وحيد الاسود وفرانك سيناترا .. بـ( ربع ) !!
تاريخ النشر: 4th, November 2024 GMT
بقلم : فالح حسون الدراجي ..
بعد أن احتل صدام الكويت عام 1990، بدأت اسواقنا تعرض بضائع لم نكن قد رأيناها من قبل، ولا كنا سنراها في العراق قطعاً ! كأجهزة الفيديو وسيارات الكاديلاك والكابرس، وساعات الرولكس الثمينة ولوحات بيكاسو، وأنواع العطور الراقية التي كنا نراها في صور المجلات والدعايات الاجنبية فقط، لكن ذلك قد تحقق بفضل (القزو)، وبركة الفلتان الذي تلاه، بعد أن أصيبت المنظومة الصدامية اصابة قاتلة، خاصة بعد فرض الحصار، بحيث اصبح الوضع الرقابي (فيطي).
وفي تلك الفترة، عرفنا ان ثمة جهازاً اسمه (الفيديو) يمكنك اقتناؤه، ومشاهدة مختلف الأفلام والأغاني والمسلسلات والمباريات المصورة من خلاله، وأنت جالس في بيتك.. وهكذا شاهدنا حلقات مسلسل رأفت الهجان كاملة بدون تقطيع، وشاهدنا أعمالاً مسرحية كثيرة كان عرض بعضها في تلفزيون العراق يعد أمراً مستحيلاً آنذاك.. لقد بات شراء كل شيء سهلاً بعد آذار عام 1991 من السوق السوداء ..
وبما إنني من سكنة مدينة الثورة / قطاع 43، وبيتنا لا يبعد عن سوق مريدي أكثر من 800 متر، وبما أن عدداً من محلات هذا السوق تعود لأخوتي واقاربي واصدقائي ومعارفي، فقد كان من الطبيعي ان أمر باستمرار على هذه السوق.. وأتجول فيها عصراً أحياناً..
وفي ذات يوم، وأنا أبحث عن شريط لفيلم اسمه: النزوات (Freaks).
وهو فيلم أمريكي قديم، يسلط الضوء على عدد من الأقزام المشوهين، الذين يعملون بالعروض الثانوية للسيرك، والذين قرروا الثأر من الفتاة الجميلة انتقاماً لقائدهم.. ومن خلال ما كتبه النقاد عن هذا الفيلم، إذ أعدوه واحداً من أشهر افلام الرعب في تاريخ السينما.. وبسبب محتواه المخيف فقد مُنع من العرض في بريطانيا 30 عاماً، ولم يصبح متاحاً للعامة إلا عندما صدرت منه نسخة فيديو، طرحت في الأسواق العامة 1990، والفيلم من اخراج (تود براونينغ).
وبناءً على ما سمعته وقرأته عن الفيلم، تولدت لدي رغبة بمشاهدته عبر شريط الفيديو.. لذا رحت ابحث عنه بين عشرات الاشرطة المبعثرة أمام أحد الباعة في سوق مريدي.. أدقق جيداً في العناوين المدونة على ظهر الشريط بالإنگليزية، لأن الباعة كانوا يموهون تفادياً للمشاكل، فيضعون ورقة مكتوباً عليها باللغة العربية: (فيلم أبي فوق الشجرة / عبد الحليم حافظ)، لكنك لن تجد في الشريط عبد الحليم، ولا أباه، ولا حتى الشجرة، إنما ستجد (بلاوى ومصائب) !
في سوق مريدي لم يكن ذلك الفتى وحده يفترش الأرض ويبيع الأشرطة في عصر ذلك اليوم، إنما كان معه أكثر من عشرة آخرين يبيعون أشرطة الفيديو المصورة واشرطة الكاسيت المسجلة، وقد كانت اغلب الكاسيتات من انتاج شركات عالمية، إلا أنها تحمل اسم شركة النظائر، كشركة تسويق ..
وبينما كنت منشغلاً في البحث، سمعت جدالاً بين البائع المجاور- وهو فتى أيضاً -ورجل في الاربعين من عمره.. وسبب الجدال كان حول إصرار البائع على بيع شريطين معاً: أحدهما يحتوي غناءً عربياً، والثاني (أجنبياً)، بداعي ان شريط الغناء الأجنبي غير مطلوب في السوق، لذا (يبقى نايم على گلبه) حسب تعبير البائع !. بينما يريد الرجل شراء كاسيت مسجل واحد وليس اثنين !
وهنا حاولت أن احل المشكلة، خاصة وأن سعر الشريطين رخيص جداً ، وقيمتهما معاً بـ (ربع)- أي ما يعادل دولاراً ونصفاً بسعر صرف الدولار الآن – فسألت الرجل اولاً عن الكاسيت الذي يريده؟
فقال: كاسيت للمطرب الشعبي (وحيد الأسود)، وعنوانه (شلون داده .. شلون داده) – وقد كانت هذه الأغنية مشهورة جداً في البيئة الشعبية آنذاك، ليس بسبب ايقاعها الراقص، وبساطتها فقط، إنما بسبب موضوعها الاجتماعي المميز أيضاً، رغم أن وحيد الأسود كان من مطربي حفلات الأعراس، ولم يكن مطرباً معترفاً به من قبل المؤسسات والجهات الفنية أو النقابية، لكنه حظي بمحبة خاصة من الناس، لبساطته وشعبيته وطيبة قلبه..
وحين سألت الرجل عن اسم الكاسيت (الأجنبي)، ناولني الشريط دون ان ينطق كلمة، وإذا بي أجده للمغني (فرانك سيناترا)، بعنوان: Love You Baby
أي : (احبك عزيزي) ..
فضحكت في سري، وقلت أي عالم غريب هذا، رجل يرفض شراء شريط يضم أغنيات مطرب يوصف من قبل النقّاد بأعظم مغنٍّ في القرن العشرين، وقد تجاوزت مبيعات اشرطته الرسمية ربع مليار شريط، عدا افلامه وحفلاته ونجاحاته الفذة، ناهيك من اهميته وفرادته ونجوميته التي جعلت اعظم رؤساء أمريكا يتملقون ويتقربون اليه، لاسيما قبل الانتخابات الرئاسية، حيث ساهم فعلاً بفوز الرؤساء روزفلت في انتخابات 1944، وكينيدي في انتخابات عام 1960، ثم تبنى حملة نيكسون الذي فاز بكرسي الرئاسة بفضله ايضاً، ثم دعم رونالد ريغان، الذي منحه ميدالية الحرية الرئاسية عام 1985، وهي أعلى تكريم يمنح من قبل الرئيس لمواطن أمريكي، ولو كان سيناتراً حياً هذه الأيام لدعم المرشحة الديمقراطية ( هاريس ) ويسهم في فوزها حتماً !!
وكي تعرفوا أهمية فرانك سيناترا، عليكم أن تعرفوا أنه المطرب الوحيد الذي يحتفل الأمريكيون في يوم 12 من شهر أيار من كل عام بيوم “فرانك سيناترا” تقديراً لتأثيره على الثقافة والفنون في أمريكا.
وللحق، فإن سيناترا يعد تقدمياً جداً في موقفه من التمييز العنصري والعرقي فقد كان اكثر الفنانين في امريكا انحيازاً لحقوق المواطنين السود آنذاك، حتى يقال إنه غادر مرة القاعة التي كان مقرراً أن يغني فيها بمدينة نيويورك حين دخلها ولم يجد بين الحضور جمهوراً من المواطنين السود، ولم يعد لقاعة الحفل حتى جاؤوا لها بحوالي مئتي شخص من السود الذين كانوا يقفون في الشوارع الخلفية للقاعة !
لهذا ضحكت وقتها، حين رفض الرجل شراء شريط سيناترا بـ (ربع)، وهو الأكثر والأغلى مبيعاً في تاريخ الغناء في العالم، كما أنه الحاصل على جائزة “غرامي” احدى عشرة مرة، وعلى جائزة “غولدن غلوب” أربع مرات، وجائزة “بيبادي” التي تُمنح لأكثر الشخصيات التلفزيونية والراديويّة تأثيراً في عام 1966، بالإضافة لامتلاكه ثلاث نجوم على ممر الشهرة في هوليوود.
ويعتبر النقاد بمختلف اذواقهم، صوت سيناترا اجمل وأرق الأصوات الغنائية، لهذا كان الجمهور يعشق صوته واغنياته في مختلف دول العالم، حتى يقال ان الحصول على مقعد بحفلاته الغنائية أصعب من الحصول على مقعد في الكونغرس الأمريكي، وكي تحصل على هذا المقعد يتوجب عليك الحجز قبل ستة أشهر من موعد الحفلة !!
كل هذا و(الأخ) يريد شراء شريط وحيد الأسود، ويرفض شريط سيناترا .. والبائع يصيح : عمي وين أودي الشريط الأجنبي؟!
وهنا تذكرت النكتة التي رواها لي الشاعر الكبير كاظم الحجاج، حيث قال:
” قلت لبائع السمك مرة : أريد هذه السمكة !
فقال البائع: أبيعها هي واختها ( اثنينهن سوية ) !
فقلت له: لا احتاج الثانية، واحدة تكفينا انا وزوجتي .. لكن البائع أصر على بيع السمكتين سوياً، قائلاً : عمي إذا أبيع لك وحدة.. وين اودي الثانية؟!
وهنا انفجر كاظم بوجهه قائلاً: حجي الله يخليك، آني جاي اشتري منك سمچة لو (نعال)، حتى تخاف على الفردة الثانية ما تنباع !!
فالح حسون الدراجيالمصدر: شبكة انباء العراق
كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات من قبل
إقرأ أيضاً:
بين نواح حسين خوجلي وعويل الأمهات: من الذي فقد الوطن؟
ذات نحيب، لا ناي فيه ولا وتر، كتب حسين خوجلي مرثية باذخة بمداد الدموع، لا بمداد الضمير الذي مات، يرثي فيها بيته الذي دمرته الحرب.
كتب، كمن دخل عليه الشاعر العباسي بشار بن برد فقال له: قمْ فابكِ بيتكم يا فتى، فقد نُهبت حيطانه كما نُهبت أعصابك. غير أن الفارق أنّ بشار كان ضريرًا لا يرى الخراب، بينما حسين يراه في بيت أسرته ولا يراه في ميدان القيادة.
يا لتعاسة البصيرة حين تقرر أن ترى ما يخصّك فقط، وتدير ظهرها لنداءات من بقوا تحت الركام.
يا حسين، إن كان منزلك يبكي، فقد بكته فقط كاميراتك، أما نحن، فنبكي منازلًا بلا جدران، مات فيها الأمل مرتين: مرة حين أتت عليه قذائفكم، ومرة حين جئتم تبكون على أطلالٍ لا تعني لغيركم سوى رماد ممتد فوق ذاكرة منسية، بينما أمهات الشهداء يمسحن صور أبنائهن من على جدران القيادة المحترقة.
ما قيمة مكتبة حيدر خوجلي أمام دماء محمد عبد السلام؟ ما قيمة وثائقكم العائلية أمام بقايا جمجمة البندقية عند بوابة الوطن؟
هل أصبح تاريخ الوطن أرشيفًا خاصًا تخزنونه في متحف الذات المنتفخة، المحروس بعسس الحنين الكاذب، لا ليبقى في ذاكرة الناس، بل ليستعرضه الحنين الأرستقراطي تحت إضاءة أستوديو لا يعرض سوى العداء لأحلامنا؟
وما هذا الذي تردده كختام؟ أهو رثاءٌ أم نشيد تمجيد طبقي؟
“لك يا منازلُ في القلوبِ منازلُ…”
دعنا نُكملها لك:
“لكنّ في صدورنا قبورًا
قبورٌ لم يزرها خطابك، ولم يجرؤ حبرك المدجّن أن يلامسها،
لأنك لا تكتب إلا حين تُسرق خزائنك، لا حين يُسفك الدم ويُغسل بالصمت الرسمي.”
أيها الباكي على “ديكور” وصور وتحف، أما رأيت دماءً على الجدران التي طلّيتَها بألوان الإنقاذ؟ أما رأيت وجوه الرفاق الذين قضوا تحت البوت؟ أم أنّك لا ترى إلا ما يصيب امتيازك الموروث؟
يا حسين، حين تُبكي البيوت، تُبكى معها أشياء الناس: ألعاب الأطفال، دفاتر المدارس، ثياب العيد التي لم تُلبس. أما بيتك، فقد كان رمزًا لامتيازٍ أعمى، لسلطة متغطرسة، لصفقة مع جهاز الأمن، لا لبيتٍ يُبكى عليه.
وما نحسبك إلا كما قال نيتشه: من بكوا على موت الأشياء، كانوا في الحقيقة يبكون على موت سلطتهم عليها.
أتعرف ما الفرق بين نواحك وعويل الأمهات؟
أنك تنوح على ذاكرة نُهبت من بيتٍ، بينما هن يصرخن من فراغٍ تمّ تجويفه بآلة التجاهل، فراغٌ لا يشبه الغياب بل يشبه القسوة وقد لبست قناع الأبدية.
أنت تبكي الصور، وهن يبكين من خرج من الصورة.
أنت تبكي الورق، وهن يُرضعن الحداد، يُسقين الحياة بالحليب الممزوج بالخذلان.
أنت تكتب، وهن يقرأن الصمت الذي لا يُرد، لأن من كتبوا الإجابة ماتوا.
إن كان لك بيتٌ، فقد كان لنا وطن.
وإن سرقوا أرشيفك، فقد سرقوا أكبادنا الغضة، أحلامنا الغضة، أسماءً لم تكتمل بعد في أفواه أمهاتها.
وإن أحرقت نيران الحرب خزانة كتبك، فقد أحرقت أعصاب الأمهات، وجفّ لبن المرضعات، وخجل التاريخ من نفسه.
إنها العدالة إذن، حين تُنهب بيوتكم وتُحرق. لا لأننا نريد لكم الأذى، بل لأنكم ما شعرتم قط بأذى الآخرين. لأنكم ورثتم بيتًا من الخراب وسمّيتموه مجدًا. بينما نحن، ورثنا الخراب نفسه وسمّيناه وطنًا.
ثم أأنت من يتغنى بسودان ٥٦؟ ذلك السودان الذي دفنتموه بأيديكم؟
أأنت من يبشر بالوسطية والاعتدال بعد أن تحوّلت قناتك إلى منبر تعوي فيه ضباع السلطان تحت إضاءة خشبة المسرح العسكري؟
أحقًا تريد أن تمزق أكذوبة المدني والعسكري، وأنت الذي كنت تسوّقها على أنها توازن العقلاء، بينما هي في حقيقتها تواطؤ الجبناء؟
النائحة ليست الأم الثكلى، بل من ينوح على سلطته وهو يتنكر لدم من ماتوا ليكتب اسمه.
وأخيرًا، لا تقل لنا إن المنازل تحس، لأنها لو كانت تحس لكتبت على جدرانها:
هنا سكن الكذب، وهنا بكى الفساد على نفسه.
ولو كانت تنطق، لقالت لك:
أخرس يا من جئت متأخرًا لتندب أثاثك، ونسيت أن تقرأ الفاتحة على الوطن.
حسين خوجلي يقول: “من كان يصدق أن حي ود نوباوي يُنهب؟”
ونحن نسأله: ومن كان يصدق أن الوطن كله يُغتصب تحت ظلكم الثقيل يا حسين؟
من كان يصدق أن تُعدم الخطى نحو المساجد، وأنتم من ملأها بخطب السلطان؟
من كان يصدق أن تكتبوا عن الخراب الذي زار بيوتكم، ولم تكتبوا حرفًا عن الخراب الذي حصد أرواح الأطفال في كولمبيا؟
دعك من البيت يا حسين،
واقرأ الفاتحة على الوطن.
وابكِ كما تشاء على بيتك،
وسنواصل دفن موتانا على صمت القناة.
zoolsaay@yahoo.com