هناك العديد من المعطيات التي تشير إلى فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأميركية في الانتخابات الجارية، لكن التساؤل الذي نطرحه هو: ما الذي سيترتب على فوز ترامب، الذي يرى نفسه ذكيًا وعبقريًا وأن رئاسة أميركا سُرقت منه سابقًا؟
ترامب من النوع الذي يؤمن بأن السياسة رياضة عنيفة يمكن أن تتعرض فيها لضربة قوية فتخرج من الحلبة، وقد بدا هذا المفهوم واضحًا في تعامله مع معاونيه في رئاسته الأولى حتى فصل أحدهم بتغريدة.
لذا فإن ترامب سيتجاذبه جناحان: جناح من المؤسسة التقليدية الأميركية ممن لديهم تاريخ في العمل السياسي داخل أجهزة الدولة وفي الكونغرس، وجناح آخر هو الشعبوي الذي يزيد من عنصرية ترامب وقراراته ضد المهاجرين والهجرة، فضلًا عن أن نجاحه سيعزز لديه سطوة الصورة الإعلامية؛ فالنجاح الذي يحققه أتى من قدرته على دغدغة مشاعر الناس.
لذا، لديه جمهور عنصري مساند وجمهور محافظ ضد المثلية والإجهاض، وهو يدرك أن المزيد من المحافظة والعنصرية يضمن له ظهيرًا شعبيًا، في الوقت الذي ستثار فيه مشاكل عرقية وإثنية متصاعدة قد تقود إلى عنف لا يعرف مداه، لكنه لن يصل إلى حرب أهلية.
ستنغلق أميركا على الداخل؛ فترامب يضع أميركا أولًا حتى لو أدى ذلك إلى تجاهل مشاكل شركائها. فعقلية رجل الأعمال القائمة على الاستحواذ، وتحقيق نسب أرباح عالية ومكاسب دون وازع أخلاقي تسيطر عليه.
من هنا، فإن علاقة أوروبا بأميركا ستشهد مرحلة من التوترات قد تقود إلى خسارة أولاف شولتس حكم ألمانيا، وهو الذي رهن مصالح بلاده من أجل التحالف مع الولايات المتحدة ضد روسيا.
هذا سيكون نتيجة طبيعية لوقف ترامب الدعم الأميركي لأوكرانيا، فالمواطن الأميركي يرى أنه يدفع ضرائب لحرب لا يراها ضرورية بالنسبة له، فضلًا عن أن تكاليف الوجود الأميركي في حلف الناتو لحماية أوروبا يراها باهظة، وعلى الأوروبيين تحمل جزء كبير منها.
لكن الحقيقة التي لا يدركها الكثيرون هي أن فوز ترامب يمثل بداية انفصال هادئ في العلاقات الأميركية الأوروبية التي قامت منذ الحرب العالمية الثانية على تقاطعات وتشابكات معقدة. ولن يضع الأوروبيون أنفسهم مرة أخرى رهن التغير في السياسات الأميركية، في الوقت الذي تتجه فيه أميركا لأن تكون دولة من الدرجة الأولى وليس دولة قائدة وحامية، كنتيجة للحرب العالمية الثانية. فهل انتهت هذه الحقبة؟
الآن، فإن فاز ترامب، سيسعى إلى فرض المزيد من الحواجز أمام الصين التي تهدد عرش الاقتصاد العالمي الذي تتربع عليه أميركا. وفي حقيقة الأمر، أن ترامب بالنسبة للصين رئيس يعجل بإعلان الصراع الصيني الأميركي بصورة واضحة وصريحة، وليس خلف الكواليس.
لذا، سينتقل الصراع من أوروبا (حلف الأطلسي – روسيا) إلى آسيا (أميركا – الصين) لتصبح الحرب اقتصادية – سياسية. هذا قد يدفع الصين إلى بناء تحالفات دولية تصنع شروخًا في النظام العالمي، إلا إذا كان ترامب في حلبة المصارعة لا يريد أن يتلقى ضربة قاضية من الصين، ولا يريد توجيه ضربة قاضية لها، فيتوجه لزيارتها ليخلق لدى المراقبين حالة من الارتباك في بناء تحليلات حول سياساته وشخصيته، وهو كرجل أعمال مغامر قد يفعلها ليقلب الطاولة على الجميع.
يرى ترامب المنطقة العربية في إطار منطقة الخليج العربي لثقلها الاقتصادي، وهذا ما يجعله يعود لهذه المنطقة مرة أخرى لتعزيز الشراكة. كما أنه سيحاول العودة لتحجيم إيران مجددًا بعد أن تنفّست الصعداء مع بايدن، ليكون لديه رؤية تتعلق بأن على الفلسطينيين القبول بالحد الأدنى لحل قضيتهم. وبالتالي، فإن انتظار نتنياهو فوزه، ومد أمد الحرب يأتيان من باب أن ترامب سيكون أكثر تحيزًا لإسرائيل.
لكن الواقع يقول إن الولايات المتحدة لديها حالة عداء في الشرق الأوسط غير مسبوقة، فضلًا عن موقف مسلمي الولايات المتحدة من الحرب، وكذلك جيل شباب الجامعات في أميركا المناهض للحرب والمناصر لفلسطين.
هذان العاملان الداخليان سيشكلان تحولًا ما في سياسات ترامب تجاه القضية الفلسطينية، خاصة بوجود المسلمين الذين سيشاركون في إدارته، والتخوف من ردود الأفعال – في حال استمرار الحرب على الفلسطينيين – ضد مصالح الولايات المتحدة.
لذا، على أرض الواقع، سيسعى ترامب لوقف الحرب والبحث عن مخرج يحفظ له مظهر المستوعب لرغبات العرب والمسلمين، والمنحاز لإسرائيل، لكن بعيدًا عن لغة الحرب والتهديدات، وسيكون هذا موقفًا حاسمًا منه ستحترمه إسرائيل؛ خوفًا من فقدان الدعم الأميركي، مما يفقدها أهم حليف إستراتيجي لها.
الحقيقة الأخيرة، سواء كان الفائز ترامب أم كامالا هاريس، هي أن الولايات المتحدة في السنوات القادمة ستشهد تراجعًا على الصعيد الدولي لصالح الصين والهند، اللتين تتحالفان حاليًا بعد تسوية مشكلة الحدود المشتركة، لتبرز قوة جديدة من هذا التحالف الهندي الصيني الذي سيقود عالمًا جديدًا مختلفًا قائمًا على تعددية الأقطاب.
يبقى السؤال: كيف ستتعامل الولايات المتحدة مع الاستقطاب الجديد، في ظل الانكفاء على مشكلات الداخل الأميركي المتصاعدة من الديون إلى الرأسمالية المتوحشة والعنصرية وافتقاد الأميركيين لحياة الرفاه؟
مع ذلك، فإن كل هذا يتطلب من ترامب التفكير خارج الصندوق؛ فجمود المؤسسة الحاكمة: (الحزب الجمهوري – الحزب الديمقراطي – أجهزة الدولة) أدى إلى ضعف إدارة الدولة الأميركية حتى صار هناك ثغرات في إفراز قيادات وساسة بكفاءة عالية، وهو ما حذر منه هنري كيسنجر في كتابه "القيادة" الذي صدر قبل وفاته.
فكل من ترامب وهاريس لا يرتقيان إلى مستوى حل مشكلات الولايات المتحدة، ولا يمتلكان الخيال السياسي الذي يخرج أميركا من مأزقها؛ فهي بين الدولة العظمى القائدة وبين دولة من الدرجة الأولى منكفئة على مصالحها. هذا الوضع مؤشر على عالم جديد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الولایات المتحدة
إقرأ أيضاً:
الملياردير الوحيد الذي لم يخسر بسبب رسوم ترامب الجمركية
في خضم التقلبات العنيفة التي شهدتها الأسواق العالمية نتيجة للرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، برز اسم واحد فقط من بين قائمة أغنى 500 ملياردير في العالم تمكّن من الحفاظ على ثروته بل وتحقيق مكاسب، ألا وهو المستثمر الشهير وارن بافيت، رئيس مجلس إدارة شركة بيركشاير هاثاوي.
ووفقاً لمؤشر “بلومبيرغ للمليارديرات”، فإن 499 من أغنى رجال العالم تكبّدوا خسائر فادحة منذ بدء الحرب التجارية التي أشعلها ترامب، حيث تسبّبت الرسوم الجمركية في هزات كبيرة داخل الأسواق المالية العالمية، فيما كان بافيت، البالغ من العمر 94 عاماً، استثناءً نادراً.
وبينما سجّل إيلون ماسك خسائر بلغت 130 مليار دولار منذ بداية العام، وشهد كل من جيف بيزوس ومارك زوكربيرغ تراجعاً في ثرواتهما بـ45.2 مليار و28.1 مليار دولار على التوالي، اختار بافيت نهجاً مختلفاً، فقد قام ببيع عدد من أسهمه في شركات كبرى مثل “آبل” و”سيتي غروب” و”بنك أوف أمريكا”، بل وتخلص حتى من صناديق الاستثمار المتداولة التي طالما أثنى عليها.
وقد أدت هذه التحركات إلى تعزيز السيولة النقدية لدى “بيركشاير هاثاوي” لتصل إلى مستوى قياسي بلغ 325 مليار دولار.
وبحسب صحيفة “دايلي ميل”، فإن هذا التموضع الاستثماري الذكي، وسط الاضطرابات العالمية، مكّن بافيت من تحقيق مكاسب تجاوزت 12.7 مليار دولار منذ بداية العام.
وإلى جانب بيع أصوله في شركات أمريكية، اتجه بافيت للاستثمار في السوق اليابانية، معلناً عزمه على زيادة حصصه في خمس شركات تجارية يابانية كبرى.
وعلى غير عادته في البقاء بعيداً عن السجالات السياسية، صرّح بافيت في مقابلة مع شبكة CBS أن “الرسوم الجمركية هي نوع من أنواع الحرب الاقتصادية”، في إشارة إلى رؤيته السلبية لإجراءات ترامب.
يُذكر أنه في يوم واحد فقط، خسر أغنى 499 شخصاً في العالم ما يقارب 32.9 مليار دولار، في أكبر خسارة يومية منذ جائحة كورونا، لا سيما إيلون ماسك، حيث تراجع صافي ثروته هذا العام وحده بـ130 مليار دولار، وسط انخفاض كبير في مبيعات “تسلا” واحتجاجات على سياساته في الشركة.
ورغم هذه التداعيات الخطيرة على الأسواق، أصر ترامب على المضي في خطته، وهدد في منشور على منصة “تروث سوشال” بفرض رسوم إضافية على الصين بنسبة 50% ما لم تتراجع عن رسومها الانتقامية. كما أكد أنه لن يوقف سياسته الجمركية حتى “تحقق الولايات المتحدة صفقة عادلة”، بحسب تعبيره.