لجريدة عمان:
2024-11-27@02:03:05 GMT

طبقاتُ الحزن المُجمد!

تاريخ النشر: 3rd, November 2024 GMT

لطالما تجنبتُ وجوه الأمهات اللواتي فقدن أحد أبنائهن، لاسيما فـي أيام العزاء الأولى، إلا أنّي تفرستُ هذه المرّة شحوب الأمّ التي فقدت طفلتها البالغة الثالثة من عمرها غرقا فـي حوض، بينما كانت تهتمُ برضيعها الجديد. بدت لي شديدة اليأس ولم ترفع رأسها عندما انحنيتُ لتقبيلها.

شاهدتُ امرأة أخرى فـي طفولتي، تصرخُ كحيوان جريح وهي تجثو على جثة ابنها الذي قضى نحبه فـي حادث دهس، ولم أستطع تجاوز نحيبها كلما رأيتها، وهي أيضا لم تفعل.

عندما أراها أشعر بأنّها عالقة ومشوشة فـي تلك اللحظة البعيدة.

يخبرنا إرفـين د. يالوم، فـي كتابه المهم «تعرية الحبّ»، ترجمة: جوهر عبدالمولى، والصادر عن منشورات حياة، عن رفض الناس التحدث عن موت أبنائهم، يصلُ الأمر بالبعض إلى العجز عن التذكر أو الذهاب إلى النوم، بينما يُساور البعض الآخر شعور يومي بالذنب.

تظهرُ عند البعض نبرة اتهام للذات ظاهرة أو خفـية، وشعور بالخزي، ويفعلُ بعضهم كما فعلت المرأة التي دُهس ابنها «يُجمدون الحزن»، فـيُكابدون ما يسميه يالوم «الفجيعة المُزمنة»، حيث يتعاظمُ إحساسهم بالخسارة، لأنّهم لم يعتقدوا للحظة واحدة أنّ الموت سينالُ من أعزّ أحبتهم!

أتذكرُ أمّ الغريقة -ودموعها تلتهبُ على خديها المُحمرين- وهي تتحدثُ بسرد موجع عن الفستان الأخير الذي ألبسته ابنتها، وكأنّها راغبة فـي التأكيد على شيء ما.. إلا أنّ النسوة قاطعنها وطلبن منها ألا تحكي وأن تستغفر وأن تحتسبها عند الله، وقلن لها شيئا عجيبا عن الدموع التي تؤذي الموتى!

وآنذاك فكرتُ بأنّ أسوأ ما قد يحدث هو ألا نقدر على مشاركة الآخرين تلك المشاعر الكئيبة التي تُمزق دواخلنا. إذ لا يعي الكثير من الناس أنّ لكل واحد منا طريقة ما لتجاوز الحزن، يستطيع بعضنا التخطي والقفز بينما بعض آخر يتأخرُ شعوره بالخلاص، فلا شيء يُغضب الآباء والأمهات أكثر من العجز عن مساعدة أبنائهم!

من وجهة نظر يالوم يعكس الأمر رغبتنا فـي السيطرة على ما لا نستطيع السيطرة عليه، إذ إنّ عقلنا يُحدثنا طوال الوقت: هنالك ما كان ينبغي فعله ولم نفعله، فنحنُ محاطون بوهم يجعلنا نعتقد بأنّ لدينا قوة ونموا غير محدودين، وأنّ الوجود عبارة عن مسار مُعبد بالإنجازات المتصاعدة إلى الأبد، بينما ينبغي أن نكون وجها لوجه مع قصّة زوالنا المؤكدة. فالمشاعر لا تتعلقُ دائما بذلك التفسير السطحي: قوة الإيمان أو ضعفه، فهي ليست زرا يُمرر أحدنا سبابته فـيشعلها أو يُطفئها!

يذهب يالوم إلى أنّ فقد أحد الوالدين يعني أن نفقد الماضي، أمّا فقدان الأبناء فـيعني أن نفقد المستقبل، فنحنُ ننظرُ للأبناء باعتبارهم مشروع الحياة الذي يُحقق لنا شيئا من الخلود.

عندما لا تُقدم المساعدة النفسية الملائمة، ولا يُفسح المجال لإظهار الهشاشة العميقة، فإنّ الثكالى يرزحون طويلا تحت عبء التورط بالإنكار المرير، «الاستعارة التي تنطبقُ على الحزن المزمن هي الجمود، حيث يصبح الجسم مُتخشبا والوجه مشدودا، وتُعيق الأفكار الباردة والمتكررة عمل الدماغ».

يهملُ مجتمعنا والأفراد فـيه أهمية العلاج النفسي، أو على الأقل مشاركة الشريكين فـي التحدث عن الحزن الذي ألمّ بهما، لاستيعاب الخسارة والتصالح مع حتمية الموت، كيلا يبقيا حبيسا تلك البرهة التي لا تمضي إلى الأبد، وللانغماس مُجددا مع الأحياء وكل الأشياء التي تجعل للحياة معنى.

يغدو التحدث إلى المصابين بالفجيعة، مُحفزا لكل طبقة من طبقات الحزن لأن تكشف عن الأخرى وصولا إلى الصميم المُعقد. «فالمرء إذا أراد أن يتعلم كيفـية التعايش مع ذهاب الموتى، يجب عليه أولا أن يتعلم كيفـية التعايش مع الأحياء».

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

قبل وقف إطلاق النار ما الذي يقوم به حزب الله؟.. معاريف تُجيب

أفاد مصدر أمني لـ"معاريف" أن "حزب الله يفرغ مستودعاته تمهيدا لاتفاق وقف النار".    وأضاف المصدر أن "حزب الله يعمل على إطلاق أكبر عدد من الصواريخ قبل الاتفاق".    وأفادت وسائل إعلام إسرائيلية عن إطلاق 200 صاروخ منذ صباح اليوم من لبنان تجاه شمال ووسط إسرائيل. 

مقالات مشابهة

  • هذه هي قيم الجيش وأخلاقه هذا هو الرحم الذي لا ينجب إلا الفرسان
  • السياسيات العراقيات يحتفلن بالقضاء على العنف ضد المرأة بينما النساء يُسحلن بسبب طلب وظيفة!
  • ???? المليلشيا تملكها وتديرها أسرة بينما الجيش مليئ بافراد من كل القبائل والاقاليم
  • شاهد بالفيديو.. الناشط الذي اشتهر بتقليد أفراد الدعم السريع يعود بمقطع ساخر ويكشف ردة فعل “الدعامة” عندما تأتيهم تعليمات بدخول الفاشر ومتابعون: (الله يجازي محنك قطعت مصارينا بالضحك)
  • روسيا تضرب تجمعات أوكرانية وتدمر معدات عسكرية في 141 موقعًا بينما تحاول كييف صد الهجمات الصاروخية
  • ترامب الذي انتصر أم هوليوود التي هزمت؟
  • هذه هوية رجل الأعمال الذي لقي حتفه في رحلة قنص بشفشاون
  • كيف رسخت العائلة الملكية البريطانية استخدام اللون الأسود للحداد؟
  • قبل وقف إطلاق النار ما الذي يقوم به حزب الله؟.. معاريف تُجيب
  • الحزن على وجهه.. محمد منير يصل مسجد الشرطة لأداء صلاة الجنازة على محمد رحيم