ـ ما اللمسات البيانية من ذكر السجود قبل الركوع في قوله تعالى: «يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ»، علما بأن الصلاة تبدأ بالقيام ثم الركوع ثم السجود؟ وما الحكمة من اختصاص الركوع لتكون ضمن الراكعين وليس الساجدين أو القانتين؟ هذا الترتيب الوارد في هذه الآية الكريمة أي في قوله تعالى: «يا مريم اقنتي لربك وسجدي واركعي» مع الراكعين يشتمل هذا الترتيب على معاني عظيمة ودلالات عميقة، والسائل بارك الله فيه لم يذهب بعيدا حينما توقع أن يكون لهذا الترتيب بهذه الأوامر من ربنا جل وعلا لمريم عليها السلام بالقنوت أولا ثم بالركوع ثم بالسجود مع دلالات فيها لمسات قرآنية لطيفة. يظهر لي أن هناك معنيين يؤخذان من هذا الترتيب في هذه الآية الكريمة، المعنى الأول يتعلق بالانتقال من الكثرة إلى القلة أي من المطلوب من مريم عليه السلام أن تأتي به على جهة الإكثار إلى ما هو دون ذلك، وأما المعنى الثاني فإنه أيضا انتقال من الخفاء إلى العلن، فجاء الأمر بالقنوت أولا، والقنوت هو مداومة الطاعة مع خشوع واستكانة وتذلل، هذا هو جماع ما يدور حوله معنى القنوت الوارد في كتاب الله عز وجل، وإن تنوعت عبارات المفسرين وعبارات علماء اللغة إلا أنها لا تخرج عن هذا المعنى، فالقنوت ليس مجرد طاعة ولا هو مجرد خشوع كما يظن البعض، وإنما هو مداومة على الطاعة بخشوع واستكانة وتذلل فهو انصراف يبدأ من القلب إلى طاعة الله عز وجل بحيث يكون هذا القلب خاشعا متذللا مستكينا لله تبارك وتعالى متجها إلى ملازمة الطاعة والمداومة عليها. وهذا مطلوب منها في كل الأحوال أن تداوم على طاعة ربها، وأن يخشع قلبها له جل وعلا، وأن تجعل صلتها به سبحانه قائمة على تذلل والاستكانة والخشوع والإخبات، فإذن هذا هو المطلوب منها أن تأتي به على جهة التكثير والملازمة والمداومة في القنوت ثم تنتقل بعد ذلك إلى السجود، فالسجود يعني أن تكثر من الصلاة فإن السجود هو أشرف الهيئات في إظهار تذلل العبد إلى ربه جل وعلا، فإنه قد خص بالذكر هنا، وهذا يرد كثيرا في كتاب الله عز وجل، ويرد في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واللغة تؤيده بحيث يطلق على الكل بالبعض، لأنه أدل على الكل بالبعض، وهنا أمرت بالسجود لأنه يشمل سجود الخفاء في صلواتها بنفسها في تبتلها إلى ربها تبارك وتعالى آناء الليل وآناء النهار، تصلي لله عز وجل تقوم وتسجد في صلوات السر في الصلوات التي تكون في خفاء عندما تخلو إلى ربها جل وعلا فتأتي ما تستطيع من صلوات، وعبر عن هذا المأمور به بالسجود جميل، لكنه أقل من القنوت، فالقنوت يشمل صنوفا من الطاعات، وهو ينصرف إلى الباطن والظاهر، وهو يحتاج إلى استكانة وتذلل في كل الأحوال، في الأفعال والأقوال لا يقتصر على حالة من العبادات واحدة، أما السجود هنا فينصرف إلى سجود الصلاة، و لكنه لا يقتصر على الصلوات في جماعات، أو الصلوات في المساجد، أو الصلوات في بيوت الله تعالى، و إنما يشمل صلوات السر، يشمل الصلوات في محراب عبوديتها لله تبارك وتعالى في بيتها وحينما تخلو إلى نفسها، وفي أي مكان تنقطع فيه إلى ربها جل وعلا. ثم تنتقل الآية الكريمة بعد ذلك إلى أداء الصلوات في جماعة أو في بيوت الله عز وجل، حيث يؤدي معها غيرها، وهذا أقل من الثاني، وهما أقل من المأمور به أولا، ولذلك اقترنت هنا بالمعية مع الراكعين، أي هؤلاء الذين يصلون ويركعون لله تبارك وتعالى في بيوت الله عز وجل في جماعات أو منفردين، لكن المقصود هنا ليس صلوات السر وليس الصلوات التي تكون عند الانقطاع والخلوات، وإنما يقصد بها ما يكون في بيوت الله عز وجل وفي الأوقات التي أمروا أن يؤدوا فيها الصلاة، وبملاحظة هذا المعنى يتبين أيضا ما يتعلق بالجهة الثانية وهي جهة الإخفاء والإظهار، فهو انتقال مما هو أخفى إلى ما هو دونه في الخفاء أي أنه أقرب إلى الظهور إلى ما هو أظهر، وهذا يتناسب مع الحالة التي ستبتلى بها مريم عليه السلام، فإن أمر حملها بعيسى عليه السلام سيكون خفيا ثم بعد ذلك سيظهر شيئا فشيئا، وتحتاج إلى هذا الإعداد الرباني لتتمكن من مواجهة ما سيلقاه بها قومها حينما تأتي بعيسى عليه السلام وهو أيضا يتناسب مع هذا المقام العالي الرفيع لمريم عليه السلام وهي في مصاف الصديقين، فيحتاج المكلف إلى أن يكثر من العبادات التي لا يطلع عليها أحد وأن يصلح سريرة نفسه، وأن يزكي قلبه لينعكس ذلك في أعماله وأقواله، كما يحتاج إلى أن ينقطع إلى الصلوات التي يخلو بها مع ربه جل وعلا في جوف الليل، وفي الأوقات التي يغفل فيها غيره عن القيام بهذه العبادات، مع لزوم أيضا شهود الجماعات والمواضع التي يؤمر فيها المؤمنون بالشهود والحضور. وأما لماذا قال الراكعين ولم يقل الراكعات فلأن هذا إنما يأتي على سبيل التغليب ليدخل فيه الرجال والنساء فلو قال الراكعات فإن الرجال لا يدخلون فيه وإنما أريد هو إدخال الجميع هذا الذي يظهر لي والله تعالى أعلم. -هل يجوز قطع الأشجار الحية الخضراء للاستفادة من خشبها كالسمر مثلا إذا كانت الشجرة أيضا لا فائدة منها كالاستظلال بظلها وجني الثمار؟ إن كان محتاجا إلى حطب فله أن يقطع من الأشجار الميتة أو اليابسة، أما الأشجار الخضراء المورقة فلا تخلو من فائدة للإنسان أو لطير أو لبهيمة أو للبيئة بمنع التصحر والمحافظة على المراعي وتثبيت التربة وتنقية الغلاف الجوي حيث تبين اليوم أن المحافظة على الغطاء الأخضر وعلى هذه الأشجار لا يمكن أن تخلو من فائدة وهذه كلها معتبرة شرعا، فلا ينبغي للمسلم أن يعمد إلى الأشجار الخضراء بقطعها أو اقتلاعها، لأن ذلك مما يتنافى مع مقاصد هذه الشريعة، فإن كان محتاجا لشيء من الحطب فليكن ذلك من الأشجار الميتة، الصالحة للحطب أو من الأغصان اليابسة أو الأشجار اليابسة أو الفروع اليابسة فلا حرج عليه. لكن يحسن التنبيه هنا إلى ما يتداوله كثير من الناس من روايات وأحاديث تنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوعيد من قطع السدر، وأكثر علماء الحديث على أن هذه الأحاديث لا تخلو من مقال، حاول بعض المتأخرين قبول بعض الروايات بالتحسين أو حتى بالتصحيح، لكن ذلك بعيد، فليس شيء من هذه الروايات خاليا من مقال ومع ذلك فحتى لو قيل بقبول بعض الروايات فإن المقصود هو ما كان على جهة العبث، أما ما كان لمنفعة أو مصلحة راجحة فهذا لا يشمله الوعيد، ومن شراح الحديث من رأى بأن هذا الوعيد إنما هو مقتصر على أشجار الحرم للنهي عن قطعها، ولكن مع ذلك فإن القاعدة المطردة هو أن ما كان من شجر نافع فإنه لا ينبغي للمسلم أن يقطعه لأنه لا يخلو من فائدة. وهناك تنبيه آخر يتعلق ببعض الأشجار الضارة التي يمكن أن تسمى أشجارا غازية، وهي أن تكون وافدة غريبة على البيئات، لا يمنعها من النمو ملوحة ولا جفاف ولا شيء، وهذه لا ينتفع منها إنسان ولا طير ولا بهيمة، ولعلها تقضي على الأشجار المحلية النافعة المفيدة كالسدر والسمر والغاف وغيرها من الأشجار البرية، هذه الأشجار الغازية الطفيلية أو التي تقضي على ما سواها من الأشجار ولا ينتفع منها فهذه، لا منع من إزالتها، وينبغي التعاون على ذلك. والله تعالى أعلم. -هل يلزم إعادة ما صليت قصرا وجمعا بنية السفر في البيت وقبل الشروع في السفر؟ لا يسوغ له أن يقصر وهو في بيته، فالقصر إنما يكون للمسافر، وأما الجمع فيمكن أن يكون لغير المسافر، يمكن أن يكون لعذر كمرض أو مطر شديد أو ريح شديدة أو تغير في أحوال الجو يشق معها الذهاب إلى المساجد، ويمكن أن يكون بدون ذلك كله، لا على سبيل الاعتياد، كما في رواية ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل لكن لا على سبيل الاعتياد، لعله صلى الله عليه وآله وسلم ما فعله إلا مرة أو مرتين، لأجل رفع الحرج عن أمته، وبيان الجواز لكن دون أن يتوسع الناس فيه، لكن في هذه الصور كلها فإن هذا الذي يجمع ليس له أن يقصر الصلاة، لأنه ليس بمسافر حتى يقال بأنه يقصر الصلاة، وعلى هذا فإن عليه أن يعيد هذه الصلوات التي صلاها في بيته قصرا والله تعالى أعلم. ـ السائل يقول: ما حكم سترة الإمام؟ هذه المسألة فيها أقوال عند فقهاء الإسلام، فمنهم من قال بوجوبها عند خوف المرور بين يدي المصلي، والأكثر على استحبابها لا سيما مع أمن المرور بين يدي المصلي، ويقصدون مرور إنسان أو دابة، فحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا صلى أحدكم فليتخذ سترة وليدن منها ويمنع المار بين يديه». وفي حكم اتخاذ السترة جملة من الأحاديث هذا الحديث أشهرها الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكن الذي صرف الأمر عند الأكثر عن الوجوب إلى الاستحباب هو أيضا ما ورد أنه عليه الصلاة والسلام خرج في سفر فصلى في الصحراء دون سترة، لأنه أمن أن يمر أحد بين يديه أو أن يمر شيء بين يديه ولذلك قالوا بأن هذا الأمر الوارد في الحديث الأول دفعته عن الوجوب هذه القرينة والمسألة فيها كما تقدم خلاف لكن كل الفقهاء يتفقون على أن الأولى للمصلي أن يتخذ سترة أمامه، وأن يقترب منها بحيث يمنع مرور إنسان أو دابة بينه وبين سترته. وذكروا حكمة أخرى قالوا لأجل أن يكون ذلك أجمع لقلبه، فلا يشتت نظرة فيما وراء السترة أو ما حولها، وذلك أدعى إلى خشوعه في صلاته، إذن كثير من الفقهاء أو أكثر الفقهاء على استحباب اتخاذ سترة وقيل بوجوبها دون أن يكون ذلك مفضيا إلى بطلان الصلاة هذه هي جملة الأقوال، ويبدو أن القول بأن ذلك مما يستحب ويسن بتأكيد للمصلي عند عدم الأمن من مرور مار بين يدي المصلي هو القول الأكثر إقناعا. يكفي أن تكون عصا، إن لم يجد السترة الكافية لتحقيق هذه المعاني فلا اقل من أن يتخذ عصا، وورد في بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ سيفا وقيل بأن ذلك كان في الفلوات، لم يكن في المساجد، وبالمناسبة في حالة صلاة الجماعة فإن الإمام ينبغي له أن يصلي إما إلى المحراب أو إلى جدار المسجد، أو إن كان بعيدا عن المحراب فينبغي أن يتخذ سترة أمامه، والإمام فهو سترة المصلين خلفه فلا يؤمر المأمومون أن يتخذ كل واحد منهم سترة، فسترتهم إمامهم، وإذا صلوا منفردين فقد يكون من المشقة بل قد يكون من المتعذر أن يتخذ كل واحد منهم داخل المسجد سترة، ولم يعهد هذا فيها مرور المار بين يدي المصلي. ولذلك اتجه الخطاب أيضا إلى المصلين بألا يمروا بين يدي المصلي وأن يقفوا عن المرور وأنهم لو يعلمون ما على المار بين يدي المصلي لوقف إلى أربعين قيل إلى أربعين خريفا، فالخطاب أيضا متجه إلى المصلين بحيث لا يمروا أمام المصلي. والله تعالى أعلم. السائل يسأل عن أهمية السترة خلف الإمام، هل له أهمية خاصة، وهل له اشتراطات؟ نعم هذا لأنه خليفة الإمام فإذا أصاب الإمام شيء يدعوه إلى الاستخلاف فإن عليه أن يستخلف الذي يكون وراءه، فالذي يقف آخذا بقافية الإمام هو في الحقيقة خليفة للإمام، والأصل أن يكون هو الأقرب إلى تنبيه الإمام وتذكيره إن سهى أو نسي في صلاته بشيء، فتكمن أهميته في هذه الأحكام الشرعية المترتبة على وجوده خلف الإمام، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر أصحابه أن يليه ذو الأحلام وذو القرآن منهم ثم الذين يلونهم، لأن الذي يقف خلف الإمام كما تقدم هو المؤهل ليكون خليفته في الإمام إن طرأ شيء، ولا يعني هذا أنه لا يستخلف غيره لكن الأولى بالاستخلاف هو، والله تعالى أعلم. |