يمن مونيتور:
2025-03-17@23:35:30 GMT

الروايةُ وأسئلةُ الحروب المعاصرة!

تاريخ النشر: 3rd, November 2024 GMT

الروايةُ وأسئلةُ الحروب المعاصرة!

ثمّة سؤالٌ أوليٌّ أزليّ عن علاقة الطبيعة الإنسانية بالحرب: «لماذا الحرب؟». سؤالٌ بعثَهُ «إمامُ الفيزياء الحديثة» آينشتاين في رسالةٍ بعثها في تموز/ يوليو 1932 إلى «إِمامِ الغرائز الإنسانية» سيغمون فرويد. ردّ عليه هذا في رسالةٍ عميقةٍ ضافيةٍ شهيرة.

بيد أن حروب اليوم تضيف أسئلةً جديدةً حيّةً مثل: هل وحشيّةُ تقنيات القوة العسكرية والاستخبارية الإلكترونيّة الحديثة تكفي اليوم لضمان الأمن والانتصار الدائم؟

لن ندخل في تفاصيل هذه الأسئلة الفلسفية هنا، ولا في ثنايا مواضيع جوهريّةٍ أخرى تسمحُ بإدراك أبعادٍ تكميليّةٍ عن ماهيّةِ الحروب وآليّاتها ووظائفها (مواضيعٌ يمكن استخلاصها من مراجع أساسيّة عن نظرية الحرب: «فن الحرب» لسان تزو، «الأمير» لميكيافل، «عن الحرب» لِكلاوسفيتز)، لأنّ موضوعنا الرئيس: الرواية.

لماذا الحربُ موضوعٌ أثيرٌ للرواية؟

سؤالٌ بريءٌ ساذجٌ يفرضُ نفسَه: ما الحاجة إلى الرواية عند الحديثِ عن الحروب، فيما كتبُ التاريخِ وعلومِ الاجتماعِ متخصِّصةٌ بذلك؟

الردّ بديهيٌّ طبعاً. إذا كانت تلك الكتب والدراسات تُعطي توصيفاً ماكروسكوبيّا لِلحروب كأحداثٍ تاريخيّة، فالروايةُ، كونها «مدرسة الحياة» هي حفرٌ ميكروسكوبيٌّ عميقٌ في كلِّ حدث، وفي كل صغيرة وكبيرة تمسُّه.

حفرٌ يشتغلُ أساساً تحت سماءٍ مفتوحة: التخييل الروائي. يشتبكُ مع طوفانِ عنفِ الحروب وقصفِها وتدميرٍها وخرائبِها ومجازرِها وإبادتها الجماعيّة المروِّعة. يهتمُّ بكلِّ معاناةٍ فرديّةٍ باعتبارها عالَماً شاسعاً بحدِّ ذاته. ويغوصُ في كلِّ أنواع التأمّلات الوجوديّة المحتدمة، والمشاعر الإنسانية المحمومة (من صداقاتٍ وعشقٍ وكراهيةٍ وحقد)، التي تتفجَّرُ جميعها في زمن الحروب على نحوٍ استثنائيٍّ حادّ.

الحربُ في الأدب العالمي

يصعبُ أن ننطلقَ نحو موضوع ندوتِنا دون التذكير بأنّ الحربَ موضوعٌ محوريٌّ رئيس لأعمالٍ أدبيّةٍ إنسانيّةٍ خالدة. من يمكنه أن ينسى «الإلياذة» لِهوميروس: ملحمةُ أمِّ الحروب، حرب طروادة، التي تَعلَّمنا منها أن الحربَ، وإن كانت منبعَ الشقاءِ الإنسانيِّ الطامِّ الأكبر، لا تخلو من الجماليات أحياناً؟!

من يمكنه أيضا ألا يستحضرَ تولستوي الذي خلّدَ في «الحرب والسلام» يوميّات الحملة النابليونية في روسيا، ليكشف فظاعةَ الحروب الحديثة وعبثَها، على نحوٍ دامغ لا يمّحي من الذاكرة؟

وهمنغواي الذي كان كعادتِهِ خفيفَ الظلِّ شديدَ التأثيرِ وهو يسرد في «وداعا للسلاح» يوميّات مآسي الحرب العالمية الأولى، و«عهر» الحروب عموماً؟

من يمكنهُ أن ينسى موكباً من الروايات، لم يتوقّف مدُّهُ العارمُ حتّى اليوم، مسرحُهُ الحربان العالميّتان الأولى والثانية؟ وكذا الحروب الاستعماريّة، أذكرُ على نحوٍ خاص هنا رواية «فنّ الحرب الفرنسي» لألكسيس جيني، التي نالت جائزة غونكور 2011، والذي عاش راويها معاركَ وهزائمَ حربين استعماريتين: حرب فيتنام الأولى، وحرب الجزائر؟

لا يمكنني هنا ألّا أشيرَ وأنا أتحدّث عن روايات الحروب، عند ذكرِ جائزةِ الغونكور، إلى أن روايتين أساسيتين في قائمتِها القصيرة الحاليّة لِعام 2024، تتمحوران حول الحروب: «حورٌ عِين» لكمال داوود، عن الحرب الأهلية «العشريّةِ السوداء» في تسعينيات القرن الماضي في الجزائر؛ و«جاكراندا» لجائل فاي عن حرب رواندا في 1994.

الروايتان احتاجتا، قبل كتابة مأساتيهما، لِثلاثة عقودٍ من تروما ما بعد الصدمة التي تعيشهما الجزائر ورواندا، جرّاء أبشعِ حربين أهليّتين في النصف الثاني من القرن العشرين.

ما يلاحظه القارئ، منذ بدء الروايتين، هولَ افتتاحيتَيْهما بصورٍ ورموزٍ تراجيدية من الحربين، ستظلّ داميةً ساخنةً لأمدٍ طويل. وايضا اختلاف تعامل البلدين مع ذاكرة التراجيديتين:

أغلقَ نظامُ الجزائر ملفَّ الحديثِ عن حربهِ الأهليّة، ومنعَ قانونيّا استحضارَها بعقوبات السجن والغرامة، كما تنصّ عليه المادة 46 من الميثاق القانوني، المنشورةِ في فاتحة الرواية؛ في حين لم ينفكّ البلد عن إحياء ونبشِ مآسي حرب التحرير من الاستعمار الذي سبقها بعقود.

أما رواندا فهي تُحاول على العكس من ذلك، علاج ما بعد الصدمة، وإن بصعوبةٍ شبهِ مستحيلة، لِهولِ هذه التراجيديا الطائفيّة المنحوتة بالسواطير، ولتجذِّرِ الصراعات الطائفيّة هناك التي يلوح طيفها بين الآن والآن، حتّى اليوم.

لغة غاييل فاي أنيقةٌ حديثةٌ دقيقةٌ أخّاذة، سبقها نجاحٌ مذهل لروايته الأولى السابقة: «بلدٌ صغير» التي بِيع منها مليون ونصف نسخة!

ولغة داوود مترعةٌ بالشِّعر، صبَّ فيها تأمّلاتٍ وجدانيّةً آسِرةً، على إيقاعٍ يتناغم مع معاناةِ بطلتِها: فجر، الشابّة العشرينيّة الخرساء التي تحمل في الرقبة ندوبَ جراح حبالِها الصوتيّة الممزّقة؛ رمز الحرب الأهليّة الجزائريّة المكبوتة.

روايتان مؤثِّرتان جدا في كلِّ الأحوال (بغضّ النظر عن أيّ مآخذ شخصيّةٍ على هذا الكاتب أو ذاك، وعن مواقفهِ الخاصّة من هذه اللغة أو تلك، التي لا تخلو من الإثم أحياناً). ستذهب الجائزةُ إلى إحداهما، من يدري؟!

ثراءُ حروبِ عالمِنا العربيّ وفقرِ رواياتها

تعجّ العقود الأخيرة من التاريخ العربي بكلِّ ما يخطر ولا يخطر ببال من أنواع الحروب: حروب المقاومة الفلسطينيّة لإسرائيل، الحروب التحرُّريّة من الاستعمار، الحروب العالميّة–المحليّة (حرب العراق 1991)، القبليّة–السياسيّة (حرب 1986 في جنوب اليمن)، الحروب الأهليّة، الطائفيّة، الغزوات الدينيّة، حروب ثورات الربيع العربي…

بلاد العرب، في الحقيقة، فضاءٌ مزدحمٌ بالحروب والتراجيديات المتوالية. تحاولُ الروايةُ العربيّةُ قدر المستطاع الخوضَ في تضاريسه، لكنها تجدُ نفسَها عاجزةً غالبا عن سبرِ خِضمِّهِ وتغطيةِ جوانبِه، والتأثيرِ على القارئ العربي.

في هذا السياق، ثمة أسئلة جوهرية لا بدّ أن طرحها ونحن نناقش مثل هذه القضايا الأدبية. أولاً، ما مدى أثر الأمِّيَةِ السائدة، وغيابِ الحريّة، وبؤس المستوى المعيشيّ للروائي والقارئ العربي، وغير ذلك من العوامل السلبيّة، في إضعاف تأثير دور الرواية العربيّة عموماً على الحياة، وكيف يمكن مقاومة ذلك؟

ما أثر ضعفِ المستوى التعليميّ العربيّ وغيابِ العقليّة العلميّة وضعف ثقافة العصر لدى المواطن العربي، في تكرّرِ هزائمنا وعدم استيعابنا لِتغيّرِ أشكالِ الحروبِ المعاصرة اليوم (بعد أن صارتْ تُمارَسُ عن بُعدٍ غالبا، بأسلحةٍ جديدة وروبوتاتٍ قاتلةٍ إباديّةٍ فتّاكة، تَستخدِمُ أحدثَ تقنياتِ الذكاءِ الاصطناعيِّ والتجّسسِ الإلكترونيّ. حروبٌ إلكترونيّة من طرازٍ جديد، توجَّهُ غالباً عن بُعد، دون حضورٍ بشريٍّ على أرض المعارك، أو أدنى مجالٍ لِلشجاعةِ والبطولات الإنسانية)، وكيف يمكن مقاومة ذلك؟

ما مدى أثر كلِّ تلك العوامل السلبيّة على غياب الروايات العربية القادرة على الاشتباك برهانات الحروب المعاصرة المختلفة كليّة عن حروب القرن العشرين: حروب «الروبوتات الذكيّة القاتلة» التي تفتك بمن تريد عن بُعد، دون مواجهة؛ بل القادرة على اقتحام الزمن لاستقراء معالِم الحروبِ الجديدة المقبلة، وآفاقِ الحياة العربيّة المستقبليّة في عالمٍ يسيرُ على إيقاعِ تطوّراتِ الذكاءِ الاصطناعي واكتشافات البيولوجيا الحديثة؟

نقلاً عن جريدة النهار اللبنانية 

المصدر: يمن مونيتور

كلمات دلالية: الأدب العالمي الحروب المعاصرة الرواية التی ت

إقرأ أيضاً:

من العقل الرعوي إلى المهدية المعاصرة: تأملات في فكر النور حمد والصادق المهدي

المشارب الفكرية والثقافية لكلاهما
أ) الصادق المهدي: المرجعية الدينية والإصلاح السياسي
الإمام الصادق المهدي ينتمي إلى تيار الإسلام السياسي الإصلاحي، لكنه يتميز بخصوصية تختلف عن الحركات الإسلامية التقليدية. فقد حاول تقديم رؤية حداثية للإسلام تتجاوز السلفية الحرفية، وتعتمد على الاجتهاد والتحديث. تأثر بفكر الحركات الإصلاحية الإسلامية الكبرى، مثل فكر الأفغاني ومحمد عبده، كما استلهم بعض أفكار الديمقراطية الغربية، محاولًا التوفيق بينها وبين الشورى الإسلامية.
كان الصادق المهدي سياسيًا محنكًا وفيلسوفًا دينيًا في آن واحد، وسعى إلى تطوير فكر المهدية السودانية عبر العديد من الكتابات، أبرزها كتابه "يسألونك عن المهدية"، الذي قدم فيه مراجعة عميقة لمفهوم المهدية، محاولًا تفكيك التصورات التقليدية عنها وربطها بالإصلاح السياسي والاجتماعي. كما كتب عن الديمقراطية، والتحديات الفكرية التي تواجه السودان، وكان من دعاة الحلول التوافقية بين التيارات السياسية المختلفة.

ب) النور حمد: النقد الثقافي وتحليل البنية المجتمعية
على الجانب الآخر، النور حمد هو مفكر ثقافي ينتمي إلى تيار النقد الاجتماعي، حيث يركز على تحليل البنية الثقافية للسودان وتأثيراتها على التخلف السياسي والاقتصادي. تأثر بالنظريات النقدية الحديثة، وأدخل مفاهيم مثل "العقل الرعوي"، وهي نظرية تشرح كيف تؤثر الثقافة الرعوية على السلوك الاجتماعي والسياسي للسودانيين.
يرى النور حمد أن أزمة السودان ليست مجرد مشكلة سياسية، بل هي مشكلة ثقافية في جوهرها، تحتاج إلى تغيير جذري في العقلية السائدة قبل أي إصلاح سياسي حقيقي. ومن هنا تأتي رؤيته الإصلاحية التي تعتمد على تفكيك البنى التقليدية وتقديم نموذج جديد للحداثة السودانية.
تأثير الصادق المهدي والنور حمد في الواقع السوداني
أ) تأثير الصادق المهدي-
كان لاعبًا أساسيًا في المشهد السياسي السوداني لعقود.
أسس لفكر سياسي يجمع بين الإسلام والديمقراطية.
قدم مراجعات فكرية مهمة حول المهدية والمشاركة السياسية.
بعد وفاته، تراجع تأثير حزبه بسبب الانقسامات.
ب) تأثير النور حمد-
تأثيره أكثر وضوحًا في الأوساط الأكاديمية والثقافية.
نظرياته حول "العقل الرعوي" أصبحت أدوات تحليلية لفهم الأزمات السودانية.
يلقى قبولًا متزايدًا بين الشباب والمثقفين الباحثين عن تفسيرات أعمق للمشكلات الوطنية.
هل يمكن الجمع بين رؤيتيهما؟

أ) من النور حمد: الإصلاح الثقافي والاجتماعي
يرى أن المشكلة الأساسية تكمن في العقلية الرعوية التقليدية.
يدعو إلى ثورة ثقافية تسبق أي إصلاح سياسي.

ب) من الصادق المهدي: الإصلاح السياسي والتوافقي
يؤمن بالإصلاح التدريجي عبر الحوار السياسي.
يدعو إلى دمج الإسلام بالديمقراطية في إطار حداثي.

ج) الجمع بين الرؤيتين-

الإصلاح الثقافي + الإصلاح السياسي: بدون تغيير الثقافة، يفشل الإصلاح السياسي، وبدون إصلاح سياسي، يظل التغيير الثقافي حبيس النخبة.

التغيير الجذري + الإصلاح التدريجي: يمكن تبني نهج يجمع بين التغيير الثقافي العميق والإصلاح السياسي الواقعي.

المثقفون + السياسيون: يمكن للمثقفين أن يلعبوا دور الجسر بين الإصلاح الثقافي والسياسي.

أيهما أكثر تأثيرًا اليوم؟
في ظل الأزمة السودانية الحالية، يبدو أن أفكار النور حمد حول تحليل الثقافة والمجتمع تلقى رواجًا أكبر بين الشباب والمثقفين، في حين أن إرث الصادق المهدي السياسي لا يزال حاضرًا، لكنه يواجه تحديات بسبب غياب قيادة واضحة لحزب الأمة.

ما أري هو السودان بحاجة إلى مشروع وطني يجمع بين الإصلاح الثقافي الذي دعا إليه النور حمد والإصلاح السياسي الذي سعى إليه الصادق المهدي. فالتغيير الثقافي العميق والإصلاح السياسي التوافقي هما وجهان لعملة واحدة في بناء سودان جديد.

* وفي النهاية اقول تمت المقارنة بين رؤيتي النور حمد والصادق المهدي في سياق الأزمة السودانية الحالية، حيث تناولنا تأثيرهما، إمكانية الجمع بين رؤيتيهما، وأثر كل منهما في الواقع السوداني. لقد تم التركيز على الإصلاح الثقافي والاجتماعي الذي دعا إليه النور حمد، والإصلاح السياسي الذي كان محور فكر الصادق المهدي.
مع ذلك، إن شبّهت هذه المقارنة قصورًا، فهي جاءت دون دراسة أكاديمية متعمقة لتراث الإمام الصادق المهدي. أعتذر لحراس فكر الإمام والمهدية المعاصرة كما يعتقد بعض الأصدقاء. في الواقع، كان هذا الطرح جزءًا من محاضرة تتناول كتابات النور حمد، وكل ما ورد هنا كان عفو الخاطر ومجموعة ملاحظات لم تكن ضمن دراسة ممنهجة.

zuhair.osman@aol.com  

مقالات مشابهة

  • حروب ترامب التجارية تؤدي إلى تباطؤ النمو العالمي وزيادة التضخم حسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية
  • ارتفاع أسعار المنتجات الأميركية بسبب الحرب التجارية التي أطلقها ترمب
  • رئيس شؤون الضباط في وزارة الدفاع العميد محمد منصور: الجيش العربي السوري كان وسيبقى عماد السيادة الوطنية، واستعادة الكفاءات والخبرات العسكرية التي انشقت وانحازت للشعب في مواجهة نظام الأسد البائد والتي خاضت معارك الدفاع عن الوطن أمرٌ ضروري لتعزيز قدرات جيشن
  • من العقل الرعوي إلى المهدية المعاصرة: تأملات في فكر النور حمد والصادق المهدي
  • رسميا: صنعاء تكشف عن الخسائر التي خلفتها الغارات الأمريكية اليوم
  • إفطار المطرية اليوم.. تفاصيل أكبر مائدة رمضانية بالوطن العربي بحضور 100 ألف صائم|فيديو وصور
  • كيكل: الوحدة التي حدثت بسبب هذه الحرب لن تندثر – فيديو
  • الخارجية: توجهات الإدارة الأمريكية بإنهاء الحروب تعزز الأمل في وقف الصراعات العالمية
  • السودان في الصدارة .. توقعات “بارتفاع مذهل” للنازحين عالميا
  • التيّار غير مقتنع بشفافية التعيينات... وكلمة لباسيل اليوم