زلات اللسان تستفز الأذهان
تاريخ النشر: 3rd, November 2024 GMT
ماجد المرهون
majidomarmajid@outlook.com
يلقي المرء الكلمة أحيانًا من لسانه ولا يلقي لها بالًا فتستثير من حوله رياحًا عاصفةً وتستحيل عليه سريعًا ردودًا قاصفةً لا تخلو من الامتعاض والتذمر وربما تصل إلى التهكم والتنمُّر، في الوقت الذي كان بمقدور ذلك المتحدث وبشيء من الحكمة إجراء حسابات ذهنية سريعة لا تتطلب إحصاءات رياضية معقدة في التكامل والتفاضل، قبل الدفع بكلماته إلى ساحات الإعلام المتنوعة، فتطير بها الركبان الخافقين لتتداولها مواقع التواصل وتتواترها تعددية الوسائط بشتى الصور والأشكال، إلى أن يجد كل متلق الحق للإدلاء بدلوه فيها، وتتعاظم بذلك الكلمة في تضخمها الشبكي ويصبح من غير الممكن السيطرة عليها لاحقًا مهما بلغت محاولات الاستدراك والتبرير.
يختلف الإعلام سابقًا عن إعلام اليوم؛ إذ بات بإمكان المتلقي المشاركة في الرد المباشر وطرح رأيه حسب رؤيته وتحليله فيصيب ويخطئ ليتجلى الفرق هنا في إمكانية التفاعل السريع مع الخبر بل والمشاركة في صناعته؛ حيث استبعدت الفكرة الجامدة للإعلام الموجه والذي لايمكن للطرف المستقبل إلا البقاء في حالة من القبول الصامت دون القدرة على الرد أو إحداث أي تغيير، كما أن المتلقي أصبح في وضع جيد من الإلمام والمعرفة التي تبقيه في مأمن عند اجتراح ردوده وتعليقاته في الواقع الافتراضي للتواصل الاجتماعي وطبعًا نستثني هنا المسميات الوهمية والمعرفات الخادعة لعلمنا المسبق بأهدافها، وعليه فإن من الحكمة على كل متحدث في الشأن العام أن يتخذ أقصى تدابير الحيطة والحرص في صياغة عباراته واختيار كلماته وسوق أدلته التي يستشهد بها لإيصال فكرته، وإلا فسوف ينقلب المعنى عكسيًا وستصل الفكرة مغايرة للمتوقع وستجلب معها ردود أفعال من المجتمع لا حصر لها واستنتاجات بعيدة كل البعد عن أصل الموضوع.
ويمثل المعيار الرقمي أصلب أنواع الإحصاء وأكثرها قدرة على الإثبات ولكنه حين يدخل في لغة التعبير عن شؤون العامة وفي أمر يعني بمعيشة شريحة كبيرة وحساسة منه فإنّه سيعود بنتائج فردية كثيرة جدًا وسوف يعبر كل فرد عن رأيه بطريقة ما، وغالبًا ما يذهب المجتمع إلى التحلل من اللغة الجدية الخشبية المفروضة عليه إلى لغة التبسيط التي تشعره بالتحرر من محاولات تقسيمه إلى فئات ومراتب مستفيدة وأخرى غير مستحقة فصلتها المعيارية الإحصائية بعد أن كان يعتقد تضمينه للفئة والرتبة ذات الأحقية، وبلا شك فإن الأسلوب الساخر هو أقرب وأسرع ماسيُعبر به الناس عن عدم قبولهم لاعتبارات بشرية إنسانية ونظرًا لافتقادهم للمعنى الحقيقي للتغيير، وإقتناعهم شبه التام بأنَّ إرادتهم الجمعية غير قادرة على أكثر من ذلك لأنَّ قدرة المشرع أكثر بسطةً في فرض القوانين والتي غالبًا ما تكون نتاج إحصائية عامة ولكنها تطبق فردية خاصة باعتبار حيثيات كل حالة.
ضالة المؤمن الحكمة وهي القدرة على التفريق بين الإلهام الفطري القويم والوسوسات الخيالية مع إمكانية توقع نتائجهما، كما أن الحكمة تنزع إلى منع الجور والحد من الظلم وهي الأداة الذهنية السامية التي تساعد على تقييم الموقف بروية واتخاذ طريقة الرد دون انفعال وآلية العمل بعد تفكير، بحيث تحول التعامل مع الشؤون العامة إلى أداة عملية تطبيقية تندرج ضمنها تدابير النفس والمدينة والمنزل أو ما يعرف اليوم بالأخلاقيات والسياسة والاقتصاد؛ فعندما يظهر أحدهم على مرأى ومسمع الجميع عبر منابر ومنصات توجه رأيها للعامة فإنَّ من واجبه توجيه خطابه بحصافة وكياسة حتى لا تجانبه الحكمة فيقع لقمةً سائغةً تعضه مواقع التواصل بنابها الأصفر وتكيل عليه المكاييل بالنسب التربيعية، وتحوله إلى مصدر قصير يسهل تجاوزه بقفزة أو عدة نطات، ويصبح ويمسي هدفًا تفرغ فيه شحنات الامتعاض والازدراء، وقد باتت الكوميديا الساخرة نوعًا قاسيًا من أنواع توصيل رسالة من باطن المجتمع ويفهم الجميع معناها ومغزاها ويجب أن تحمل على محمل الجد لأن مكنونها غير مريح.
ما أجمل الكريم الحكيم عندما يقبل على الإنفاق النابع من محبته غير المشروطة ولم تبنَ سلفًا على معيارية إحصائية للبشر في صورة أرقام مجردة، وبالتالي لن يتردد في توسيع مصارف العطاء وتضييق مصادر المنع لا سيما إذا كان متمولًا ذي سمعة حسنة، ولكن عندما نتحدث عن دولة فإن ذلك لن يكون يسيرًا على المستوى الفردي وكل على حدة، ومن الضرورة الأخذ في الاعتبار المعايير الإنسانية وإسباغها على الشريحة المستحقة تجنبًا للمظالم وبدون استحضار تصورات افتراضية واعتمادها وتهميش الواقع بغية تضييق مصارف العطاء.
وبما أن كل دول العالم تنشد تفعيل الدور التكاملي للمؤسسات لأقصى طاقتها فإنَّ ذلك قد يثقل عليها نظرًا لزيادة عدد السكان أو عدد المستحقين لخدمات المنافع الاجتماعية، وإنه من الأهمية بمكان ترشيق فاعلية تلك المؤسسات باعتماد التقنيات الحديثة قبل اعتماد وتطبيق أي قانون جديد، وهذا ما نجده في استبيانات استطلاع الرأي الذي تقوم به بعض الدول وحتى الشركات العالمية ذات قواعد المستخدمين المليونية وربما المليارية، من خلال تطبيق يسهل عملية الفرز والإحصاء ويستقبل الشكاوى والاقتراحات والآراء قبل المرحلة النهائية للتنفيذ، وبذلك يصبح المستحق شريكًا في صناعة القرار وليس مجرد رقم تطبق عليه الشروط.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
«بيت الحكمة» يستكشف الأبعاد الروحية والفنية لإرث جلال الدين الرومي
الشارقة (الاتحاد)
أخبار ذات صلة سعودي وجزائرية يتأهلان في الحلقة الثالثة من «أمير الشعراء» «ليالي حتا الثقافية».. تجارب ثقافية وتراثية وترفيهية متفردةنظَّم «بيت الحكمة» بالشارقة، ضمن الفعاليات المصاحبة لمعرض «جلال الدين الروميّ: 750 عاماً من الغياب.. ثمانية قرون من الحضور»، الذي يستمر حتى 14 فبراير المقبل، جلسة حوارية بعنوان «استكشاف الأبعاد الروحية: المنحوتات والمعارض المستوحاة من جلال الدين الرومي»، تحدّث فيها الشيخ سلطان بن سعود القاسمي، الكاتب والباحث في الشؤون الاجتماعية والسياسية والثقافية لدول الخليج العربي، ومؤسِّس مؤسسة بارجيل للفنون في الشارقة، والنحات العالمي خالد زكي.
كما شهد «بيت الحكمة» أمسية شعرية بعنوان «في رحاب أشعار الرومي»، شارك فيها نخبة من الشعراء والشاعرات، وهم: شيخة المطيري، وشهد ثاني، والدكتور حسن النجار، وأمل السهلاوي، وسارة النعيمي، وعلي الشعالي، وحصة الدحيل، وأسماء الحمادي، الذين أبحرت قصائدهم باللغتين العربية والإنجليزية في عوالم جلال الدين الرومي، مستلهمين من فلسفته وأفكاره نصوصاً تجمع بين عمق الفكرة وجماليات الأسلوب.
وهدفت الأمسية إلى إثراء فعاليات المعرض بتجارب شعرية وفنية تحتفي بالمنجز المعرفي والثقافي لجلال الدين الرومي، وتفتح الآفاق أمام الحضور لاستكشاف جماليات وأسرار المعرض المخصص للإرث المعرفي والثقافي الذي تركه الرومي، وذلك بمناسبة مرور 750 عاماً على وفاته.
وفي مستهل الأمسية الثقافية، أكّدت مروة العقروبي، المديرة التنفيذية لبيت الحكمة، أهمية إحياء الإرث الإبداعي لجلال الدين الرومي من خلال هذا المعرض الاستثنائي، مشيرةً إلى أن هذه المبادرة الثقافية جاءت امتداداً لرحلة أوسع بدأت من صحراء مليحة، في مهرجان تنوير، حيث تماهت فلسفة الرومي مع أفق الطبيعة وسكونها، وصولاً إلى «بيت الحكمة» وما يضمه من مقتنيات نادرة تُعرض للمرّة الأولى خارج تركيا.
بدوره، قال النحات العالمي خالد زكي: «بعد رؤيتي للدراويش ازددت من قراءاتي حول عوالم الصوفية».
وأضاف: «حب العزلة يربطني بالصوفية، وبيت الشعر الذي أثر في نفسي هو: (لا تجزع من جرحك.. وإلا فكيف للنور أن يدخل إلى باطنك)، وهذا ما صورته في أعمالي مثل (رجل في القيلولة) و(الرجل الحكيم)، وغيرهما من القطع التي تجسّد الحكم التي تخرج من داخل الإنسان المنحوت، وفي الوقت نفسه، يحتاج المنحوت إلى الصبر لإيصال الحكمة».
وحول المحاور التي استلهمها من منهج الرومي في أعماله قال زكي: «معظم الأعمال التي أعملها في مجال الصوفية تتسم بالسكون والتأمل الذي ينبع من داخل القطعة، حيث تتماشى مع صفاء الروحانية الصوفية، وأتبنى نوعاً من التواضع والتخلّي، الذي يعني ترك الزينة والزخارف في القطعة النحتية، ما يعكس مبدأ الزهد الذي تتميّز به الصوفية. بالإضافة إلى ذلك، أحرص على تجريد أعمالي بطريقة تسمح للثقافات المتعددة بأن ترى فيها رؤيتها وتستلهم منها، وذلك بشكل مشابه لأشعار الرومي التي تتجاوز الحواجز الثقافية. هذا النهج جعل أعمالي تحظى بطلب كبير في العديد من الدول الأوروبية، حيث يجد المشاهدون فيها تجسيداً للروحانية والتنوع الثقافي الذي يتناغم مع تجاربهم الشخصية».
لوحة محمود سعيد
في الجلسة الحوارية «استكشاف الأبعاد الروحية: المنحوتات والمعارض المستوحاة من جلال الدين الرومي»، أكد الشيخ سلطان بن سعود القاسمي أن هناك عدداً كبيراً من الفنانين المصريين الذين رسموا عادات وتقاليد الصوفية في مصر، مثل محمود سعيد، الذي رسم لوحة «الذكر» في عام 1936، وهي من أهم أعماله التي تعكس العمق الروحي للصوفية وتعابيرها الفنية المميّزة، مشيراً إلى أن «الكثير من الناس يترجمون مفاهيم الصوفية إلى كلمات مكتوبة، ولكن الفنانين هم من يترجمونها إلى تحف فنية تنبض بالحياة وتلامس الروح».
وأضاف: «تتجاوز عوالم الرومي الحواجز الجغرافية والثقافية، ما يفسر تقبّل فلسفته من قبل الثقافات العالمية المختلفة، فالرومي، من خلال شعره وفلسفته، يقدّم رسالة إنسانية وروحية تتحدّث إلى قلوب الناس في كل مكان وزمان، والفن، بقدرته على تجسيد المشاعر والأفكار، يؤدي دوراً محورياً في نقل هذه الرسالة بطرق تتجاوز الكلمات، ما يعزز من فهم وتقدير إرث الرومي العالمي».