لجريدة عمان:
2024-11-04@22:49:42 GMT

«الزمن الجميل».. هل يبقى أضعف الإيمان؟

تاريخ النشر: 3rd, November 2024 GMT

هل يمكن وصف الـ«الذاكرة الاجتماعية» بأنها الحاضنة الأبقى لكل ما هو متعلق بالمجتمع الإنساني؟ هل هناك معززات من شأنها أن تحافظ على بقاء الأداء لهذه الذاكرة، وما مدى ذلك؟ ما هو نصيب الفرد من هذه الذاكرة، وهل هو يستشعرها بالفعل كممارسة على أرض الواقع، أم أنها تبقى مفهومًا علميًا هو فـي يد أهل الاختصاص فقط؟ إلى أي مدى يمكن أن تحافظ الـ«الذاكرة الاجتماعية» على تألقها لتقوم بكامل الدور المنوط منها؟ وماذا عن مستوى التغييرات التي يعيشها أفراد المجتمع فـي إرباك الـ«الذاكرة الاجتماعية» فـيؤثر على أدائها المتوقع؟ هل يلعب التاريخ فـي بعديه المادي والمعنوي فـي تعزيز الدور الذي تقوم به الـ«الذاكرة الاجتماعية»؟ وهل هناك علاقة عضوية متبادلة بين الطرفـين؟ لماذا يتأثر الناس -غالبا- عندما يزال موقعا أثريا عن مكانه وإلى الأبد هل لذلك التأثر علاقة بالمخيلة الاجتماعية؟ وبمعنى آخر هل تعيش الذاكرة الاجتماعية قلقا دائما للحفاظ على كينوناتها من مثل هذه الأرصدة فـي بعدي التاريخ المادي والمعنوي؟ وهل ذلك ينطبق أيضا على اختفاء بعض القيم الإنسانية التي ينظر إليها بكثير من الاهتمام؟ هل هناك ثمة علاقة بين الهوية والـ«الذاكرة الاجتماعية» وأيهما يخدم الآخر أكثر؟ نسمع كثيرا جملة «الزمن الجميل» مع أننا فـي لحظتنا الآنية لم نعش ذلك الزمن الذي يوصف بـ«الجميل» ترى من صدر هذا الوصف وأنزله على الذاكرة حتى استحسنته «وصفًا» دون أن تعيش تفاصيله الدقيقة هل هذا من فعل الـ«الذاكرة الاجتماعية» أيضا؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل وقعت هذه الذاكرة فـي مأزق التحايل على الحقيقة؟ لأن الأزمان لن تكون جميلة بالمطلق، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ليس من الواقعية فـي شيء أن نجزم ببساطة الأشياء وتواضعها على أنها معبرة عن زمن جميل، فقد يكون الزمن قاسيًا بكل ما تعنيه الكلمة، فمن إذن يكون له حق التقييم فـي النفـي أو الجزم بذلك؟ ولذلك يأتي السؤال الختامي لهذه المقدمة الاستفهامية هل يبقى «الزمن الجميل» أضعف الإيمان لرصيد «الذاكرة الاجتماعية» موضوع هذه المناقشة؟ من يأمن الذاكرة؟ ومن يأمن الزمن؟ ومن يأمن الظروف التي استغلتها الذاكرة فـي تحايلها على الزمن؟ فالذاكرة لا تكتب تاريخها بعيدة عن الزمن المنجز، والزمن لا يخلد أفعاله اعتمادا على الذاكرة فقط، وإلا لضاعت الكثير من الثوابت، والكثير من القيم المعرفـية، والكثير من حقائق الأشياء، والكثير مما بذله الناس فـي أزمان صعبة، وما كان له أن يتحقق لولا هذا الحرص الإنساني على أن يكون له أثر ما، فـي لحظة زمنية فارقة، إذن من يكتب التاريخ؟ الفرد الجماعة الأثر الباقي «الشاهد» والمعبر عن أن هنا جهد إنساني بذل فـي هذا المكان بالذات؟ لذلك يقال: إن الأزمان تكتب تاريخها حتى فـي أحلك الظروف التي تمر بها الإنسانية، وأحلك الظروف هنا (الجهل/ الفقر/ عدم الاستقرار/ الاستعمار) حيث لا تستطيع الإنسانية تجميع قواها لكتابة التاريخ، فالبلدان التي ترزح تحت وطأة هذه الظروف مجتمعة أو متفرقة، لا يستطيع إنسانها أن يكتب تاريخ لحظته بصورة أكثر دقة، وبأريحية تامة، فهو يعاني من ذات اللحظة الزمنية الفارقة فـي حياته، من كثير من الارتباك، والقلق، وعدم التوازن، ولأن الشعوب غالبا لا تخضع كثيرا لاستمرار حالات أحلك الظروف، فإنها سرعان ما تنتفض على أي شيء ترى أنه سوف يقيد حركتها عن رصد تاريخها والكتابة فـيه، وتجميع حمولته المعرفـية وإلحاقها بالذاكرة، ولا يضعف إلى الحد الذي يكون فـيه لقمة سائغة للغريب، فالأرصدة الاجتماعية لا يجب أن يكون بين مجموعها ومجموعها فترة زمنية قاطعة، فالتاريخ متواصل بفعل الزمن، فكما الزمن لا يستريح فـي استمراريته، فكذلك التاريخ لا يتوقف فـي إنجاز أبنائه، وكذلك الـ«الذاكرة الاجتماعية» الدفعات المتقطعة مما هو منجز؛ لأنه بهذا الرصد المتواصل تؤصل هوية إنسان/ شعب/ مجتمع/ أمة فـي يوم ما، ليكون لكل ذلك تاريخ يكتب بماء الذهب.

هنا تنجز الهوية مع الـ«الذاكرة الاجتماعية» مستحقا إنسانيا، لا يمكن تجاوزه، ولذا لا تستغرب إن عرفت يوما ما أن هناك من اكتشف «وثيقة» تاريخية فـي أحد متاحف العالم تسجل لك سبقا زمنيا منجزا فـي أمر ما من أمور حياة من سبقوك، ولأن هذه الـ«وثيقة» هويتها لك، وجذورها تعود إلى بلدك، وإلى أمتك، وإلى وطنك، وإلى جغرافـيتك، إذن وفـي هذه الحالة فهي أنت، وأنت هي، وبالتالي فلا يستغرب إطلاقا أن تدفع مقابل أن تعود هذه الـ«وثيقة» إلى حيث جذرها الأصل، ولن ترتاح - وأنت صاحب القرار - أن تظل هذه الـ«وثيقة» فـي غربتها، وإلا عد ذلك نقيصة فـيك، وإنكارا لأهم مكونات تاريخك الذي ستدافع عنه بكل شراسة، فـي حالتي السلم والحرب، حيث لا تذوب الهويات فـي أيهما، ولا يتماهى الانتماء فـي أي منهما أيضا، ولعل هنا يتضح المعنى أكثر فـي تسمية «الزمن الجميل» لأنك امتداد له، وإلا ما الذي يجبرك على أن تحرص على عودة الوثيقة إلى حيث منشأها الأول، حيث أنت تقبع الآن؟ ينطلق أداء الذاكرة الاجتماعية بوهج غير مسبوق من خلال ما يحرص الناس على بقائه، واستمراره، حتى ولو كان هذا الأمر لا يتوافق مع عصره، وهنا تتسلل الهويات لتوقظ فـي الأنفس الارتهان على البقاء، وأن هذا البقاء لن يكون إلا من خلال هذا الذكر، ومن خلال هذا التبني، ومن خلال هذا التخيل، ولذلك فجملة «الزمن الجميل» لم تأت من فراغ الذاكرة الاجتماعية، بل من ثرائها المعرفـي، وثرائها القيمي، وثرائها التاريخي، حتى وإن لم تعش هذه الأنفس شيئا من هذا الجمال الذي تتحدث عنه مع أي مشهد يعيد إلى الـ«الذاكرة الاجتماعية» شيئا من ألقها الذي كان، سواء تمثل هذا الذكر فـي هذه الجملة، أو فـي اقتناء شيء من الموروث، أو الالتحام مع القناعة الذاهبة إلى تأصيل ما تبقى فـي هذه الذاكرة، ومن هنا يأتي أسف الناس على إزالة الشواهد التاريخية والأثرية، ويعد ذلك نكرانا صريحا لما أهداه إلينا الزمن الجميل، وللقناعة الموجودة، أن ما أزيل لا يمكن تعويضه، وما تهشم وتغيرت ملامحه لا يمكن إعادته على ما كان عليه، وقد زرت بلدا عربيا تعرض لاستعمار طويل، وكان من محاسن هذا الاستعمار عند انسحابه لم يهدم ما أقامه من جمال العمارة، هذه العمارة وهي رصيد تاريخي بلا منازع لهذا البلد يتعرض اليوم للتشويه حيث ما يتهدم منه، لم يعاد على صورته الأصل، فأصبحت المباني مشوهة، بالترقيع الفاضح فـي تشويهه، لذلك لا تستسيغ الـ«الذاكرة الاجتماعية» هذا التشويه، وترى فـي استمراره ضربة قاسية لحقيقة حياة كانت بغض النظر عن جماليتها أو قبحها، فذلك نصيب زمنها الذي كان، ونصيب فردها أو جماعتها الذين كانوا، ولذلك يتم الحكم اليوم على الخلاصة التي وصلت إلينا، دون الدخول فـي التفاصيل، وهي تبقى فعلا «أضعف الإيمان».

يمكن القول هنا أن الـ«الذاكرة الاجتماعية» ليست فقط للقيم الاجتماعية المُؤْمَنُ بأهميتها، وليست فقط للعادات والتقاليد المتوارثة، وليست فقط لشيء من العمارة الاجتماعية التي التصقت جدران مبانيها بعضها على بعض للتعبير عن اللحمة الاجتماعية، وعن لهاث الأنفس الدالة على التقارب والتآزر، والتواد، وليست فقط لأحوال الناس فـي زمن ما دون غيره، وليست فقط لشواهد حالات الفقر والغنى، والتآلف والتصادم، والوفاق والتنازع، وليست فقط لدروب القرية وسككها، وسواقي الحقول والبيادر ومزارعها، وليست فقط لمجلس القرية ومسجدها ومدرسة تعليمها، وإنما لكل ذلك دون استثناء، كما هو حال كرة الثلج المتضخمة، والتي إن جار عليها الزمن وأصابها شيء من التشظي تناثرت قطعا، ليس يسيرا لملمتها، فالزمن لا يعطي دائما فرصة التحام الأجزاء على بعضها لتعود الصورة كما كانت قبل نيف من الزمان.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفـي عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الزمن الجمیل هذه الذاکرة ولیست فقط من خلال

إقرأ أيضاً:

فيلم وثائقي بعنوان "مدرسة الذاكرة" بمكتبة الإسكندرية

تستضيف مكتبة الإسكندرية من خلال مركز الدراسات القبطية بقطاع البحث الأكاديمي، عرض فيلم وثائقي بعنوان "مدرسة الذاكرة"، وذلك يوم الثلاثاء الموافق5من نوفمبر الجاري في  تمام الساعة السادسة مساءً في القاعة الكبرى بمركز المؤتمرات بمكتبة الإسكندرية.

ويتحدث الفيلم عن العلاقة بين المعلم المرتل في الكنيسة القبطية "الأرثوذكسية" وتلاميذه، كما يسلط الضوء على معجزة استمرارية عملية التسليم والاستلام، وهو الفيلم الثاني في سلسلة الأفلام عن التلمذة عبر الأجيال في مصر؛ فهو تتبع للأجيال على مدى 2000 عام من التسليم الشفاهي، وتستعرض أمثلة مختلفة للمعلمين والطلاب عبر الأجيال بين صعيد مصر والإسكندرية، وأيضا من الأقباط في الخارج.

وصُوِّر الفيلم في بعض الأماكن التاريخية المهمة من مسار رحلة العائلة المقدسة في مسطرد بالقاهرة ودير المحرق بالصعيد، وكذلك في الكنيسة المرقسية في الإسكندرية.
 

مقالات مشابهة

  • ورد الخال تستعين بـ’طريق النحل’: ‘اللي رح يبقى العلم والصوت’
  • بصورة من الزمن الجميل.. عمر حسن يوسف يودع والده
  • عمر حسن يوسف يودع والده بصورة مؤثرة من الزمن الجميل
  • فيلم وثائقي بعنوان "مدرسة الذاكرة" بمكتبة الإسكندرية
  • شريط لندن (للراحل) المطرب محمد الامين ايام الزمن الجميل وشريط (تقدم) اللندني ، شتان مابين اهلنا المغتربين في عاصمة الضباب زمان واليوم !!..
  • الشتاء بدق بابه.. وملاذ النازحين أضعف من أن يحميهم
  • حمدان بن زايد: في يوم العَلم.. نجدد العهد أن يبقى رمزاً للعزّة والوحدة
  • رمضان عبد المعز: "الإيمان أعظم نعمة وربنا لو مكتبش المعونة النفس تغرق"
  • جيوشُ الإيمان لا تنكسر