طوبى لمن يعرف كيف يكتب الحياة بالموت
تاريخ النشر: 3rd, November 2024 GMT
المشهد الأخير للشهيد يحيى السنوار وهو يقابل الموت وحيدًا بشجاعة منقطعة النظير، على مقربة من جيوش سبع وخمسين دولة إسلامية منها اثنتان وعشرون دولة عربية، بقدر ما أثار الحزن على ضياع وشتات الأمة، أثار تساؤلات حول مصدر تلك الشجاعة، من أين استمدها؟ وما الأسباب التي أوصلته إلى تلك الدرجة من الصفاء وهو الستيني الذي بُترت يده اليمنى، ولكنه قاوم الألم ولم يشعر به، فقاتل بكلِّ ما ملك حتى رمى المسيّرة التي جاءت لتصوره بتلك العصا الخشبية، وكأنه غير مصاب؟
ذات مرة قال الفيلسوف ميشيل دي مونتين أحد فلاسفة عصر النهضة الأوروبي: «لو أنني مؤلف كتب لكتبتُ كتابًا عن عدة وفيات، وعلقتُ عليها»، ربما إعجابًا منه ببعض الأشخاص الذين قابلوا الموت بشجاعة؛ فماذا كان سيقول لو عاش وشاهد كيف استقبل السنوار الموت، وكيف قاتل حتى الرمق الأخير؟! حتمًا لم يكن السنوار يخشى الموت، ولم يتمنّ غير ذلك وهو يقود حركة مقاومة ضد محتل غاشم، وهو ما أكده بنفسه في مقطع فيديو انتشر كثيرًا عقب استشهاده، يعود لثلاث سنين خلت، يقول فيه: «أكبر هدية يمكن أن يقدّمها العدو والاحتلال لي هي أن يغتالني، وأن أقضي شهيدًا على يده، أنا اليوم عمري 59 سنة، في الحقيقة أفضّل أن أستشهد بالـ إف16 على أن أموت بكورونا أو بجلطة أو بحادث طريق أو بطريقة أخرى مما يموت به الناس.
ونحن كبشر نخاف من الموت بالفطرة، وقد نُعجب - مثل الفيلسوف ميشيل دي مونتين - بمن واجه الموت بشجاعة، ونتساءل كيف وصل هؤلاء إلى هذه المرتبة، وقد نتمنى - رغم جُبننا - أن نصل إلى ما وصلوا إليه من إيمان ويقين وقوة وثبات، ولكن هيهات لأمثالنا أن يصلوا إلى تلك المرتبة، ونحن نعيش في بحبوحة ولم نختبر المعاناة، كما عاناها الفلسطينيون الذين يستقبلون الموت في كلِّ نفَس يتنفسونه في حياتهم، وصرنا نعتقد أنّ تحمّل الحياة مهما كانت، أفضل من مواجهة الموت، كما قال شكسبير على لسان هاملت في مسرحيته: «الخوف من الموت - ذلك البلد المجهول الذي لا يعود منه المسافر أبدًا - يُحيّر إرادتنا، ويجعلنا نُؤثر تحمل المكروه الذي نعرفه على الهرب منه إلى المكروه الذي لا نعرفه».
لقد أراد الله أن يشاهد العالم اللحظات الأخيرة للشهيد السنوار؛ ولو لم تنتشر تلك اللقطات، لكان جيش الاحتلال قد ألف مسرحية من نسج خياله، تصف البطل بأنه جبان وأنه كان خائفًا مختبئًا ومرتبكًا؛ تمامًا مثلما فعل موفق الربيعي مستشار الأمن العراقي السابق عندما صرح بُعيد إعدام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بلحظات بأنه كان مرتبكًا وخائفًا، قبل أن تظهر لقطة الفيديو التي دحضت تلك الأكاذيب، لأنّ الصورة دائمًا أبلغ من الكلام.
وإذا كانت المشاهد الأخيرة للسنوار قد ألهمت الكتّاب والشعراء، فإنّ مواجهة صدام حسين للموت بشجاعة ألهمت العالم، وغيّرت نظرة الكثيرين حوله. وأنا هنا لستُ بصدد الحديث عن صدام حسين، هل كان جيدًا أو سيئًا، طيّبًا أو شريرًا، ولا ألوم بالتالي أهالي ضحايا عهده في موقفهم منه، فما يعنيني في مقالي هذا، هو كيف واجه الرجل الموت بشجاعة، والصيحاتُ المذهبيةُ البغيضة تحيط به من كلّ صوب، من أناس ملثمين وخائفين، وصوتٌ يقول له: «إلى جهنم وبئس المصير»، فإذا هو يرد متسائلًا: «هي هاي المرجلة؟». لقد أبدى الرجل شجاعة نادرة قبيل التفاف حبل المشنقة حول رقبته، ونطق الشهادة وهو يصعد إلى منصة الإعدام، ونطقها ثانية قبل التفاف حبل المشنقة على رقبته، وفي الثالثة لم يكملها بعد أن أتممت عملية الإعدام، في مشهد بطولي جعل صحيفة «ذي ديلي تلغراف» البريطانية تقول: «إنّ صدام حسين واجه الموت والجلاد بتحد كبير، وذلك للدرجة التي كان يبدو فيها وكأنه يؤدي دورًا في مشهد موت بطولي»، وبقي الرجل حتى لحظاته الأخيرة يردّد ما آمن به، وهتف «تسقط أمريكا» و«فلسطين حرة عربية»، وغير ذلك من العبارات التي ردّدها طوال حكمه للعراق.
ومثل السنوار، لم يكن يعلم صدام حسين أنّ المشهد الأخير له في الدنيا سينتشر في العالم، ممّا يعطي قيمة كبرى للمشهدين، مع يقيننا أنّ التمثيل في هذه اللحظات من المستحيلات، لو فرضنا أنّ الرجلين يعلمان أنّ المشهد سينتشر، ولكن الدلالة الواضحة للمشهدين هي أنّ الرجلين تصالحا مع نفسيهما وكانا صادقين فيما يؤمنان به. وتلك السكينة التي ظهر بها الرئيس صدام حسين حيّرت الغربيين خاصة جلاديه من الأمريكان، فقدّم قسم علم النفس التخصصي في معهد «ويست فيرجينيا» تحليلا نفسيًا لهدوء الرجل وثباته، وعدة تفسيرات لذلك، منها أنّ الشجاعة التي تحلى بها من جراء جينات وراثية نادرة، ومنها عوامل إيمانية جعلته ثابتًا، بينما عزت تحليلات أخرى المسألة إلى طبيعة نشأته البدوية غير المترفة التي أثرت في تكوين شخصيته، وغيرها من التفسيرات التي كانت تستند على تحليلات دقيقة لدوافع النفس البشرية التي مهما أجادت التمثيل والثبات فهي حتماً ستنهار أمام رهبة الموت.
وبما أنّ مسألة النهايات ومواجهة الموت تستهويني، وقرأتُ كثيرًا عما كتب عن الموت، ولا أملّ من مشاهدة المشهد الأخير للسنوار ولصدام، فإني احتفظتُ ضمن أوراقي ما كتبه صديقي سليمان المعمري في جريدة عُمان، عقب إعدام الرئيس صدام حسين تحت عنوان «بعض السقوط عُلُوٌّ»، فقد وصف المشهد قلميًّا بدقة، ممّا جعل المقال - في رأيي - من ضمن أفضل ما كتب. يقول: «العمر لحظة».. هكذا كتب يوسف السباعي ذاتَ يوم، وهكذا جسّد بطلُ هذه الكتابة هذه العبارة كأحسن ما يكون التجسيد.. مَنْ يتذكّر الآن من مريديه ومبغضيه على حد سواء غير تلك اللحظة الفارقة، لكأنه ما عاش إلا ليصل لتلك اللحظة؛ هامة منتصبة تسقط بشموخ.. سقوطه يدوّي فيسمعه كلُّ ذي أذن، وكلُّ ذي عين يراه (..) لو أنّ عرّافًا أنبأه أنه سيملأ الدنيا ويشغل الناس حيًّا ميتًا هل كان سيصدق؟ الحبلُ المعقودُ جيدًا أصدق أنباءً من الرصاص.. والهاتف النقال أصدق من الفيديو.. وسدنة اللغة عكفوا على البحث عن تعريف جديد للسقوط.. بعض السقوط عُلُوّ.. معظم العلوّ سقوط.. ما طار طير وارتفع.. مَنْ سيُنبئهم أنهم وقَعُوا قبل أن يقع.. هو يمشي في الشوارع الآن، يوزع نظراتِه على أكشاك الباعة والمقاهي، ويدخن سيجاره الكوبي الفاخر الذي أهداه إليه صديقُه جيفارا (..) يقترب منه ملثمان فيفصلان رأسه عن جسده فيعيده بيده ويقول هازئا: «لستُ أنا، لا أحب الموت في السر»».
منذ نعومة أظافرنا تعلمنا أنه «لا شماتة في الموت»، ولكن الأمة التي تستمع إلى أكثر من مليون خطبة أسبوعيًّا هي أكثر الأمم شماتة في الأموات، وهي أكثر الأمم التي أساءت لأبطالها ورموزها، وكان ذلك جليًا، عندما شمت البعض بموت صدام حسين، وشمت البعض بموت هنية، كما شمت الآخرون بموت نصر الله وبموت يحيى السنوار، ولم يدر هؤلاء أنه «من يَشْمتْ بميت فهو ميّت، وإن كان يزعم أنه حي ورئتُه تسرق هواءَ الطيبين» كما قال سليمان. وفي النهاية لكلّ شخص لحظته، فطوبى لمن يعرف كيف يكتُبُ الحياةَ بالموت.
زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: صدام حسین
إقرأ أيضاً:
ماهر أبو طير يكتب: هل سيتخلى الرئيس عن التهجير؟
لا يبدو أن الخطة العربية التي تبنتها قمة القاهرة ستكون في طريقها إلى التنفيذ بهذه السهولة التي يتصورها البعض، لاعتبارات كثيرة، بعضها ظهر مبكرا جدا.
الأزمة ستكمن في التنفيذ حيث كثير من التفاصيل، التي من أبرزها ملف تمويل إعادة الإعمار، ومن سيدفع، وما هي قيمة الدفعات، وهل ستكفي أم لا، ومدى تأثر الممولين بالذي تريده واشنطن من حيث إبقاء القطاع مدمرا لفرض سيناريو التهجير، وإذا كانت مصر سوف تستضيف مؤتمرا لإعادة الإعمار لاحقا، فإن اعتراضات واشنطن السرية ستؤدي إلى إحجام كثيرين عن دفع المال لقطاع غزة، وقد يغيب كثيرون أصلا، عن هكذا مؤتمر، لا تريده واشنطن أصلا.
بعد أن تم الإعلان عن الخطة العربية خرج المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي براين هيوز وقال إن الخطة العربية لإعمار القطاع تتجاهل واقع قطاع غزة المدمر، ولا تعالج حقيقة مفادها أن غزة غير صالحة للسكن حاليا، كما أن الخطة العربية لا تعالج حقيقة أنه لا يمكن لسكان غزة العيش بشكل إنساني في منطقة مغطاة بالحطام والذخائر غير المنفجرة، وهذه الإشارات الأميركية الأولى ضد الخطة ستتبعها اشارات ثانية في سياق إفشال أي حل عربي، من أجل الوصول إلى المستهدف التالي، أي احتلال القطاع، وإخراج الفلسطينيين منه بكل الوسائل.
إسرائيل من جهتها تريد إنهاء كل الأنظمة الحاكمة في غزة والضفة الغربية، أي حماس والسلطة الوطنية الفلسطينية ولذلك وصفت وزارة الخارجية الإسرائيلية الخطة العربية بكونها مغرقة في وجهات نظر عفا عليها الزمن، ورفضت الاعتماد على السلطة الفلسطينية وبقاء حماس في السلطة، لأن تل أبيب تريد إنهاء حماس كليا وتسليم سلاحها، واستسلام قادتها، وتريد أيضا تفكيك سلطة أوسلو، في الضفة الغربية تمهيدا للمرحلة المقبلة وهذا يستوجب أصلا منع السلطة من ممارسة اي دور داخل قطاع غزة في سياقات تفكيك مشروع الدولة الفلسطينية القائمة على جناحي غزة والضفة الغربية، وتوطئة لمخطط أكبر يرتبط فعليا بالتهجير.
حماس كانت ذكية حين أشادت بالخطة العربية وقالت إنها لا تريد أن تكون طرفا في الإدارة للقطاع، أما ملف السلاح، فأعلنت أنها لن تسلمه، كما أنها أيضا غير مضطرة لتسليمه في ظل هكذا معادلات تقوم على احتمالات عودة الحرب ومحاولة ذبح الفلسطينيين مجددا، وفي الحد الأدنى فإن ملف السلاح لأي مكن اتخاذ موقف علني بشأنه ما دامت الاتصالات السرية لم تصل إلى نتيجة حوله، في سياقات تتحدث عن سيناريو استراحة المحاربين بدلا من تسليم السلاح، إذا قبلت واشنطن وتل أبيب هكذا صيغة، وهو أمر مشكوك به لأنه يتعارض مع مخطط التهجير.
العرب يخططون لحمل الخطة والذهاب بها إلى واشنطن، والمؤشرات السلبية منذ الآن تقول إن هكذا زيارة قد لا تتم، وإذا تمت فستكون معرضة لأخطار كبيرة، خصوصا، أن الخطة العربية أغلقت كل نقاط الضعف التي كانت تتذرع بها إسرائيل، لكن الاحتلال ذاته لا يريد فعليا إعادة الإعمار، ولا يريد هيئة مدنية لحكم القطاع بعيدا عن الهياكل التقليدية، أي حماس والسلطة، ولديه مخطط محدد يتعلق بالأرض، وبوضع الفلسطينيين، وسيجد أي ذريعة للالتفاف على الخطة العربية.
مع وقف إسرائيل للمساعدات وتدفقها إلى القطاع قبل القمة بأيام، والمشاكل القائمة حول تمديد المرحلة الأولى للمفاوضات، أو بدء مرحلة ثانية، فإن ما سنراه خلال المرحلة المقبلة سيقوم على عدة محاور، أولها محاولة استعادة كل الأسرى الإسرائيليين، وثانيها إفشال خطة إعادة إعمار غزة ومنع نشوء هيئة مستدامة للحكم في القطاع بدلا عن الحكم الحالي، وثالثها توسع المخطط الإسرائيلي داخل الضفة الغربية، ورابعها تصعيد أعلى على جبهتي سورية ولبنان، وخامسها الدخول في مرحلة تحول على صعيد ملف التهجير بما يهدد مصر، والأردن في مرحلة متأخرة.
كل هذا يقول إننا عالقون في المنطقة الرمادية هذه الأيام، وسوف تثبت الأيام أن تل أبيب وواشنطن لديهما مخطط مختلف، ولن تقفا عند كل الحلول العربية البديلة.
الرئيس الأميركي يقول إنه لا يريد حربا في غزة، وفي الوقت ذاته لا يبدو أن واشنطن ستقبل خطة العرب لغزة بصيغتها الحالية، فماذا سيتبقى لحظتها سوى التهجير، وهو خيار يتطابق مع مخططات الإسرائيليين تجاه القطاع ثم الضفة؟.
تابع قناتنا على يوتيوب تابع صفحتنا على فيسبوك تابع منصة ترند سرايا
طباعة المشاهدات: 630
1 - | ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه. | 06-03-2025 10:29 AM سرايا |
لا يوجد تعليقات |
الرد على تعليق
الاسم : * | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : * | |
رمز التحقق : | تحديث الرمز أكتب الرمز : |
اضافة |
الآراء والتعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها فقط
جميع حقوق النشر محفوظة لدى موقع وكالة سرايا الإخبارية © 2025
سياسة الخصوصية برمجة و استضافة يونكس هوست test الرجاء الانتظار ...