القراءة رحلة فريدة لا يعرف متعتها الحقيقية إلا أولئك الذين انطلقوا فيها بحب وشغف، فهي ليست مجرد تقليب صفحات كتب تملؤها الكلمات، بل انفتاح على عوالم مختلفة، وزوايا فكرية متباينة، تمنح العقل وعيًا متكاملًا وقدرة على النظر العميق في نسيج الحياة. فحينما يقرأ الإنسان كتابًا في الأدب، قد يرى الحياة من خلال عيني أديب، يجد فيها الألوان والمشاعر والانفعالات التي لا يعرفها إلا من تذوّق شغف الكلمات.
أما عندما يقرأ في الفلسفة، فيبدأ بالتساؤل، ويقلب النظر في ماهية الوجود والمعرفة، ويتساءل عن الكون والإنسان بنظرة ناقدة؛ كل ذلك يكسبه وعيًا ينير دربه، ويفتح أمامه آفاقًا لا يمكن أن يراها من يتقوقع في مجال واحد.
هذا التفاعل بين مجالات المعرفة المتعددة هو ما يميّز القارئ الواعي، ذلك الذي يعرف أن للعقل احتياجات لا يرويها كتاب واحد أو موضوع محدد، بل تستدعي التنوع والانفتاح. وكما قال الفيلسوف رينيه ديكارت: "القراءة الجيدة هي حوار عميق بين العقل والكتاب، ينير العقل ويمنحه أبعادًا جديدة من الفهم"، فالقراءة الواعية ليست مجرد استعراض للمعرفة، بل هي مغامرة حية، تجربة تتجدد مع كل كتاب، وتؤدي إلى وعي قادر على فهم العلاقات المتشابكة بين الناس، وبين الأشياء، وبين الأفكار.
القراءة المتنوعة تضيف إلى وعي القارئ حكمة كل مجال يدخل فيه. هي ليست مجرد توسّع في المعلومات، بل هي بناء متكامل للرؤية، تُنشئ في العقل قدرة على الربط والتحليل والتفكير العميق. فالعقل الواعي يتشكل تدريجيًا، كلوحة فنية تُضاف إليها لمسات صغيرة حتى تكتمل. وكما قال الفيلسوف جون لوك: "العقل صفحة بيضاء، وكل قراءة تضيف إليه سطورًا من الحكمة والفهم"، كل كتاب يضيف بعدًا، وكل مجال يفتح نافذة جديدة؛ الأدب يضيء القلب، والفلسفة تغذي العقل، والعلوم ترتب الفوضى.
على النقيض، نجد القارئ الذي يقيد نفسه في مجال واحد، ظنًا منه أنه سيتقن ذلك المجال حد الكمال، رغم أن الكمال في العلم لا يتحقق دون اتساع أفق العقل واتساع وعيه؛ فقارئ المجال الواحد يضع لنفسه حواجز وهمية، ويتحول وعيه إلى صورة مجتزأة للعالم، لا يدرك تعقيداتها، بل يراها بسطحية ضيقة. في الحوارات والنقاشات، يظهر هذا القارئ محدود الوعي؛ إذ تجده أحيانًا عاجزًا عن فهم ما هو خارج تخصصه، بل قد يجد نفسه في مواقف تثير الحرج. فالقراءة الأحادية جعلته أسيرًا لرؤية ضيقة، غير قادر على التعامل بمرونة مع الأفكار المتباينة.
في النهاية، إن القراءة المتنوعة ليست ترفًا فكريًا، بل هي السبيل إلى الوعي بالذات أولاً، والوعي الذي يجمع بين العقل والقلب، ويوازن بين التفكير والشعور. القارئ الواعي هو إنسان يدرك أن المعرفة حق لكل إنسان، وأن العقل لا يكتمل إلا بانفتاحه على كل ما يمكن أن يضيف إليه، ويرى في القراءة نوراً يضيء له الطريق في عالم معقد، ووسيلةً تساعده على مواجهة الحياة بشجاعة، وفهم عميق، ووعي حقيقي.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: عام على حرب غزة إيران وإسرائيل إسرائيل وحزب الله السنوار الانتخابات الأمريكية غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية مقالات
إقرأ أيضاً:
علي جمعة: الفكر المستنير نتاج استضاءة العقل بنور الهداية
قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ان الفكر على ثلاثة أنحاء: "فكر سطحى" وهو الذي ابتلينا به في عصرنا الحاضر؛ ينظر إلى الأشياء من الخارج ويفسرها بطريقة ساذجة، ويتعامل مع الأحداث بانطباع وليس بعقل ، ولا بمعرفة المآل وما تؤول إليه الأشياء ، فإذا استُثير ثار, وإذا أُنكر عليه انهار . ما هذا ؟ هذه تصرفات غير عاقلة ؛ لأنها سطحية من الخارج.
واضاف جمعة، في منشور له عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، ان هناك تفكير آخر ، وهو : "التفكير العميق" ويشترك فيه الإنسان مؤمنًا كان أو كافرًا ، فهو لا يختص بفئة دون أخرى ، بل هو قدرة وهبها الله للإنسان في ربط المعلومات. فالذكاء في حقيقته ، وفي تعريفه الأصح ، هو قوة ربط المعلومات.
والإنسان لديه قوة وهبها الله له في ربط المعلومات, وهذه المعلومات تصله عن طريق الحواس ، فيتلقاها ويفكر فيها ، ثم يرتب بعضها فوق بعض ، أو بجوار بعض ، فيستنبط من المقدمات النتائج. وهذه القوة ، وهي قوة ربط المعلومات وهي الذكاء ، فتراها سريعة قوية واضحة عند بعضهم، وبعكس ذلك عند آخرين. و{ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ } فتجد أحدهم ذكيًا ، وترى الآخر غبيًا بليدًا لا يستطيع ربط المعلومات ولا استخراج النتائج من المقدمات. هذا هو التفكير العميق الذكى ، وهو ما يحقق كثيرًا من مصالح الدنيا.
الثالث: "التفكير المستنير" مستنير يعني أنه طالب للنور، ومستنير يعني طالب للنور ، أي أن النور يقع عليه فيضيء طريقه ، مثل الشمعة التي تشتعل فتضيء لغيرها الطريق. وقد يكون التفكير العميق مستنيرًا .
ولكن ما التفكير المستنير تحديدًا؟ التفكير المستنير لا يصلح أن يكون تفكيرًا سطحيًا, بل يجب أن يكون عميقًا ، لكنه لا يقتصر على العمق فقط ، بل لا بد أن يكون هناك ضوء ، نور جاء إليه ، وقع عليه نوره. ما هذا الضوء ؟ { وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } الذِّكر.. ذكر الله وربط الأشياء به ، ومعرفة قضية الكون وغايتها ، ومعرفة كلام الله وهدايته، هذه هى الاستنارة.
فلو فكرتم بعمق ، ووصلت إلى أن هذه الورقة التى في الشجر مكونه من اليخضور ، ومن البلازما ، ومن الكلوروفورم ، وغير ذلك ، فهذا تفكير عميق ومفيد ، ويمكن من خلاله إنتاج معجون أسنان لمقاومة التسوس ، وهذا تفكير عميق ومفيد ، ولكن كونك تربط هذا بالله ، وترى هذا الكون فتستدل من هذا الأمر الذي قد مكّنك الله منه وبه على الله ، وكونك قد التزمت بمراد الله في كونه من صلاح الأرض وعدم إفسادها ، ومن التعمير لا التدمير, ومن التحبيب لا التخريب, فإنك بذلك تكون في نطاق الاستنارة. لأنك قد أدخلت الله ، مقصود الكل ، في المسألة.
أما الذي يعيش وقد ولى ظهره لله ، وحرم نفسه من فتح الله ، وحرم نفسه من هداية الله ، فأنَّى له الاستنارة ! فالنور خارج عن دائرته ، فهو في دائرة الظلمة ، لا في دائرة النور ، وإن كان يفكر تفكيرًا عميقًا. لذا ، عندما يقول الله تعالى : { وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } فإنه ينقلنا من دائرة الظلام إلى دائرة النور ، فلا يرضى لنا أن نفكر التفكير السطحى ، ولا يرضى لنا أن نقف عند التفكير العميق ، بل يأمرنا أن ندخل به بهذا التفكير العميق ، الذي به العمارة ، إلى نور قد جاء من عند الله {وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } ذِكرًا، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } بهذا البيان .. فاللهم اجعلنا من الشاكرين.