كيف ساد الاستبداد في تونس وتحول النظام في عهد سعيد إلى حشي وفوضوي؟
تاريخ النشر: 5th, November 2024 GMT
تناولت مجلة "فورين أفيرز" في مقال للباحثتين سارة يركس، الزميلة في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، و سابينا هينبرغ، الزميلة في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، الأوضاع السياسية الراهنة في تونس بعد مرور 13 عاما على الربيع العربي.
وقالت الكاتبتان، إن تونس كانت تعتبر، قبل فترة ليست طويلة، واحدة من أكبر قصص النجاح في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فعلى عكس الدول العربية المجاورة التي شهدت انتفاضات شعبية ضخمة في عام 2011، لم ترجع تونس على الفور إلى الاستبداد أو تنحدر إلى حرب أهلية.
وأضاف المقال، مع ذلك، انهار هذا النجاح الآن بشكل حاسم. ففي الشهر الماضي، وللمرة الأولى منذ 14 عاما، أجرت تونس انتخابات رئاسية صورية، اتسمت بالتلاعب والقمع على نطاق واسع. أعلن الرئيس الحالي قيس سعيد أنه فاز بنسبة 90% من الأصوات. لقد حاول التونسيون الاحتجاج على استبداد سعيد، مما أثار الأمل بين المراقبين في أن البلاد قد تعود إلى مسارها الديمقراطي.
وبينت الكاتبتان، أن الحقيقة هي أن انهيار الديمقراطية التونسية الشابة كان قادما منذ فترة طويلة، وكانت المشاكل التي واجهتها نتيجة لانتصاراتها المبكرة.
بمرور الوقت، أدت السمات التي ساعدت حركة الربيع العربي في تونس على التميز وتحقيق إصلاح حقيقي - وأبرزها استعداد القادة التونسيين لتقاسم السلطة - إلى إعاقة الحكومة وأدت إلى الشلل. لم تتمكن الديمقراطية الجديدة من تحقيق إصلاحات جوهرية.
وعدم قدرة سماسرة السلطة في تونس بعد عام 2014 على إصلاح الاقتصاد على وجه الخصوص، إلى جانب الشعور المتزايد بين الناخبين بأن النخب تركز فقط على تعزيز ثرواتها، إلى تمهيد الطريق للاستيلاء الاستبدادي، وفق المقال.
انتُخب سعيد، استاذ القانون الدستوري، رئيسا ديمقراطيا في عام 2019، لكنه سرعان ما بدأ في تعزيز سلطته من خلال حل البرلمان وتعليق الدستور وسجن المعارضين.
وكان من غير الممكن انقاذ نموذج تونس للتحول الديمقراطي إلا إذا زادت الحكومات الأجنبية من دعمها للمعارضة والمجتمع المدني التونسي.. ولكن للأسف، لم تتحقق المساعدات بالكمية اللازمة. والآن فات الأوان لمثل هذا الإصلاح لإحداث فرق كبير بما فيه الكفاية.
وذكر المقال، أنه يمكن أن يُعزى قدر كبير من نجاح تونس خلال العقد الذي أعقب عام 2011 إلى مجتمع مدني نشط وقادة كانوا على استعداد للتنازل، باختصار، كان نموذج الحوار والإجماع هو الذي أخرج البلاد من الدكتاتورية. لكن دستور تونس لعام 2014، الذي صُمم لتجنب التركيز المفرط للسلطة، انتهى به الأمر إلى إعاقة عملية صنع القرار في الحكومة الديمقراطية.
ونتيجة لذلك، لم تتمكن الحكومة من تبني إصلاحات اقتصادية هيكلية كان من الممكن أن تعالج البطالة المتفشية بين الشباب، وارتفاع التضخم، والفساد المستمر الذي ابتليت به تونس لعقود من الزمان.
في البداية، برر سعيد تحركاته القمعية بأنها مؤقتة، بحجة أن البلاد كانت في خضم أزمة وأن السياسيين الآخرين غير مجهزين بشكل جيد لتلبية احتياجات التونسيين.
كان الجمهور قد أصيب بالإحباط بسبب فشل الديمقراطية في تحقيق مكاسب اقتصادية، ورأى في سعيد شخصا قادرا على كسر الجمود والتصدي للفساد داخل بقية الطبقة السياسية. لذلك دعموه في البداية، حتى مع تحايله على القانون. ولكن في عام 2022، نظم استفتاء لتدوين سياساته خارج نطاق القضاء في دستور جديد. ولم يكلف التونسيون أنفسهم عناء التصويت، وتم تمرير الاستفتاء.
حتى ذلك العام، كان الداعمون الرئيسيون لتونس - الولايات المتحدة وكذلك الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء - يقدمون للبلاد أكثر من 1.3 مليار دولار في شكل مساعدات اقتصادية سنويا. لكن الولايات المتحدة بدأت تشعر بالقلق من أن الاستمرار في تقديم هذه المساعدة قد يؤدي إلى دعم دكتاتور، لذلك خفضت ميزانية مساعداتها لتونس ووبخت سعيد على سلوكه الأكثر فظاعة وفق وصف المقال.
في غضون ذلك، أصبحت أوروبا أكثر استثمارا في قدرة تونس على وقف تدفق المهاجرين من دعم الديمقراطية في البلاد، كما خفضت مساعداتها للبلاد لكنها استمرت في تمويل شرطة الحدود وظلت صامتة إلى حد كبير بشأن قمع سعيد، ونتيجة لذلك، عانت الكيانات غير الحكومية التي كان من الممكن أن تستفيد من استمرار المساعدة.
وأشار المقال إلى أن تونس تبدو اليوم بشكل متزايد كما كانت في عهد زين العابدين بن علي، الدكتاتور الذي عمل التونسيون بجد للإطاحة به في عام 2011، فهناك القليل من حرية التعبير أو الصحافة، وتعمل قوات الأمن مع الإفلات من العقاب تقريبا.
وعلى الرغم من عدم مواجهة أي معارضة قابلة للتطبيق قبل انتخابه في عام 2024، أشرف سعيد في وقت سابق من هذا العام على اعتقال ما لا يقل عن اثني عشر مرشحا محتملا للرئاسة، تلقى العديد منهم أحكاما جنائية تحظر مشاركتهم في السياسة الانتخابية مدى الحياة.
وتم القبض على أحد المرشحَين اللذين وافقت الحكومة على خوضهما الانتخابات ضد سعيد، عياشي زامل، في أيلول/ سبتمبر وأدين بتهم ملفقة بتزوير التوقيعات لوضع اسمه على ورقة الاقتراع. أدار حملته من السجن، حيث من المقرر أن يبقى هناك لأكثر من 30 عاما. كما منعت لجنة الانتخابات التابعة لسعيد اثنين من أبرز الهيئات الرقابية المحلية في البلاد من مراقبة الانتخابات، متهمة إياهما بتلقي "تمويل أجنبي مشبوه" - وهو مصطلح شعبوي شائع.
لقد سجن سعيد العديد من النشطاء والمعارضين الآخرين، وعلى مدى العامين الماضيين، استخدم قانونا مثيرا للجدل صدر عام 2022 يجرّم نشر "الأخبار الكاذبة" لسجن كل من شيماء عيسى، زعيمة حركة المعارضة جبهة الإنقاذ الوطني؛ وسامي بن سلامة، العضو السابق في لجنة الانتخابات التونسية؛ والمحامية والمعلقة السياسية سونيا الدهماني.
وفي أيلول/ سبتمبر 2023، وفي خطوة وقحة بشكل خاص، حشدت الحكومة 51 شخصا من مختلف الطيف السياسي للمحاكمة في قضية واحدة. يواجهون بتهمة التآمر للإطاحة بالحكومة، اتهامات قد تشمل عقوبة الإعدام. حتى سهام بن سدرين، الرئيسة السابقة لهيئة الحقيقة والكرامة التونسية - التي أنشئت للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت خلال فترة ما قبل الثورة - اعتقلت في آب/ أغسطس بتهمة زائفة على الأرجح بأنها قبلت رشوة لتزوير التقرير النهائي للجنة.
وقالت الكاتبتان، إن نظام سعيد ليس وحشيا فحسب؛ ولكن في تونس، لا تزال الحكومة الحالية غارقة في الفوضى كما لا يمثل سعيد أي حزب سياسي ونادرا ما يتواصل مع مستشاريه. وقليل من المعينين في حكومته يستمرون في مناصبهم لأكثر من عام.
وفي آب/ أغسطس، أقال رئيس الوزراء، وعين خامس رئيس وزراء له في أقل من خمس سنوات، وبدأ تعديلا وزاريا أوسع نطاقا. وبعد بضعة أسابيع، استبدل جميع المحافظين الإقليميين في البلاد دون تفسير أو تحذير يذكر. وهذا التغيير المستمر في كبار المسؤولين يعني أن معظم السياسات تُصنع الآن بموجب مرسوم رئاسي مع القليل من المدخلات من أشخاص أو إدارات أخرى.
بعد إحباطهم من استيلاء سعيد على السلطة، بدأ التونسيون في الاعتراف بدوره في الأزمة الاقتصادية المتصاعدة والركود السياسي الذي يعاني منه بلدهم. يبلغ معدل البطالة الإجمالي في تونس 16 بالمئة وهو أعلى بكثير بين النساء والشباب؛ ومن المتوقع أن يكون نمو الناتج المحلي الإجمالي في البلاد لعام 2024 أقل من 2 بالمئة، ومن المتوقع أن يتجاوز التضخم 7 بالمئة هذا العام.
وأشارتا إلى أن التونسيين يواجهون العديد من المشاكل نفسها التي واجهوها في عهد بن علي ــ الفساد، وعدم المساواة، ووحشية الشرطة، والبطالة ــ فكلما طال أمد بقاء سعيد في منصبه، كلما قلت قدرته على تسويق نفسه باعتباره الرئيس الذي جاء من خارج الطبقة السياسية وهو يفقد القدرة على التضحية بالسياسيين الآخرين، لأن التونسيين يعرفون أنه يسيطر على كل أدوات السلطة الحكومية.
وأضافتا، أن زعيم أهم نقابة عمالية في تونس، نور الدين طبوبي، أصبح صريحا بشكل متزايد في انتقاده لسعيد، ومع عضوية أكثر من مليون شخص - حوالي 8% من إجمالي سكان تونس - فإن نقابة طبوبي لديها القدرة على إيقاف الاقتصاد المتعثر بالفعل إذا دعت إلى إضراب. وعلى الرغم من قمع سعيد، لا تزال المظاهرات المناهضة للحكومة تندلع. في الأسابيع التي سبقت الانتخابات، نزل الآلاف من التونسيين إلى الشوارع تحت مظلة الشبكة التونسية للحقوق والحريات مرددين هتافات برحيل سعيد وإطلاق سراح السجناء السياسيين.
وعلى الرغم من خيبة أملهم في التجربة الديمقراطية في تونس، نشأ الشباب في البلاد في مناخ من الحرية لا يرغب الكثيرون في التخلي عنه. لكنهم فقدوا الثقة في الانتخابات. فوفقا للحكومة التونسية، أدلى 28% فقط من الناخبين بأصواتهم في تشرين الأول/ أكتوبر، مقارنة بـ 49 بالمئة في عام 2019. وظل الشباب على وجه الخصوص في بيوتهم. ولكن بدلا من ذلك، يرى العديد من الشباب التونسيين أن الهجرة إلى أماكن أخرى هي الحل الأفضل.
ومع ذلك، لا يزال هناك أمل في أن يتمكن التونسيون من إصلاح مشاكل بلادهم من خلال العملية السياسية، فوفقا لدستور سعيد نفسه، يقتصر منصب الرئيس على فترتين، مما يعني أنه لا يمكنه الترشح في الانتخابات الرئاسية لعام 2029. وبالتالي، فإن التونسيين لديهم الفرصة - والالتزام - لبناء طبقة سياسية جديدة وأكثر جدارة بالثقة وفعالية على مدى السنوات الخمس المقبلة.
وعلى الرغم من أن العديد من الناشطين التونسيين المؤيدين للديمقراطية يعيشون الآن في المنفى في أوروبا أو أمريكا الشمالية، إلا أنهم قادرون على خلق الأساس لأحزاب وحركات سياسية جديدة ومنتعشة تقدم منصات واضحة لمعالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي ابتليت بها البلاد منذ ما قبل عام 2011.
كما ينبغي للحكومات الغربية بحسب الكاتبتين، أن تظهر للأصوات المؤيدة للديمقراطية المتبقية في البلاد أنها لا تزال تحظى بدعم خارجي من خلال إدانة القمع الشديد الذي حدد الحملة الانتخابية بقوة أكبر. كان القادة الغربيون محقين في عدم تهنئة سعيد بفوزه الصوري.
ويجب على الولايات المتحدة والدول الأوروبية تمويل شبكات حقوق الإنسان داخل البلاد وخارجها ويجب أن تستعد لاحتمال تجاوز سعيد لخطوط حمراء معينة، مثل إعدام سجين سياسي أو إصدار أوامر للشرطة بإطلاق النار على المتظاهرين.
ويمكن للدول الغربية، على سبيل المثال، إعداد قائمة بالأشخاص في الدائرة الداخلية لسعيد الذين هم على استعداد لمعاقبتهم إذا تجاوز خطا أحمر. لقد رفع سعيد بالفعل الرهان بشكل كبير على قمعه على مدى الأشهر القليلة الماضية، مثل اعتقال كل شخص تقريبا حاول الترشح ضده في الانتخابات الرئاسية.
وأوضح المقال، أنه ليس من السهل مواجهة حقيقة أن النموذج التونسي للانتقال الديمقراطي، الذي كان يُعتبر ذات يوم النقطة المضيئة الوحيدة في أعقاب الربيع العربي المحبطة، قد فشل. ألهمت ثورة البلاد الملايين من الناس في جميع أنحاء الشرق الأوسط للثورة ضد مستبدين في بلادهم.
وبين أن أولئك الذين يأملون في صحة الديمقراطية الدائمة في تونس يجب أن يواجهوا الواقع، لأنهم يجب أن يدركوا أن الجهود القادمة لمواجهة الاستبداد تحتاج إلى الذهاب إلى أبعد من ذي قبل نحو معالجة أعمق أشكال الظلم الاقتصادي والاجتماعي التي يواجهها التونسيون.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية تونس الاستبداد قيس سعيد الديمقراطية حقوق الإنسان تونس حقوق الإنسان الديمقراطية الاستبداد قيس سعيد سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العدید من فی البلاد فی تونس عام 2011 فی عام
إقرأ أيضاً:
وقف إطلاق النار في غزّة وتحول ميزان القوة
بسم الله الرحمن الرحيم
#وقف_إطلاق_النار في غزّة وتحول #ميزان_القوة
دوسلدورف/ أحمد سليمان العُمري
منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع #غزة، شهدت الساحة الفلسطينية تحولات دراماتيكية كان لها انعكاس كبير على مواقف الأطراف المعنية، وخاصّة في الجانب الإسرائيلي، فالتصعيد الأخير لم يكن مجرّد جولة أخرى من الحرب، بل كان له تأثير عميق على القوى السياسية والعسكرية في إسرائيل، مما جعلها تضطر إلى وقف إطلاق النار.
مقالات ذات صلة غزة بين نار العدوان والأمل بالسلام 2025/01/22هذه الصفقة، التي جرى التوصل إليها بعد مفاوضات معقّدة، جاءت في وقت كانت فيه إسرائيل تعاني من انقسامات داخلية شديدة، مع معاناة للجيش الإسرائيلي داخل قطاع غزّة.
الإحساس بالنصر في الشارع الفلسطيني
عند الإعلان عن صفقة وقف إطلاق النار، عبّر الشارع الفلسطيني في غزّة والفلسطيني عامّة والعربي عن مشاعر الانتصار، ورغم الخسائر البشرية والمادية الفادحة وغير المسبوقة في تاريخ الحروب التي تكبدتها غزّة، إلّا أنّ الفلسطينيين شعروا بالغلبة لأن جيش الاحتلال الإسرائيلي لم يحقق أي من أهدافه العسكرية المُعلنة، والتي كان يروج لها منذ بداية العدوان الغاشم، لا بل على العكس، أُجبر على إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار، ما يُعتبر هزيمة عسكرية ومعنوية.
وهنا استحضر بالضرور رأي التحليل العسكري، حسب الخبير العسكري، اللواء فايز الدويري: “النصر في الحروب غير المتناظرة يختلف كليّا عن الحروب التقليدية، فإذا استطاع الطرف الأضعف مواصلة القتال والبقاء، فهو يُعتبر منتصرا، في حين يُعتبر الطرف الأقوى خاسرا إذا لم يُحقّق النصر”. كما يرى أيضا المُحلّل العسكري، الدكتور نضال أبو زيد: “تفوّقت الفصائل الفلسطينية على إسرائيل من خلال صمودها وكسر إرادتها العسكرية”.
هذه التصريحات تتماشى مع ما ذكره اللواء الدويري حول الحروب غير المتناظرة، حيث يمكن للطرف الأضعف من حيث الإمكانيات تحقيق التفوق من خلال استراتيجيات فعّالة وصمود مستمر.
الخسائر البشرية والإحصاءات الجديدة
والحديث عن الخسائر البشرية الفلسطينية الغزّيّة حسب دراسة طبية نشرتها مجلة “ذا لانسيت”، فإنّ حصيلة الشهداء في القطاع خلال الأشهر التسعة الأولى من الحرب تجاوزت 64 ألف شهيدا، بزيادة قدرها 40% عن الأرقام الرسمية التي أصدرتها وزارة الصحة في غزّة، حيث سجّلت الوزارة 37,877 شهيدا حتى نهاية يونيو 2024، بينما قدّرت الدراسة الحديثة الرقم بين 55,298 و78,525.
يمثّل هذا الرقم 2.9% من سكان غزّة، ويشمل 59% من النساء والأطفال وكبار السن، إضافة إلى ذلك، تتوقّع تقارير أن حوالي 10 آلاف مفقود قد يكونون مدفونين تحت الأنقاض.
لقد استُخدم تحليل إحصائي متقدّم من قبل الباحثين باستخدام ثلاثة مصادر رئيسية لحصر أعداد الضحايا: البيانات الرسمية من وزارة الصحة، استطلاعات الإنترنت التي أطلقتها الوزارة، وبيانات النعي من وسائل التواصل الاجتماعي.
تعكس هذه الأرقام حجم الكارثة الإنسانية التي تعرّض لها سكان غزّة، حيث تشير الدراسة إلى أنّ الأعداد الحقيقية قد تكون أعلى بكثير بسبب الصعوبات في الوصول إلى جميع المناطق المتضرّرة، خاصّة مع استمرار الحصار والانقطاع المستمر للاتصالات. العديد من المؤسسات الدولية والأمم المتحدة أعربت عن قلقها من أنّ الحصيلة الفعلية قد تشمل المزيد من المفقودين والوفيات التي لم يتم توثيقها رسميا.
هذا الإحصائيات تعكس الهوّة الكبيرة بين الأرقام الرسمية والحقيقية التي يصعب حصرها بظلّ هذا الدمار وقتل كلّ مقوّمات الحياة، ويضع ضغوطا إضافية على المجتمع الدولي للتدخّل وإيجاد حلول دائمة لهذه الحرب غير المنتهية؛ المجتمع الدولي الذي راق له دور المتفرّج أو العاجز أمام إجرام الجيش والقرار السياسي الإسرائيلي.
خسائر الجيش الإسرائيلي وأثرها على القيادة الإسرائيلية
في الجانب الإسرائيلي، سجّل الجيش الإسرائيلي خسائر بشرية واقتصادية كبيرة، وخسائر إخلاقية هائلة؛ لم تعرفها الشعوب من قبل، وعزلة سياسية؛ ومُذكّرات اعتقال من المحكمة الجنائية.
وفقا للبيانات الرسمية الإسرائيلية، قُتل أكثر من 840 جنديا إسرائيليا في المعارك، رغم التفوّق العسكري، مما دفع المحللين العسكريين الإسرائيليين إلى تسليط الضوء على ما وصفوه بـ “الفشل الإستراتيجي” في العمليات العسكرية.
وعلى الجبهة التحليلية العسكرية الأخرى أشار الخبير العسكري الدويري إلى أنّ الخسائر المادية والبشرية في صفوف الجيش الإسرائيلي تفوق بكثير عمّا يُعلن عنه رسميا، وأوضح أن الجيش الإسرائيلي يخسر آلية و6 أفراد بين قتيل وجريح كل ساعة و20 دقيقة، مما يعني سقوط 3185 جنديا بين قتيل وجريح خلال 28 يوما من المعارك، إضافة إلى أنّ الأرقام التي يُعلنها الجيش الإسرائيلي عن خسائره في غزّة متواضعة ولا تعكس الواقع الحقيقي، لأنّ التقدير المنطقي يقول بأنّ جيش الإحتلال فقد بين 40% و45% من معداته القتالية خلال الحرب، ويُرجئ الدويري تحليله إلى طبيعة العمليات العسكرية والمواجهات الدائمة.
وفي أعقاب إبرام صفقة تبادل الأسرى؛ شهدت الساحة السياسية الإسرائيلية تطورات عميقة، ففي 19 يناير 2025، قدم وزير الأمن القومي الإسرائيلي، “إيتمار بن غفير”، استقالته من الحكومة، تلاه وزيرا المالية “بتسلئيل سموتريتش”، والداخلية “آرييه درعي”.
هذه الاستقالات جاءت نتيجة للانتقادات الحادة التي وُجّهت للحكومة الإسرائيلية بسبب إدارتها لحرب غزّة، والموافقة على وقف إطلاق النار والشعور العام بالإحباط داخل الأوساط السياسية الإسرائيلية.
دور ترامب في الصفقة
على الرغم من الوضع الداخلي المتوتّر في إسرائيل، فإن الضغوط الدولية، وخصوصا من الرئيس الأمريكي الجديد، دونالد ترامب، صاحب الدور المحوري في دفع نتنياهو وحكومته نحو قبول صفقة وقف إطلاق النار، من خلال مبعوث ترامب الخاص إلى الشرق الأوسط، “ستيفن ويتكوف”، الذي أسهم بالوساطة بين إسرائيل وحماس، وكان مُحمّلا برسالة تحذير من مغبة انهيار الاتفاق، الذي سيؤدي إلى فوضى عارمة. ولقد أرفق ترامب التحذير بتأكيدات لتقديم امتيازات لإسرائيل، إذا قبلت الاتفاق؛ وهو ما دفع الحكومة الإسرائيلية نحو الموافقة على الشروط.
لم تأتِ الضغوط الأمريكية من خلفية إنسانية أو أخلاقية، إنّما مدفوعة برغبة لاحتواء التصعيد ومنع توسّع رقعة الصراع إلى مناطق أخرى، قد تهدد استقرار المنطقة ومصالحها فيها.
دروس من العدوان الإسرائيلي وآثاره
أما على الصعيد الدولي، فقد شهدت القضية الفلسطينية دعما غير مسبوقا، فقد تزايدت الأصوات العالمية المطالبة بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، حيث اعترفت دول عدة بالدولة الفلسطينية وأكّدت على حقوق الفلسطينيين في مواجهة السياسات الإسرائيلية الإستيطانية والتوسّعية، فضلا عن العزلة التي أصبحت تعيشها إسرائيل جرّاء ذلك.
إن العدوان الإسرائيلي على غزّة يعكس الإنتهاكات الإسرائيلية المستمرّة في المنطقة، ويُثبت أنّ القوة العسكرية وحدها ليست كافية لإخضاع الشعب الفلسطيني المناضل، الذي أصرّ على تمسّكه بشروطه، مما دفع الاحتلال إلى قبول اتفاق وقف إطلاق النار، بضغط من دونالد ترامب.
وأخيرا، تبقى غزّة رمز الأنفة والكرامة والشجاعة الاسطورية؛ حقّا وليس تشبيها، رغم تخلّي العالم عنهم ووقوفهم وحدهم أمام حشود الشر، وهم داخل قطاع محُاصر.
سلامٌ على غزّة.
ahmad.omari11@yahoo.de