إذا كانت الأغنيات مما يسهل مشاركته مع الآخرين على خلاف الكتب الصوتية، فإني أستصعب مشاركة أغنيات مطربي المفضل عبدالكريم عبدالقادر. ثمة ما يجعل لأغانيه بُعدا شخصيّا حميما؛ لأنه كما يبدو قادر على إشعار من يستمع إليه بأنه يخصّه وحده ويغنّي له دون سواه، وهذا شعور غير قابل للمشاركة في اللحظة عينها والمكان عينه مع آخرين؛ فليغنِّ لفهد بطل رواية «فئران أمي حصة» وحده (فهد أوّل من شَخّصَ حالة عبدالكريم مع محبّيه عندما أجرى سعود السنعوسي على لسانه قوله: «عبدالكريم يغنّي لي وحدي»، قبل أن نكتشف أنه يغنّي لنا جميعا ولكن وحدنا)، وليغنِّ لمحمد الصالحي في السويق وحده، أو لحمود الحجري في بديّة، أو لوليد الشعيلي في صحار، ولكنّه لن يغنّي لنا معا في اللحظة نفسها وفي المكان عينه.
لعبدالكريم عبدالقادر سبعة وأربعون ألبوما غنائيا طوال مسيرته، ما يعني أن له من الأغاني ما يقترب من أو يتجاوز الخمسمائة أغنية، وهي لن تكون حزينة كلها، بل إن لديه من الأغنيات ما تتمايل لها الأجساد وتصفق لها الأيادي طربا، بل وصخبا.
فكرت في هذا الخاطر بعد سيل المنشورات والتغريدات التي أبّنت رحيله في الثاني عشر من مايو 2023م، وقد أجمعت كلها على أنه مَلِك الكلمة الحزينة واللحن الشجي، ولكنّي لا أنكر في الوقت عينه أن منشورا قد استوقفني للناقد السعودي محمّد العبّاس في صفحته على الفيسبوك بتاريخ 29 مايو 2023م، يقول فيه: «عبدالكريم عبدالقادر صوت مخملي رخيم تختاره الكلمات؛ كلمات الحب والوداع والانجراح والاشتياق. وبالضرورة تختاره الألحان الحزينة. لذلك عندما نسمّيه لا نقول: الفنان أو المطرب، بل الصوت الجريح. فالجرح بالنسبة له ضرورة كيانية وهوياتية. نعم بكل ما يحتشد به اللّقب من الدلالات الصوتيّة والنفسيّة الحسيّة. حيث الأغنيات المبتلّة بالدموع، الأغنيات الراسبة في حزن مشتعل بلا انطفاء، وحينها يصبح الحزن أليفا ورقيقا كالهواء، وكأنّ عبدالكريم عبدالقادر قد صار سجين صوته الحنون الذي أسرنا فيه ومعه. فنحن رفاق غربته، وهو أنس وحدتنا».لا بدّ أن أعترف أن كلاما كهذا يعزّيني شخصيّا في الرجل الذي ارتقى منزلة عليَّة في نفسي وأعجز عن صياغة وصفها: فهو ليس فنانا وحسب، ولا تعبّر كلمة مطرب حقا عن حالة لا يشبه فيها أحدا، إنه الصوت الجريح وكفى. اللّقب والدلالة التي أصبحت اسما وعلامة جمعت شخصه وفنه وإرثه وكل تاريخه، ولكنها أدخلته في دائرة الحزن طواعية دون اعتراض منه أو منّا، ليغدو سجين صوته الذي أسرنا فيه ومعه كما يقول العبّاس.
أفكر في هذا كلِّه وأتساءل: لماذا إذن أطير بينما أقود سيارتي عندما يغنّي: «أرجووووك أرجوووووك أبيك يم عيني»؟ ولماذا تملأ السعادة روحي عندما أغنّي معه كل صباح: «يا حيا الله أبو الوجه الصبوحي»، وإذا بشمس صوته الندية تفتح أبواب الصباح الجديد؟ ولماذا أجزم أن ألحان أغنيته «تدلّل» وكلماتها لم تكن لتوجد لولا لحظة فرح غامرة جمعت عبدالكريم عبدالقادر والشاعر خالد البذال والملحن أحمد المطوع؟ وأتساءل مرارا: كيف لمن غنّى «ما أطيق أشوفك يا حياتي حزينة»، و»بسك زعل» أن نحاصره بالحزن من زواياه الأربع، وهو الذي غنّى بفرح كامل: «أهني اليوم بك انت، عشانك من مواليده، وأغنّي لك في ميلادك، عساها لك سنة سعيدة، ضويت الشمع في يديني، حبست في وقتها أنفاسي، تمنّيتك تجي عندي، تعيش الفرحة بإحساسي»!
كيف نخطئ قراءة الفرح في صوته إذ يغنّي لأحوال العاشقين كلّها، فلا نتذكّره سوى بحزن أغاني الوداع، وننسى أغنيته «أقبلت» المعجونة بنكهات الفرح واللهفة والشغف؟ وكيف تفوتنا طاقة الحياة بورودها التي تأبى الذبول وأغصانها الريَّانة بالوصال في أغنيته «ورد الغرام» عندما يغنّي: «لا ما ذبل ورد الغرام بأراضيك، ما جفّ غصن يرتوي من وصالك، لا غاب زولك كل كلامي بطاريك، ما بين رمشي يرتسم لي خيالك»؟ وأليست أغنيته «أشتاق لك لي رحت عني وإن جيت عندي أكثر أشتاق» قادرة على توسيع مساحات الفرح على امتداد الطرقات؟ وألا يذكّرنا إيقاع أغنيته عندما يقول «زين الحلا يا ناس حيّر ظنوني» بجلسات السمر النديّة على ضربات الدفوف؟ ومثلها أغنيته عندما يقول: «سرى الليل يا قمرنا ولا جيت في سهرنا»؟ وكيف يغيب عنّا مزاجه الرائق وهو يغنّي: «زين زين .. تامر على القلب وتامر على العين» أو «يا آسري حبك شغلني عن الغير، ما يعجب عيوني لو ناظرت له»؟ أليست هذه كلّها لتذكّرنا بأن أحوال العاشقين لم تكن اسما عارضا عندما اختاره/ أو اختير له/ ليكون اسما لإذاعته؟ بعد كلِّ هذا، هل نحن بحاجة إلى إنصاف الصوت الجريح من محبّتنا الهائلة فنمنحه ونمنحنا -وقد رحل عنا- صورة لا تحصره في زاوية الحزن الكبير؟ هل باستطاعتنا أن نقترح أغنياته من غير استشراف حزن داهم عمّا قليل؟
لم أستطع تجاوز هذا السؤال منذ منتصف مايو من عام 2023، إلى أن شاهدت الحلقة الأخيرة من المسلسل الخليجي «ملح وسمرة» عبر منصّة شاهد بعد ما يزيد عن شهر من تاريخ وفاته، فأبهجني أن المسلسل قد أُهدي في خاتمته لروح عبدالكريم عبدالقادر. وقد سبق الخاتمة مشهدٌ أخير جمع نجوم المسلسل وهم يرقصون في نهاية سعيدة على إيقاع أغنيته الشهيرة: «آه يا الأسمر يا زين». أسعدني أني وجدت أخيرا من يؤبِّنه بفرح، ويهديه عملا دراميا بنهاية سعيدة، وأن أغنية لعبدالكريم عبدالقادر يمكن أن تسبّب حالة من العدوى وتدفع الجميع للرقص. كانت مجرد دقائق قليلة قبل أن ينتهي المسلسل بأغنية الفيديو الكليب القديم وهو يغنّي لمنى الروح والعين. على الأرجح لم تكن تلك الدقائق في خطّة صنّاع المسلسل، ولكن وفاة عبدالكريم عبدالقادر ألهمتهم إهداءه شيئا خاصا، فقالت تلك الدقائق ما كان في خاطري طوال شهر مضى قبل ذلك.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
اللهم همة كهمة دانيال!
في عالم يضج بالصخب والمصالح، يبرز بين الحين والآخر أشخاص يُختارون أن يكونوا صوتا للحق، حتى وإن كان الثمن جسديا ونفسيا. ومن بين هؤلاء الناشط البريطاني دانيال، الذي خطّ بقدميه العاريتين ملحمة صمود حين صعد برج بيغ بن في لندن منذ السابعة من صباح السبت (8 آذار/ مارس)، حاملا علم فلسطين، ومتحديا البرد القارس لـ17 ساعة متواصلة، ليطالب بالإفراج عن 18 ناشطا من حركة "بال آكشن" التضامنية مع فلسطين.
لم يكن هذا مجرد احتجاج عابر، بل كان موقفا يفيض بالمعنى، حيث نزف دانيال من قدميه، وعانى الجوع والعطش، لكنه ظل متمسكا بموقفه، رافضا النزول رغم محاولات الشرطة إقناعه. كان يدرك أن التضحية ليست خيارا سهلا، ولكنها ضرورة عندما يكون الظلم فادحا والحق صامتا. لم يكن وحده، بل كان امتدادا لسلسلة طويلة من النشطاء الغربيين الذين تحدوا حكوماتهم ومجتمعاتهم من أجل فلسطين.
كان يدرك أن التضحية ليست خيارا سهلا، ولكنها ضرورة عندما يكون الظلم فادحا والحق صامتا. لم يكن وحده، بل كان امتدادا لسلسلة طويلة من النشطاء الغربيين الذين تحدوا حكوماتهم ومجتمعاتهم من أجل فلسطين
تاريخ من التضحية لأجل فلسطين
لم يكن دانيال الأول، ولن يكون الأخير. فمن قبله، قدم العديد من النشطاء الغربيين مواقف بطولية في سبيل نصرة القضية الفلسطينية. أحد أشهر هذه الأمثلة هو راشيل كوري، الناشطة الأمريكية التي وقفت أمام جرافة الاحتلال عام2003 في غزة، محاولة منعها من هدم منازل الفلسطينيين، فدهستها الجرافة وقتلتها بوحشية. لم تكن مجرد متضامنة، بل كانت تؤمن أن الإنسانية تفرض علينا أن نقف في وجه الظلم، بغض النظر عن جنسيتنا أو ديانتنا.
وفي عام 2010، انضم مئات النشطاء من مختلف أنحاء العالم إلى أسطول الحرية الذي سعى إلى كسر الحصار عن غزة، وكان من بينهم الصحفي التركي فرقان دوغان، الذي كان يحمل الجنسية الأمريكية أيضا، لكنه قُتل برصاص الاحتلال خلال الهجوم على السفينة مافي مرمرة.
وفي عام 2018، لفتت الشابة الإسبانية جولييتا لاغوس الأنظار عندما انضمت إلى المظاهرات المناهضة للاحتلال في الضفة الغربية، حيث أصيبت برصاص الاحتلال أثناء مشاركتها في مسيرة سلمية لدعم حقوق الفلسطينيين. رغم ذلك، لم تتوقف عن التضامن، بل استمرت في نشر الوعي حول القضية الفلسطينية في بلدها.
كما شهدت السنوات الأخيرة مشاركة العديد من النشطاء الغربيين في حملات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، والتي كان لها تأثير واضح على الشركات المتواطئة مع الاحتلال، رغم الضغوط التي تمارسها الحكومات الغربية لإسكات هذه الأصوات.
أولئك النشطاء الغربيون لم يكن لديهم روابط دم أو هوية مع فلسطين، لكنهم أدركوا أن العدل لا يُحدّ بالحدود. فماذا عنّا؟ كيف نقبل أن يبذلوا أرواحهم وراحتهم بينما نتحجج بالبرد أو التعب؟
ليسوا وحدهم.. فأين نحن؟
أولئك النشطاء الغربيون لم يكن لديهم روابط دم أو هوية مع فلسطين، لكنهم أدركوا أن العدل لا يُحدّ بالحدود. فماذا عنّا؟ كيف نقبل أن يبذلوا أرواحهم وراحتهم بينما نتحجج بالبرد أو التعب؟
إذا كان دانيال يستطيع الصمود 17 ساعة على برج بيغ بن حافي القدمين، وإذا كانت راشيل كوري قد قدمت حياتها، وإذا كانت جولييتا لاغوس قد تعرضت للإصابة، وإذا كان أهل غزة أنفسهم في مقدمة الصفوف رغم القصف والجوع، فكيف نبرر تقاعسنا؟
فلسطين لا تحتاج متفرجين، بل تحتاج أصحاب همة.. فهل نكون منهم؟