت ثورة البلاد الملايين من الناس في جميع أنحاء الشرق الأوسط للثورة ضد مستبدين في بلادهم.

وبين أن أولئك الذين يأملون في صحة الديمقراطية الدائمة في تونس يجب أن يواجهوا الواقع، لأنهم يجب أن يدركوا أن الجهود القادمة لمواجهة الاستبداد تحتاج إلى الذهاب إلى أبعد من ذي قبل نحو معالجة أعمق أشكال الظلم الاقتصادي والاجتماعي التي يواجهها التونسيون.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية تونس الاستبداد قيس سعيد الديمقراطية حقوق الإنسان تونس حقوق الإنسان الديمقراطية الاستبداد قيس سعيد سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العدید من فی البلاد فی تونس عام 2011 فی عام

إقرأ أيضاً:

اليسار التونسي.. عنوان واحد وفسيفساء مبعثرة

عندما صرخ كارل ماركس في خاتمة بيانه الشيوعي: "يا عمّال العالم اتحدوا"، لم تصل الصرخة على ما يبدو إلى مسامع اليسار التونسي، ولم تتردد أبدا في أروقته، فرغم انضوائه تحت العنوان الكبير لليسار، فإن فسيفساءه المتشظية جعلت منه "يسارات" متعددة، فشلت جميعها في انتهاز الفرص التاريخية العديدة لبلورة أفكارها وإحداث التغيير المنشود والمشاركة فيه، أو حتى الوصول إلى موقع مرغوب ضمن ترتيب السلطة في البلاد.

وعقب ثورة الياسمين عام 2011، لم تتحقق آمال اليسار العريضة في استغلال الحالة الثورية التي لطالما انتظرها لتحويل الزخم الجماهيري نحو تحقيق أهدافه. ورغم أن أحد أوائل مَن نادوا بانتخاب مجلس تأسيسي بعد الثورة كان زعيم حزب العمال الشيوعي حينها حمة الهمامي، فإن حزبه حصل على 3 مقاعد فقط من أصل 217، وحصلت جميع الأحزاب اليسارية الأخرى على نحو 11 مقعدا موزعة على 7 أحزاب.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2دارمانان ابن الحرْكي الذي يريد حكم فرنسا خالية من المسلمينlist 2 of 2"مدمن تعذيب الجزائريين" والسيرة البشعة لجان ماري لوبانend of list

تكررت مرارة تلك اللحظة في فم اليسار التونسي في مناسبات مختلفة، بعضها سبق لحظة انتخابات 2011، وبعضها لحقها حتى انتخابات 2019 وما بعدها.

فشأنه شأن العديد من تجارب معسكرات اليسار في دول أخرى، يعيش اليسار التونسي انقسامات فكرية وتنظيمية تتجلى في غياب جسم موحد يجمعه عند المواعيد الانتخابية، وتركيز الجهد على التنظير النخبوي والمعارك الأيديولوجية، أو ما يصفه الباحث وأستاذ علم الاجتماع التونسي المولدي قسومي بحالة "الطّفوليّة السياسيّة"، لكن أزمة اليسار التونسي لديها خصوصيتها أيضا، ولا يمكن فهمها دون النظر للعلاقة مع المحتل الفرنسي السابق.

إعلان التنظيم في تونس.. والهوى في فرنسا

نشأ أول مكونات اليسار التونسي مطلع عشرينيات القرن الماضي، بعد ثلاث سنوات تقريبا على الثورة البلشفية في روسيا. وبعد أن تنظم الرفاق البلشفيون وأطلقوا على أنفسهم الحزب الشيوعي، أخذوا على عاتقهم قيادة الثورة العالمية أو "إلهام عمّال العالم"، وهو ما لقي استجابة متحمسة خارج حدود روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية، وظهر آنذاك ما يُعرف باسم "الأممية الثالثة" أو "هيئة الأركان العامة للثورة العالمية".

ووقَّع كلٌّ من قائد الثورة فلاديمير لينين ورفيقه ليون تروتسكي وسبعة ثوريين أجانب مقيمين في موسكو في 24 يناير/كانون الثاني 1919 على رسالة إلى نحو 39 حزبا شيوعيا وثوريا، معظمها في أوروبا، دعوهم فيها إلى حضور "المؤتمر الأول للأممية الشيوعية" بهدف نشر النموذج السوفياتي للديمقراطية البروليتارية، والقطيعة تنظيميا مع الأممية الثانية (الإطار الذي جمع الأحزاب الاشتراكية والعمالية قبل عهد البلاشفة) وتحويل أحزابها المختلفة إلى أفرع للأممية الشيوعية، مع إنشاء هيئة قيادية مركزية في موسكو من شأنها توجيه الحركة الدولية.

ولبلوغ هدفهم، عمل القادة البلاشفة على تشتيت صفوف الأحزاب الاشتراكية الأوروبية وتصفيتها من اليمينيين والوسطيين، وكان ذلك هو مصير الحزب الاشتراكي الفرنسي في ديسمبر/كانون الأول 1920 حين خرج من صلبه الحزب الشيوعي الفرنسي مختارا الانضمام إلى الأممية الثالثة، ليصبح منذ حينه أحد أهم الأحزاب الشيوعية الرئيسية في أوروبا التي تلتزم إلى حدٍّ كبير بقرارات موسكو والسياسة الخارجية السوفياتية.

ولم تتوقف عمليات "البلشفة" عند الحزب الشيوعي في باريس ونظائره في أوروبا، ولكنها امتدت إلى المستعمرات الأوروبية ومنها تونس، التي كانت تحت الاحتلال الفرنسي حينها. فالجامعة الاشتراكية التي تأسست عام 1908 في تونس، وتبعت الفرع العمالي الأممي في فرنسا منذ عام 1912، وقع عليها ما وقع على المنظمة الأم في باريس من انقسام، فظهرت أول نواة شيوعية في البلاد عام 1921، وهو التاريخ الذي يُجمع أغلب المؤرخين على أنه لحظة انبعاث أولى الحركات اليسارية الشيوعية في تونس.

إعلان

كانت التبعية التي اتسمت بها علاقة الشيوعيين التونسيين بنظرائهم في باريس سببا في جعلهم "العجلة الخامسة للاحتلال الفرنسي"، كما يصفهم الصحفي الصافي سعيد، وجعلتهم عُرضة للانقسامات الأخرى التي عرفتها الحركة اليسارية العالمية. فكانوا من ناحية معزولين عن المجتمع التونسي ومنقطعين عن مشكلاته تحت الاحتلال، ومن ناحية أخرى يخوضون معارك فكرية وتنظيمية تدور رحاها خارج الحدود التونسية.

وظلت مواقف الشيوعيين التونسيين متماهية مع التوجه الشيوعي العالمي رغم "تونسة" التنظيم وانفصاله عن الأممية الشيوعية وتأسيس "الحزب الشيوعي بالقطر التونسي" عام 1939. ويقول الكاتب توفيق المديني إن الشيوعيين التونسيين كانوا عمليا يخدمون المصالح الفرنسية في تونس، فانقلابهم على الحزب الدستوري الحر بقيادة عبد العزيز الثعالبي بعد التحالف معه يُعزى إلى رفع الأممية الثالثة شعار "طبقة ضد طبقة"، معتبرة أن الثعالبي لا ينتمي إلى طبقة العمال.

وإلى جانب خضوع أولوياتهم إلى الأجندة السوفياتية والتركيز على محاربة "الفاشية العالمية" بعد صعود هتلر وموسوليني، دعم الشيوعيون التونسيون مشروع بقاء تونس ضمن الاتحاد الفرنسي، الذي كان من المفترض أن يحل بديلا من التنظيم الاستعماري القديم، وهو ما أضعف جهود الحركة الوطنية التونسية في محاربة الاحتلال.

ولم يلقَ الحزب الشيوعي على ضوء ذلك إقبالا شعبيا عليه، وكان أغلب مَن انضموا إليه عمالا فرنسيين وإيطاليين أو يهودا تونسيين بينما عزفت عنه جموع التونسيين، وهو ما دفع الحزب إلى تغيير اسمه مرة أخرى عام 1943 ليصبح "الحزب الشيوعي التونسي"، وينص في قانونه الأساسي بعد الاستقلال عام 1956 على اقتصار الانتماء إلى الحزب على الحاملين للجنسية التونسية دون غيرهم.

وتزامنا مع محاولات الحزب الشيوعي التونسي إيجاد موطئ قدم له في المجتمع المحلي، كان هناك يساريون آخرون من توجهات ومدارس أخرى يعملون على أصعدة مختلفة، بدأ ظهورهم مع التغيرات العالمية بعد الحرب العالمية الثانية، واستقلال تونس وعودة عدد من القيادات التونسية الاشتراكية من رحلتهم الدراسية في فرنسا، إلى جانب الانقسامات الجديدة في الخارطة اليسارية حول العالم.

إعلان تصدع اليسار العالمي وتبعثر المشهد التونسي

يقول ويلي تومبسون في كتابه "اليسار في التاريخ" إن الأممية لم تكن مجرد أداة الروس لقيادة الشيوعيين في العالم فحسب، بل كانت مساحة للجدل والخلافات العاطفية، سواء بين القيادات والشخصيات القوية أو بين المركز والأفرع.

فقد رأت القيادة أن الأحزاب الفرعية غير منضبطة بالقدر الذي عليه المركز، ولذا يجب "بلشفتها" وإخضاعها لقرارات موسكو، ما خلق مقاومة مضادة من بعض القيادات المحلية، الذين شعروا بالاستياء لخنق قدرتهم على اتخاذ قرارات مستقلة.

وكما كانت الأوضاع متضاربة على "ساحة الأممية الشيوعية"، كانت كذلك في موسكو نفسها، فقد أخذ شق ليون تروتسكي في الصعود، خاصة بعد وفاة مؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين عام 1922 وتمكُّن جوزيف ستالين من خلافته، ما خلق حالة جديدة واصطفافات مختلفة في خارطة اليسار العالمي.

جوزيف ستالين (مواقع التواصل)

اصطف تروتسكي إلى جانب استمرارية الثورة العالمية، في مقابل تركيز ستالين على الحفاظ على التجربة السوفياتية، وتوسع الخلاف وصولا إلى طرد تروتسكي من الحزب وترحيله من أراضي الاتحاد، حيث دعا في منفاه إلى تأسيس الأممية الرابعة والتخلص من نظام ستالين والبيروقراطية السوفياتية من أجل استكمال الثورة، حتى اغتياله في المكسيك عام 1940.

ومهّد هذا الصراع لتصدُّع اليسار العالمي بأكمله، وظهور ما يُعرف باليسار الجديد أو "الطريق الثالث" بديلا من اليسار التقليدي والليبرالية الحديثة بداية خمسينيات القرن الماضي، أي بعد الحرب العالمية الثانية، وهزيمة الفاشية والنازية واندلاع الحرب الباردة، حيث أراد اليسار الجديد التخلص من وصمة "الشيوعية" والتركيز على تعزيز الديمقراطية والحقوق الفردية وحقوق المرأة، وغيرها من المفاهيم التي استفرد بها الليبراليون ووصموا اليسار بسبب نبذها.

ولم تتخلف الساحة اليسارية في تونس كثيرا عن الانشقاقات الدائرة في ساحة اليسار العالمي، وإنْ اتخذت الخلافات أبعادا أخرى. فالصراع بين الرئيس الحبيب بورقيبة والزعيم صالح بن يوسف كان صراعا ذا أبعاد أيديولوجية يسارية، فتبنّي بورقيبة للاشتراكية الفرنسية كان نقطة خلاف محورية مع بن يوسف الذي اعتنق القومية العربية الناصرية، رغم أن كليهما يساريان، في حين كان الحزب الشيوعي التونسي وحيدا في المعارضة بوصفه حزبا قانونيا منظما.

إعلان

وبعد اغتيال بن يوسف عام 1961، ومحاولة الانقلاب الفاشلة على بورقيبة عام 1962، تأسس في باريس ما يُعرف باسم "مجموعة آفاق" (PERSPECTIVES)، وهو اختصار لـ"تجمُّع الدراسات والعمل الاشتراكي في تونس" الذي جمع شخصيات ماركسية وناصرية وتروتسكية وغيرها نادت بالتعددية الحزبية وحماية الحريات، تزامنا مع تغيير بورقيبة اسم حزبه إلى "الحزب الاشتراكي الدستوري"، وشروعه رفقة آخرين على رأسهم أحمد بن صالح في تطبيق تجربة اشتراكية جديدة باءت بالفشل، واتخذ يساريون آخرون مسارا نقابيا ضمن صفوف الاتحاد العام التونسي للشغل.

وفي حين بدت مجموعة "آفاق" الأكثر تماسكا والأقدر على احتواء التنوعات الفكرية والتنظيمية اليسارية المنقسمة بين السلطة والمعارضة والعمل النقابي، فإن ذلك لم يدم طويلا، فلم يسمح بورقيبة للآفاقيين بالنضوج والوصول إلى قيادة العمل اليساري المعارض وزج بهم في السجون مع أحكام بالسجن تصل إلى 20 عاما، سرعان ما تراجع عنها وأصدر عفوا رئاسيا عن جميع المحكومين عام 1970، لينتج عن ذلك "تفريخ" عدة تنظيمات يسارية جديدة سرعان ما اختلفت مواقفها في قضايا مثل طبيعة علاقات الإنتاج في تونس، وانتماء تونس إلى الأمة العربية الإسلامية والقضية الفلسطينية والصراع بين الصين والاتحاد السوفياتي.

وظهر على إثر ذلك كلٌّ من "العامل التونسي" و"التجمع الماركسي اللينيني" و"المنظمة الماركسية اللينينية و"الحركة الديمقراطية الجماهيرية" و"حزب الشعب الثوري التونسي" وغيرهم، وهو "تفريخ" سيتواصل على مدار العقود المقبلة في فترة بن علي، ثم أكثر بعد ثورة الياسمين عام 2011.

ومما زاد حسابات اليساريين إرباكا ظهور التيار الإسلامي في البلاد بداية السبعينيات، فهو خصم أيديولوجي في آنٍ ورفيق في المحنة أمام آلة القمع البورقيبية في الآن ذاته، فكان من الصعب بناء موقف متماسك أمامه.

إعلان

عن ذلك يقول المولدي قسومي في ورقة نشرها عن "خارطة اليسار التونسي" إن اليساريين، وعلى رأسهم الحزب الشيوعي، أبدوا تعاطفهم مع قيادات "الاتجاه الإسلامي" أمام المحاكمات التي تعرضوا لها في بداية الثمانينيات، لكنهم في الوقت ذاته كانوا ممتعضين من توظيف الجماعة للإسلام بوصفه "دين الجميع" لخدمة أجندة سياسية، بحسب قوله.

لم يدم هذا التعاطف طويلا، بل كان سببا آخر في مزيد انقسام اليسار التونسي، بين مَن فضَّلوا الانضمام إلى حكومة بن علي بداية التسعينيات من أجل القضاء على الإسلاميين، وبين مَن فضَّلوا معارضة سياساته على نحو مبدئي وإن كلَّفهم ذلك الاصطفاف مع الإسلاميين. فقد عمل محمد الشرفي، وهو أحد مؤسسي حركة "آفاق"، وزيرا للتعليم مدة عقد كامل في حكومة بن علي الأولى، ونفَّذ خلالها سياسته المعروفة باسم "تجفيف المنابع"، التي ترمي إلى القضاء على أي "منبع" للفكر الإسلامي في برامج التعليم أو داخل المجتمع التونسي.

في حين فضَّلت حركة التجديد (الاسم الجديد للحزب الشيوعي التونسي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، التي واصل محمد حرمل مهامه  أمينا عاما فيها) بقيادة السياسي والجامعي أحمد إبراهيم البقاء في صف المعارضة الشكلية إلى جانب "التجمّع الاشتراكي التقدّمي"، واختارت شخصيات يسارية أخرى معارضة نظام بن علي ودفع ثمن استبداده، منها حمة الهمامي ومية الجريبي وجلبار نقاش وغيرهم، وكان الخيط الفاصل بين هؤلاء هو سياسات النظام تجاه الإسلاميين، التي اختار بعضهم مساندتها، وفضَّل آخرون معارضتها، ليس تعاطفا مع الإسلاميين فحسب، بل وقوفا عند مبدأ مقارعة الاستبداد.

أحزاب في كل مكان.. وانقسام في كل زمان

لم تعرف فترة بن علي كثيرا من المنعطفات السياسية بسبب القبضة الأمنية المُحْكَمة والعدد القليل من الفاعلين السياسيين خارج إطار النظام، وكذلك كانت الخريطة الحزبية والسياسية أقرب إلى الجمود منذ بداية التسعينيات وحتى قيام الثورة التونسية عام 2011، حينها عاد الجميع إلى الساحة التي أصبحت فارغة من هيمنة التجمع الدستوري الديمقراطي، حزب بن علي، وشهدت تونس غداة الثورة ظهور أكثر من 60 حزبا دفعة واحدة، وصلت بنهاية العقد إلى 216 حزبا، مع المئات من الأحزاب التي رفضت السلطات ترخيصها.

إعلان

ولم تغب مكونات اليسار عن الانفجار الحزبي في تونس بعد الثورة، فقد كانت مؤهَّلة فكريا وتنظيميا لظهور العديد من الأحزاب التي يدَّعي كلٌّ منها أنه أصدق تمثيلا للفكر اليساري. لذلك فإن محنة اليسار "لم تنتهِ مع قيام الثورة التونسية" كما يقول مولدي قسومي، و"حالة التشظي والتفتت التي آل إليها اليسار بحلول التسعينيات إلى ما بعد الثورة لم تكن دليل تنوع وثراء فكري وأيديولوجي بقدر ما كانت مؤشرات خلاف وقطيعة وعلامة على ضيق صدور النشطاء".

وانقسم اليسار بادئ ذي بدء بين رافض للمشاركة في حكومة الوحدة الوطنية التي دعا إليها رئيس الوزراء محمد الغنوشي بعد هروب بن علي، مثل حزب العمال الشيوعي التونسي بقيادة حمة الهمامي، وبين قابل للمشاركة فيها، مثل التجمع الاشتراكي التقدمي وزعيمه السابق أحمد نجيب الشابي، وحركة التجديد وغيرها ممن كانوا سابقا ممثلين في برلمان بن علي.

السياسي التونسي المعارض حمة الهمامي (الجزيرة)

وبحلول موعد انتخابات المجلس التأسيسي بنهاية عام 2011، لم يكن اليسار يتوقع أن تشظيه وإستراتيجياته التواصلية الضعيفة تجاه شعب محافظ بالأساس، خاصة بشعارات مثل "الشيوعية" التي يصر على تصديرها، سيكلفه خسارة الانتخابات وحصوله على لقب "أحزاب صفر فاصلة"، كناية عن النِّسَب التي حصل عليها في تلك الانتخابات، وهو ما دفع أحزاب اليسار إلى الانضواء تحت لواء واحد بعنوان "الجبهة الشعبية لتحقيق أهداف الثورة" في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2012، أي بعد عام كامل من إعلان نتائج الانتخابات.

وضمَّت الجبهة 11 مكونا يساريا منها: حزب العمال، وحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، وحزب الوطنيون الديمقراطيون، وحزب النضال التقدمي، وحزب الطليعة العربي الديمقراطي، وحزب البعث بتونس، وحركة الشعب، وغيرها، في حين فضَّلت بعض المكونات اليسارية الأخرى الانضمام إلى حكومة الترويكا بقيادة حركة النهضة، وفضَّل بعضها الآخر ممارسة المعارضة خارج إطار الجبهة.

إعلان

ولاحقا، انصهرت تلك الأحزاب مجددا مع طيف أوسع من المعارضة ضمن ما سمي "جبهة الإنقاذ" التي ضمت أحزابا ليبرالية ودستورية ممثلة في حزب نداء تونس وآفاق تونس وغيرها، وذلك بعد اغتيال زعيم حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد شكري بلعيد صبيحة 6 فبراير/شباط 2013، وهو التحالف الذي استمر إلى حين انتخابات 2014، التي فاز فيها حزب نداء تونس، وحلَّت حركة النهضة ثانيا، والجبهة الشعبية رابعا.

ويكفي تتبع تحالفات اليسار التونسي منذ قيامه للوقوف على قدر "العشوائية" والغياب الواضح للتنظيم السياسي، فقد نشأ أولا بوصفه فرعا للأممية الشيوعية الفرنسية، ثم تحالف مع الحزب الدستوري المقاوم للاحتلال الفرنسي، ثم انفصل عنه واتهمه بموالاة الفاشية، ثم انقسم مع صعود بورقيبة إلى الحكم حين فضَّل جزء منه الانضمام إلى حكومته، وفضَّل آخرون البقاء في المعارضة، وهو ما تكرر في عهد بن علي حين أسهم بعضهم في تشكيل نظامه للقضاء على الإسلاميين، وتحالف آخرون معهم لتوحيد الجهود المعارضة لبن علي.

ثم تحالف اليسار مرة أخرى مع الليبراليين والدستوريين وأتباع النظام السابق في حزب نداء تونس ضد الائتلاف الحكومي الذي تقوده حركة النهضة، تحالف سرعان ما انفض بعد تحالف النداء والنهضة لتشكيل الحكومة عام 2014، ما أعاد الجبهة الشعبية للمعارضة دون تحالفات، وحتى انفصال الجناح اليساري المكون لحزب نداء تونس نفسه، ممثلا في قيادييه محسن مرزوق وبوجمعة الرميلي وغيرهما، ما يرسم صورة أن اليسار التونسي، إلى جانب انقساماته الفكرية والتنظيمية، ينقسم أيضا بين مَن "يهرول" للسلطة ومَن يعجز عن الخروج من دائرة المعارضة.

ويتتبع الكاتب توفيق المديني مسار تكوين الجبهة الشعبية والانقسامات الواضحة عليها منذ تأسيسها في كتاب بعنوان "اليسار التونسي وعولمة الطريق الثالث"، فلم يكن الفرقاء على اتفاق في البداية إلا على ضرورة توحُّدهم وتمثيل "الطريق الثالث" في تونس، لكن أول خلافاتهم كان حول الوصف المناسب لما حصل في 14 يناير/كانون الثاني 2011 "هل كان ثورة أم انتفاضة؟"، وهو خلاف على ما قد يبدو عليه من سطحية، فإنه مفصلي لتعاطي الجبهة مع الأحداث السياسية ورسم سياساتها بناءً على ذلك.

ويضيف المديني القول إن "عمل الجبهة الشعبية منذ تشكُّلها اتسم بالارتباك السياسي والارتجال في المواقف"، مُرجعا السبب إلى بقاء الانقسامات قائمة داخلها، وتحالفها مع نداء تونس ضمن "جبهة الإنقاذ" و"تنطح" زعيم حزب العمال حمة الهمامي لقيادتها واحتكاره اتخاذ القرار داخلها، ما أثار نزعة الزعامات والمصالح الفردية.

إعلان

ورغم ذلك، صمدت الجبهة الشعبية منذ تأسيسها وخلال فترة حكم النهضة والنداء حتى اقتراب موعد انتخابات 2019 الرئاسية، حين انفض زعيم حزب الوطنيين الديمقراطيين منجي الرحوي عن الجبهة واستقال معه عدد من مكوناتها، ليخوض اليسار الانتخابات مشتتا مرة أخرى بطريقة اختصرها الكاتب وسام حمدي في عنوان: "هوس الرئاسة في تونس.. لماذا تصر أحزاب اليسار على الفشل؟"، وهو ما أكدته نتائج الانتخابات بحصول المنجي الرحوي على نسبة 0.81%، يليه حمة الهمامي بنسبة 0.69%.

النائب والقيادي بالجبهة الشعبية اليسارية منجي الرحوي (الجزيرة)

وعلى اعتبار أن العائلة اليسارية أوسع من أطياف الجبهة الشعبية المتناحرة، فإن أكثر مَن حصل من المرشحين اليساريين على نسبة من الأصوات في الانتخابات الرئاسية كان الصافي سعيد بـ7%، محتلا بذلك المركز السادس.

وبعد إعلان الرئيس التونسي قيس سعيد في 25 يوليو/تموز 2021 الشروع في "إجراءات استثنائية لمواجهة الخطر الداهم"، وإغلاق البرلمان وتجميد نوابه والاستئثار بالسلطات الثلاث، كان رد فعل اليسار التونسي كالمعتاد منقسما في المعضلة ذاتها التي لطالما انقسم بشأنها، وهي الاختيار بين معارضة الاستبداد والتخندق مع الإسلاميين، أم مساندة الاستبداد والتخلص منهم.

ففي حين أعلن زعيم التيار الديمقراطي محمد عبو مساندته إجراءات "25 جويلية" بوصفه أكبر الأحزاب اليسارية، وتبعه زعيم الوطنيين الديمقراطيين الموحد المنجي الرحوي والأمين العام لحركة الشعب زهير المغزواي وغيرهم، قرر حمة الهمامي وآخرون معارضة الإجراءات والوقوف ضد عودة الاستبداد.

تتلخص إذن مسيرة اليسار التونسي حتى كتابة هذه الأسطر في أنه لا يتعلم من دروس الماضي، سواء ماضيه الذاتي أو ماضي اليسار العالمي، فإجراءات سعيد كما قال حمة الهمامي "مشابهة لما حدث عام 1987 عندما انقلب زین العابدین بن علي على الحبیب بورقیبة، وكان عدد التونسیین الذین خرجوا للاحتفال ببن علي یفوق مئات المرات عدد مَن خرجوا يوم 25 يوليو/تموز 2021 لمباركة إجراءات قيس سعيد، ويعلم الجميع اليوم الطريقة التي حكم بها بن علي تونس في العقود اللاحقة".

إعلان

ويبدو أن قيس سعيد اليوم يسير على خُطى مشابهة، ولا أدل على ذلك من الأحكام الصادرة أخيرا بحق زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي ورفاقه، في ظل ارتباك سياسي واضح في التعامل مع حالة الاستبداد التي تنزلق إليها تونس بسرعة.

فهل يعني ذلك موت اليسار في تونس؟ يقول القيادي في حركة النهضة أحمد قعلول إن اليسار لن يموت، "لكن الشروط الموضوعية والأيديولوجية لتوحُّده غير موجودة"، ما يعني أنه لن يكون قريبا من الفاعلية السياسية في المدى المنظور، وهي إجابة دقيقة إذا عرفنا أن اليسار في تونس رغم عجزه عن التنظيم والتنظم السياسي فإنه موجود بقوة في الساحات الثقافية والنقابية وفي مكونات المجتمع المدني، لكنه يظل عاجزا عن ترجمة هذا الوجود سياسيا، تماما كما هو حاله منذ عقود.

مقالات مشابهة

  • من داخل أروقة قصر الحكم في تونس
  • جلسات «الملتقى» في «الشارقة المسرحية» تناقش دور النقد
  • كيف يعمل النظام الانتخابي في ألمانيا؟ وما أبرز التعديلات الجديدة التي طرأت عليه هذا العام؟
  • ضمن حملة حماة تنبض من جديد… استمرار فتح الطرقات وإزالة الحواجز الإسمنتية التي وضعها النظام البائد
  • «الخصخصة في سوريا».. هل تكون «طوق النجاة» الذي ينتشل البلاد من أزمتها؟
  • اليسار التونسي.. عنوان واحد وفسيفساء مبعثرة
  • المليشيا الإرهابية تركب التونسية!
  • الديمقراطية في الأردن: بين وهم التحديث وحقيقة الاستبداد المقنّع
  • إيران تتجه نحو إلغاء الانتخابات الرئاسية.. مقترح برلماني في طهران يسلط الضوء على مفهوم الديمقراطية الدينية
  • عدد ساعات الصيام خلال شهر رمضان في تونس