الروايةُ وأسئلةُ الحروب المعاصرة!
تاريخ النشر: 3rd, November 2024 GMT
ثمّة سؤالٌ أوليٌّ أزليّ عن علاقة الطبيعة الإنسانية بالحرب: «لماذا الحرب؟». سؤالٌ بعثَهُ «إمامُ الفيزياء الحديثة» آينشتاين في رسالةٍ بعثها في تموز/ يوليو 1932 إلى «إِمامِ الغرائز الإنسانية» سيغمون فرويد. ردّ عليه هذا في رسالةٍ عميقةٍ ضافيةٍ شهيرة.
بيد أن حروب اليوم تضيف أسئلةً جديدةً حيّةً مثل: هل وحشيّةُ تقنيات القوة العسكرية والاستخبارية الإلكترونيّة الحديثة تكفي اليوم لضمان الأمن والانتصار الدائم؟
لن ندخل في تفاصيل هذه الأسئلة الفلسفية هنا، ولا في ثنايا مواضيع جوهريّةٍ أخرى تسمحُ بإدراك أبعادٍ تكميليّةٍ عن ماهيّةِ الحروب وآليّاتها ووظائفها (مواضيعٌ يمكن استخلاصها من مراجع أساسيّة عن نظرية الحرب: «فن الحرب» لسان تزو، «الأمير» لميكيافل، «عن الحرب» لِكلاوسفيتز)، لأنّ موضوعنا الرئيس: الرواية.
لماذا الحربُ موضوعٌ أثيرٌ للرواية؟
سؤالٌ بريءٌ ساذجٌ يفرضُ نفسَه: ما الحاجة إلى الرواية عند الحديثِ عن الحروب، فيما كتبُ التاريخِ وعلومِ الاجتماعِ متخصِّصةٌ بذلك؟
الردّ بديهيٌّ طبعاً. إذا كانت تلك الكتب والدراسات تُعطي توصيفاً ماكروسكوبيّا لِلحروب كأحداثٍ تاريخيّة، فالروايةُ، كونها «مدرسة الحياة» هي حفرٌ ميكروسكوبيٌّ عميقٌ في كلِّ حدث، وفي كل صغيرة وكبيرة تمسُّه.
حفرٌ يشتغلُ أساساً تحت سماءٍ مفتوحة: التخييل الروائي. يشتبكُ مع طوفانِ عنفِ الحروب وقصفِها وتدميرٍها وخرائبِها ومجازرِها وإبادتها الجماعيّة المروِّعة. يهتمُّ بكلِّ معاناةٍ فرديّةٍ باعتبارها عالَماً شاسعاً بحدِّ ذاته. ويغوصُ في كلِّ أنواع التأمّلات الوجوديّة المحتدمة، والمشاعر الإنسانية المحمومة (من صداقاتٍ وعشقٍ وكراهيةٍ وحقد)، التي تتفجَّرُ جميعها في زمن الحروب على نحوٍ استثنائيٍّ حادّ.
الحربُ في الأدب العالمي
يصعبُ أن ننطلقَ نحو موضوع ندوتِنا دون التذكير بأنّ الحربَ موضوعٌ محوريٌّ رئيس لأعمالٍ أدبيّةٍ إنسانيّةٍ خالدة. من يمكنه أن ينسى «الإلياذة» لِهوميروس: ملحمةُ أمِّ الحروب، حرب طروادة، التي تَعلَّمنا منها أن الحربَ، وإن كانت منبعَ الشقاءِ الإنسانيِّ الطامِّ الأكبر، لا تخلو من الجماليات أحياناً؟!
من يمكنه أيضا ألا يستحضرَ تولستوي الذي خلّدَ في «الحرب والسلام» يوميّات الحملة النابليونية في روسيا، ليكشف فظاعةَ الحروب الحديثة وعبثَها، على نحوٍ دامغ لا يمّحي من الذاكرة؟
وهمنغواي الذي كان كعادتِهِ خفيفَ الظلِّ شديدَ التأثيرِ وهو يسرد في «وداعا للسلاح» يوميّات مآسي الحرب العالمية الأولى، و«عهر» الحروب عموماً؟
من يمكنهُ أن ينسى موكباً من الروايات، لم يتوقّف مدُّهُ العارمُ حتّى اليوم، مسرحُهُ الحربان العالميّتان الأولى والثانية؟ وكذا الحروب الاستعماريّة، أذكرُ على نحوٍ خاص هنا رواية «فنّ الحرب الفرنسي» لألكسيس جيني، التي نالت جائزة غونكور 2011، والذي عاش راويها معاركَ وهزائمَ حربين استعماريتين: حرب فيتنام الأولى، وحرب الجزائر؟
لا يمكنني هنا ألّا أشيرَ وأنا أتحدّث عن روايات الحروب، عند ذكرِ جائزةِ الغونكور، إلى أن روايتين أساسيتين في قائمتِها القصيرة الحاليّة لِعام 2024، تتمحوران حول الحروب: «حورٌ عِين» لكمال داوود، عن الحرب الأهلية «العشريّةِ السوداء» في تسعينيات القرن الماضي في الجزائر؛ و«جاكراندا» لجائل فاي عن حرب رواندا في 1994.
الروايتان احتاجتا، قبل كتابة مأساتيهما، لِثلاثة عقودٍ من تروما ما بعد الصدمة التي تعيشهما الجزائر ورواندا، جرّاء أبشعِ حربين أهليّتين في النصف الثاني من القرن العشرين.
ما يلاحظه القارئ، منذ بدء الروايتين، هولَ افتتاحيتَيْهما بصورٍ ورموزٍ تراجيدية من الحربين، ستظلّ داميةً ساخنةً لأمدٍ طويل. وايضا اختلاف تعامل البلدين مع ذاكرة التراجيديتين:
أغلقَ نظامُ الجزائر ملفَّ الحديثِ عن حربهِ الأهليّة، ومنعَ قانونيّا استحضارَها بعقوبات السجن والغرامة، كما تنصّ عليه المادة 46 من الميثاق القانوني، المنشورةِ في فاتحة الرواية؛ في حين لم ينفكّ البلد عن إحياء ونبشِ مآسي حرب التحرير من الاستعمار الذي سبقها بعقود.
أما رواندا فهي تُحاول على العكس من ذلك، علاج ما بعد الصدمة، وإن بصعوبةٍ شبهِ مستحيلة، لِهولِ هذه التراجيديا الطائفيّة المنحوتة بالسواطير، ولتجذِّرِ الصراعات الطائفيّة هناك التي يلوح طيفها بين الآن والآن، حتّى اليوم.
لغة غاييل فاي أنيقةٌ حديثةٌ دقيقةٌ أخّاذة، سبقها نجاحٌ مذهل لروايته الأولى السابقة: «بلدٌ صغير» التي بِيع منها مليون ونصف نسخة!
ولغة داوود مترعةٌ بالشِّعر، صبَّ فيها تأمّلاتٍ وجدانيّةً آسِرةً، على إيقاعٍ يتناغم مع معاناةِ بطلتِها: فجر، الشابّة العشرينيّة الخرساء التي تحمل في الرقبة ندوبَ جراح حبالِها الصوتيّة الممزّقة؛ رمز الحرب الأهليّة الجزائريّة المكبوتة.
روايتان مؤثِّرتان جدا في كلِّ الأحوال (بغضّ النظر عن أيّ مآخذ شخصيّةٍ على هذا الكاتب أو ذاك، وعن مواقفهِ الخاصّة من هذه اللغة أو تلك، التي لا تخلو من الإثم أحياناً). ستذهب الجائزةُ إلى إحداهما، من يدري؟!
ثراءُ حروبِ عالمِنا العربيّ وفقرِ رواياتها
تعجّ العقود الأخيرة من التاريخ العربي بكلِّ ما يخطر ولا يخطر ببال من أنواع الحروب: حروب المقاومة الفلسطينيّة لإسرائيل، الحروب التحرُّريّة من الاستعمار، الحروب العالميّة–المحليّة (حرب العراق 1991)، القبليّة–السياسيّة (حرب 1986 في جنوب اليمن)، الحروب الأهليّة، الطائفيّة، الغزوات الدينيّة، حروب ثورات الربيع العربي…
بلاد العرب، في الحقيقة، فضاءٌ مزدحمٌ بالحروب والتراجيديات المتوالية. تحاولُ الروايةُ العربيّةُ قدر المستطاع الخوضَ في تضاريسه، لكنها تجدُ نفسَها عاجزةً غالبا عن سبرِ خِضمِّهِ وتغطيةِ جوانبِه، والتأثيرِ على القارئ العربي.
في هذا السياق، ثمة أسئلة جوهرية لا بدّ أن طرحها ونحن نناقش مثل هذه القضايا الأدبية. أولاً، ما مدى أثر الأمِّيَةِ السائدة، وغيابِ الحريّة، وبؤس المستوى المعيشيّ للروائي والقارئ العربي، وغير ذلك من العوامل السلبيّة، في إضعاف تأثير دور الرواية العربيّة عموماً على الحياة، وكيف يمكن مقاومة ذلك؟
ما أثر ضعفِ المستوى التعليميّ العربيّ وغيابِ العقليّة العلميّة وضعف ثقافة العصر لدى المواطن العربي، في تكرّرِ هزائمنا وعدم استيعابنا لِتغيّرِ أشكالِ الحروبِ المعاصرة اليوم (بعد أن صارتْ تُمارَسُ عن بُعدٍ غالبا، بأسلحةٍ جديدة وروبوتاتٍ قاتلةٍ إباديّةٍ فتّاكة، تَستخدِمُ أحدثَ تقنياتِ الذكاءِ الاصطناعيِّ والتجّسسِ الإلكترونيّ. حروبٌ إلكترونيّة من طرازٍ جديد، توجَّهُ غالباً عن بُعد، دون حضورٍ بشريٍّ على أرض المعارك، أو أدنى مجالٍ لِلشجاعةِ والبطولات الإنسانية)، وكيف يمكن مقاومة ذلك؟
ما مدى أثر كلِّ تلك العوامل السلبيّة على غياب الروايات العربية القادرة على الاشتباك برهانات الحروب المعاصرة المختلفة كليّة عن حروب القرن العشرين: حروب «الروبوتات الذكيّة القاتلة» التي تفتك بمن تريد عن بُعد، دون مواجهة؛ بل القادرة على اقتحام الزمن لاستقراء معالِم الحروبِ الجديدة المقبلة، وآفاقِ الحياة العربيّة المستقبليّة في عالمٍ يسيرُ على إيقاعِ تطوّراتِ الذكاءِ الاصطناعي واكتشافات البيولوجيا الحديثة؟
نقلاً عن جريدة النهار اللبنانية
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: الأدب العالمي الحروب المعاصرة الرواية التی ت
إقرأ أيضاً:
شومان: أئمة المذاهب الفقهية تعكس روح التعاون والاحترام التي يجب أن تسود بيننا اليوم
قال الدكتور عباس شومان، الأمين العام لهيئة كبار العلماء، رئيس مجلس إدارة المنظمة العالمية لخريجي الأزهر، إن الإمام الأكبر أ.د أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، يقود جهودا عالمية بارزة في مجال الحوار الإسلامي الإسلامي، وقد حظيت دعوته لهذا الحوار في البحرين قبل عامين بقبول وترحيب كبير من مختلِف المدارس الإسلامية ومن المقرر أن تعقد أولى جلسات هذا الحوار الشهر المقبل.
وخلال ندوة نظمها جَنَاح الأزهر بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، بعنوان «نحو حوار إسلامي إسلامي»، دعا المسلمين جميعًا أن يستلهموا من نهج النبي ﷺ في تعامله مع المخالفين في الدين، وأنه إن كان نبينا قد قبل التعامل والتعايش مع المخالف في الدين، فنحن أولى بالتواصل بيننا كمسلمين، وأن نقبل التنوع والاختلاف، وفي هذا الجانب تقع مسؤولية كبيرة على عاتق المؤسسات الدينية، التي ينبغي أن تسعى لإرساء قيم التعايش وقبول الآخر، اقتداءً برسول الله ﷺ وتعاليم شريعتنا السمحة.
حكم سداد الديون المتراكمة على الجمعية الخيرية من أموال الزكاةحكم بيع قائمة بأرقام الهواتف لمساعدة الآخرين في التواصل مع أصحابها.. دار الافتاء توضح
وأشار الدكتور عباس شومان في قضية الحوار الإسلامي الإسلامي إلى نموذج يقتدى به في الاختلاف والاحترام، وهو نموذج العلماء المسلمين الأوائل، الذين أسسوا المدارس الفقهية المختلفة بروح من الاحترام المتبادل والمحبة والتقدير، دون أن يكون هناك صراع أو تعصب بينهم. على سبيل المثال، مدارس أهل السنة الأربعة (الحنفية المالكية الشافعية والحنبلية) نشأت على أيدي أئمة عظام كانوا يتبادلون الاحترام فيما بينهم. والإمام الشافعي كان يُجل الإمام أبا حنيفة رغم أنه لم يلتقِ به، إذ وُلد الشافعي في العام نفسه الذي تُوفي فيه أبو حنيفة (150 هـ). وقد تعلم الشافعي على يد تلاميذ الإمام أبي حنيفة، خاصةً الإمام محمد بن الحسن الشيباني.
وأضاف أن الإمام الشافعي كان يقول عن الإمام أبي حنيفة: «كل الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه». وقد بلغ من احترام الشافعي لأبي حنيفة أنه حين صلى العشاء في بلد دفن فيها أبو حنيفة، صلى الوتر ثلاث ركعات متصلة، على مذهب أبي حنيفة، وعندما سُئل عن ذلك، أجاب: «استحييت أن أخالف الإمام في حضرته».
وتابع: الإمام أحمد بن حنبل، كان من تلاميذ الإمام الشافعي، ورغم ذلك أسس لنفسه مذهبًا فقهيًا مستقلًا. وكان الإمام أحمد يُجل الشافعي احترامًا كبيرًا، حتى إنه قال: «ما نسيت مرة بعد موت الشافعي أن أدعو له في صلاة من صلواتي».
وأكد أن هذه العلاقة المميزة بين أئمة المذاهب تعكس روح التعاون والاحترام التي يجب أن تسود بين المسلمين اليوم. وليس المقصود من هذا الحديث التركيز على المذاهب الفقهية تحديدًا، وإنما ضرب مثال على إمكانية التعايش والتوافق بين المختلفين، سواء في المذاهب الفقهية أو العقائدية، بل وحتى في الدين نفسه. يقول الله تعالى في كتابه: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، ويقول: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}. وهذه الآيات تبين أن الإنسان له حرية الاختيار؛ فمن شاء أن يؤمن فله ذلك، ومن شاء أن يكفر فهو حر في اختياره، مع أن الكفر لا يساوي الإيمان في القيمة أو المآل، لكن الشريعة الإسلامية منحت الإنسان حرية اختيار طريقه، سواء كان الإسلام أو غيره.
وفي ختام حديثه، أشار إلى أنه رغم وضوح هذه المبادئ في شريعتنا، إلا أننا لم نقبل تعدد الأديان أو نمارس التعايش الحقيقي الذي يفرضه ديننا. على سبيل المثال، عند دخول النبي ﷺ المدينة المنورة، وجدها تضم قبائل يهودية كثيرة، ولم يُطردوا أو يُقصوا، بل عقد معهم معاهدات سلام واتفاقيات تضمن حقوقهم طالما التزموا بعدم العداء؛ وعندما نقضوا العهد، عوقبوا على نقضهم وليس لاختلافهم الديني. فإذا كان هذا التعايش بين المسلمين وغير المسلمين مقبولًا ومطبقًا في شريعتنا، فمن باب أولى أن يكون التعايش بين المسلمين أنفسهم واقعًا ملموسًا. داعيا إلى عدم الانقسام بين المسلمين ونبذ الخلافات التي نراها اليوم بين سُني وشيعي، وسلفي وأشعري، وماتريدي ومعتزلي، بل وحتى داخل المذهب الواحد نجد الفُرقة والتنازع.