وكيكل إذا “تدعَّم” أو “تكوزن”: ففي الحالتين إنسان الجزيرة ضائع
تاريخ النشر: 3rd, November 2024 GMT
على طريقة طيرة " أم كتيتي" التي يقولون إنَّها تضع بيضةً واحدة في حياتهاً، لكن تعيس الحظ من تصادفه؛ فإذا أخذ البيضة ماتت والدته، وان تركها مات والده، ففي الحالتين يبقى ضائع، إن أخذ وإن ترك.
هذا الوضع يشبه تماماً وضع انسان الجزيرة مع رحلة أبو عاقلة كيكل، ما بين الجيش والدعم السريع والجيش، فعندما جاء صاحب قدومه حملةٌ شعواء من الانتهاكات ضد انسان الجزيرة، وعندما قرر العودة إلى حواضنه مات المئات، وهو أكبر من عدد من الضحايا منذ دخوله للجزيرة المنكوبة.
لماذا استلم كيكل، الجزيرة " تسليم مفتاح"؟ ولماذا شنت قوات الدعم السريع تلك الهجمات الشرسة على المواطنين؟ ولماذا وزع سلاحاً على بعض القرى؟ ثم لماذا عاد بتلك الطريقة الدراماتيكية؟ ولماذا كان خائناً ثم أصبح بطلا؟
وسر العودة هل وصل إلى قناعةٍ بأن قوات الدعم السريع لن تحقق له طموحاته الشخصية؟ أم لأنه كان غواصةً من غواصات الاستخبارات في سياق حرب الاختراقات المتبادلة بين رفاق الأمس وأعداء اليوم؟، ما هي مهام الغواصات داخل الفصائل المسلحة؟.
خلال حرب دارفور في غرب السودان لم تخل حركات الكفاح المسلح من عمليات اختراقات أمنية ساهمت في عملية تفتيت الحركات وتقسيمها في معظم الحالات مستغلةً الخلافات القبلية بين قادة الحركات والطموحات الشخصية.
في تسعينات القرن الماضي تعرضت كذلك "قوات التجمع الوطني الديموقراطي" في شرق السودان واريتريا إلى عمليات اختراقات محدودة ظهر بعضٌ منها في بعض الفصائل، ولم ينج الجيش الشعبي في الجنوب من عشرات الاختراقات، مثلما تعرض الجيش الشعبي لانقسامات على أساسٍ قبلي أدت إلى حروبٍ دامية بين كانت موازية للحرب ضد الجيش السوداني في الجنوب، والذي كعهده استفاد من الجماعات المنشقة وكون منها مليشيات تابعة له، شاركت في القتال بضراوةٍ نيابةً عنه.
قصص التجسس، والاختراق ليست جديدة في العمل السياسي والعسكري، حيث تتخذ كل الأجهزة الأمنية والاستخبارية في كل العالم استراتيجياتها المتشابهة في زرع عملائها وسط المجموعات المستهدفة، وتفضِّل هذه الأجهزة في غالب الأحوال انتقاء عملاء بمواصفات محددة من أبناء ذات المجموعة المخترقة حتى لا ينكشف أمر الجاسوس.
تتوزع مهام المخترقين والجواسيس حسب نوع كل عملية اختراق، إلا أن أكثر المهام التي يعرفها الجميع، هي مهام جمع المعلومات المتعلقة بالمعركة المعنية، وتشمل الجانب العسكري، حيث عديد القوات، التسليح، المناطق الاستراتيجية، مناطق انتشار القوات، الروح المعنوية، ساعات الصفر لبدء المعارك، المناخ السياسي، الأوضاع الاقتصادية.
هناك نوعٌ آخر من الاختراقات هدفه اثارة الفتن، بذر بذور الخلافات، أو الوصول إلى القيادة والسيطرة عليها والتأثير على عملية صنع واتخاذ القرارات، وقد تصل المهام حد قيادة تيارات انقسامية تفتت وحدة " الجسم العدو" وتسهل مهمة الانقضاض عليه، أو جعله تابعاً لجهةٍ ما.
لا تميل الأنظمة السياسية إلى الكشف عن جواسيسها حفاظاً على حياتهم، وعلى أسرارهم، حيث يعود كثير من الغواصات في هدوءٍ شديد دون أن يشعر بهم أحد، أو يثيرون الاهتمام؛ هنا يمكن الإشارة الى دراما " رأفت الهجان" وكيف عاد عميل المخابرات المصرية من تل أبيب دون ضجيجٍ، بل لم يكشف هويته حتى لزوجته الألمانية.
.
لكن عودة كيكل، كانت؛ لا تشبه عودة الغواصات، ولا تشبه عودة قادة الفصائل المنشقة، فقد صاحبت عودته، ضوضاءً، ودق طبول، ورقص فلول، وحولوا ذات الرجل الذي وصفوه " بالخائن" إلى بطل، ووطني عظيم! ونسوا الجرائم التي ارتكبتها قوات الدعم السريع تحت إمرته!.
ثم خفت ضجيج فعله، لكن لم يخفت صداه، ولم تنته ارتدادات الضربةـ فلا تزال جراح الجزيرة نازفةً ، ولا يزال اليتامي والأرامل يبكون، ولا تزال عمليات الكر والفر تتواصل؛ ومثلما ذهب كيكل، إلى مدني، وسط بحارٍ من الدماء، عاد وأنهار الدماء ترشح فوق شرق الجزيرة ومناطق السريحة وأزرق بشمال الولاية.
يا ترى ماذا كانت مهمة كيكل الأساسية؟ هل زرعته استخبارات الجيش داخل الدعم السريع؟ معروفٌ أنّ الاستخبارات كانت قد أسندت له تشكيل قوةً عسكرية اسمتها " درع السودان" في ديسمبر ٢٠٢٢، وكان واضحاً أن هدفّ تأسيس قوة كيكل، ضبط المعادلة العسكرية في البلد المكلوم، وحفظ التوازن بين القوات القادمة من دارفور من حركات ودعم سريع وقوات الجيش وغيرها من مليشيا الشمال.
لكن لماذا انضم كيكل في شهر أغسطس ٢٠٢٣ إلى قوات الدعم السريع؟ ولماذا قاد بنفسه عمليات السيطرة على ولاية الجزيرة؟ ثم لماذا كانت سهولة السيطرة على الولاية؟. ما هي أسرار الانسحاب الفجائي للجيش؟! وبعدها تحوّلت الأرض الحنينة إلى جحيم، وتشتت أهلها في بقاع الأرض، هاجروا إلى اثيوبيا واريتريا شرقاً، وهبطوا مصر متسللين، مات البعض منهم في الطرقات عطشاً، ومات آخرون من ارتفاع درجات الحرارة وضربات شمس يونيو الحارقة.
منذ أن سيطرت قوات الدعم السريع على ولاية الجزيرة أصبح كيكل، من أهم قياداته، وصار النجم الأول الذي يزور القرى والمدن، ويشارك في حل بعض المشاكل، وكثيراً ما وعد أهل القرى بإرجاع ممتلكاتهم المنهوبة ومحاسبة الجناة، وأكدت مصادر متعددة أن كيكل، عرض على بعض شباب القرى تسليح شبابهم بحجة الدفاع عن قراهم حال حدوث هجوم من أية قوة على القرى التي لم تخل من وجود نقاط ارتكاز قوات الدعم السريع، وبالفعل دعم بعض أهل الجزيرة تلك الخطوة، واشتروا أسلحةً فيما عزف أهل قرى أخرى حتى يجنبون قراهم من التورط في أي صراعاتٍ مستقبلية.
من الوا ضح أن ذهاب وإياب كيكل الغرض منه تحويل أهل الجزيرة إلى حقل تجارب، وتركه وحيداً مع قوات الدعم السريع من جهةٍ، والاستفادة عسكرياً؛ بتخفيف الضغط على الخرطوم، وفك الحصار عن مواقعها الاستراتيجية، لأن الدعم السريع سحب بعضاً من قواته للانتشار جنوباً، وبالفعل ظهرت نتيجة ذلك في معارك أم درمان وبحري.
ففي الذهاب وفي الإياب ظل الإسلاميون يتمايلون طرباً، ويتخذون من قضايا حقوق الإنسان ورقةً للدعاية الحربية، بتعبئة وتجييش المواطنين، وخلق مزيد من الفوضى لخلط أوراق المشهد السياسي، والتمهيد لعودتهم.
أي شيطانٍ يا ترى صمّم هذا السيناريوهات؟ وكيف سوَّلَّت له نفسه الإمارة بالسوء والشرور أن يضع حوالى ٥ مليون مواطناً، بلا حمايةً حيث هرب الجيش في الأولى، ووقف يتفرج في الثانية، بينما رقص الكيزان في الحالتين على مارشات العسكر، ومشوا فوق جماجم الأبرياء، بل لا يزالون ينفخون في روح الأكاذيب ويطلقونها إلى سماءٍ ملبدة بغيوم الفتن، ما خفي منها وما بطن!.
لم يستفد انسان الجزيرة شيئاً من قيادة كيكل لقوات الدعم السريع، ومن صرف الفلول له بطاقة " خائن"، ولن يستفد أيضاً من تركها و ذهابه، و منحه شهادة " بطل"، فهو مثل بيضة أم كتيتي إن " " تدعَّم" أو " تكوزن و" إذا جاء، وإذا انصرف، ففي الحالتين المواطن هو الضائع. وليست هناك ام كتيتي غير الإسلاميين.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: قوات الدعم السریع فی الحالتین
إقرأ أيضاً:
في ذيول عدوان الدعم السريع على الجزيرة: الأبرياء هم أعدائي
عبد الله علي إبراهيم
ملخص
يقال في السودان "الجاب كتالك (قاتلك) جاب حجازك". أي من رتب لقتلك رتب خلال الوقت نفسه لمن يحجزك عنه. و"حجاز" هذه الحرب تطوعاً منذ اندلاعها خلال الـ15 من أبريل 2023 هي "تقدم" بموقفها المعلن "لا للحرب".
طاف بنا أحد عناصر "الدعم السريع" بعدسة هاتفه داخل قرية السريحة في ولاية الجزيرة "الخاوية على عرشها" بحسب وصف أحدهم، بعد هجوم القوات التي يقودها "حميدتي" عليها خلال الـ25 من أكتوبر2023، وهي واحدة ضمن ست مدن و58 قرية في الولاية. وكان الهجوم بمثابة عقوبة جماعية على أهل الولاية بعد خروج أبو عاقلة كيكل على "الدعم السريع" وطلبه الانضمام إلى قوات الشعب المسلحة. وكان كيكل الذي ينتسب لولاية الجزيرة هو من احتل الولاية باسم "الدعم السريع" خلال ديسمبر 2023 وتولى قيادة قواته فيها، فنصبت "الدعم السريع" أسلحتها ومدافعها على أعلى المباني داخل السريحة وأطلقت النار عشوائياً على الأهالي العزل. فقتلت 50 شخصاً منهم وأصابت أكثر من 200. وأكرهت أهلها بعنف على مغادرتها عن بكرة أبيها.
طاف بنا فيديو عنصر "الدعم السريع" بشارع خامل من كل حركة في السريحة، وكان خلو البلدة هو ما ثأرت به "الدعم السريع" من خذلان كيكل لها كما جاء في تعليقات العنصر الذي لم يظهر هو نفسه، فأعلن العنصر من شارع فارغ (أو تظنه فارغاً):
من داخل السريحة، من داخل السريحة الأشاوس، كب نجف كب نجف (للفخر). يا فارات (يا جبناء). يا نسور الجو (سلاح الجيش للطيران) وين انتو يا فارات؟
(تظهر جثة رجل ملقاة في الشارع. لا تسترعي انتباهه) ويواصل:
يا نسور الجو وين؟
(يمر بفرن في شارع خال)
دا فرن واللا شنو؟
(يمر بدكان عند الفرن)
يا بتاع الدكان، يا كيكل يا كيكل يا كيكل يا كيكل ياكيكل يا كيكل، ناس السريحة بسلمو عليك.
يا كيكل آخ. كب نجف كب نجف.
آخ الأشاوس "الدعم السريع" فضو الحلة سريع
طردوا السريحة سريع
فرتقوهم سريع
وأكعب من حقة تمبول (أفظع مما فعلوا في بلدة تمبول).
و(قال إنه سينشر تسجيله هذا لجماعته لاحقاً لكي يرونه).
كشفو (هربوا) الحلة. البلد خلا. والله جرو دنقاس (مطأطئ الرأس ذليل). خلا. وكشف (هرب). الشوارع خلا. جرو دنقاس. تجو تطرولينا (تطرون أنفسكم) هنا. نسور الجو ونسور القيامة (...) نشوفو. كشفوا (هربوا) خلو البلد خلا. في حاجة فوق للجو بتعرفو ليها كويس؟ دا بيقولو ليهو ربنا سبحانه وتعالى (أي لن يغلب سلاح الطيران ربنا). انتهى.
عدة الشغل
كانت وصية محمد حمدان دقلو في خطابه الأخير (الـ11 من أكتوبر) لأفراد قواته في "الدعم السريع" أن يمتنعوا عن تصوير مجريات الميدان الذي يقاتلون فيه. وواضح من فيديو العنصر التابع له في السريحة أنه ربما كان الامتناع عن تصوير منجزهم الميداني صعب التحقيق إن لم يكن مستحيلاً، فالكف عن إعلان مثل هذا العنصر لأفعاله يصادم طبيعة "الدعم السريع" كجماعة إرهابية كثيراً ما استهدفت المدنيين كما رأينا في الجزيرة، ولا يقدح إرهابها في أن لها أغراضاً سياسية مبيتة اتفق لها تحقيقها بالترويع. ففي أصل تعريف الإرهاب أنه استهداف غير المحاربين أو من يقال عنهم "الأبرياء" في قول أحدهم، فما نراه من عنف لـ"الدعم السريع" في الجزيرة مما سبقهم إليه الإرهابيون. فحركة "نابراما" الميليشيات التي استنجد بها جيش موزمبيق في حربه ضد ميليشيات "رينامو" خلال السبعينيات دخلت في طور إجرامي من خطف للناس وطلب الفدية، وإجبار السكان على دفع الإتاوات. وعادت من قريب لتمارس خطف الأطفال وجز الرؤوس وتخريب المدارس والمستشفيات وإفزاع المدنيين للنزوح من وجهها بالآلاف. فإذاعة خبر الإرهابي هو إعلان ليعرف عنهم القاصي والداني أن الرحمة منزوعة منهم. ونشر عدوانهم بعضاً من "عدة الشغل".
ويبدو أن انتهاكات "الدعم السريع" في الجزيرة ربما قربنا من مطلب عدها منظمة إرهابية كما تطلب الدولة السودانية من المجتمع الدولي. فللمرة الأولى تستقل "الدعم السريع" بإدانة أميركية على انتهاكاتها في الجزيرة بغير ذكر قرين للقوات المسلحة بما ربما ارتكبت لوقتها. فوصف المتحدث باسم وزارة الخارجية ماثيو ميلر اعتداءات "الدعم السريع" بـ"الذميمة". وأخذ على قادة "الدعم السريع" عدم الوفاء بالالتزامات التي قطعوها للعالم بحماية المدنيين الذين أدخلتهم قوات "الدعم" في دورة الحرب حتى تهددت المجاعة 24 مليوناً منهم، بينما تشرد 14 مليوناً منهم في الآفاق. ونوه بالعقوبات التي أوقعتها أميركا بحق القوني حمدان دقلو موسى شقيق "حميدتي" لدوره في الحرب، كما جدد ميلر التزام واشنطن بوقف الحرب والعودة لمسار الانتقال الديمقراطي.
ومن المؤسف ألا تجد هذه المقاربة المباشرة لانتهاكات "الدعم السريع" عند جماعة مرموقة من الصفوة السياسية في الحزب الجمهوري وتنسيقية القوى التقدمية المدنية (تقدم)، فبياناتهما تمزج بين هذه الانتهاكات وأشياء متعلقة بالقوات المسلحة في ماضيها وحاضرها، مزجاً يعادل بين سوءتهما مما يعرف بـ"التكافؤ المعياري" (moral equivalency) ربما في غير ما وقت. فلم يعادل بيان الجمهوريين (الـ25 من أكتوبر) بين "الدعم السريع" والقوات المسلحة فحسب بل رجحت كفة كلماته إحصائياً لمصلحة "الدعم" كما يلي:
1- فقرة عن ارتكاب قوات "الدعم السريع" انتهاكات بشعة (13 كلمة).
2- فقرة بتذكير هذه الانتهاكات بما قام به نظام الإنقاذ في دارفور وجبال النوبة (78 كلمة).
3- فقرة عن أن الفلول (الإسلاميون ممن اختطفوا الجيش) هم من أشعل الحرب (72 كلمة).
4- فقرة "لوم" لـ"الدعم السريع" لتنصلها عن التزامها بإعلان أديس أبابا (يناير "كانون الثاني" 2024) مع "تقدم" بحماية المدنيين. فلو فعل ذلك لقربه من الشعب فينفض يده عن الجيش المختطف من الفلول. وعليه نجح الفلول بدعوتهم لتسليح الشعب لقتال "الدعم" في استفزاز لـ"الدعم السريع" وجره للدخول في معركة غير متكافئة مع الشعب، سيتاجر الفلول بضحاياها (60 كلمة ونحسبها مناصفة بين "الدعم" والجيش).
5- فقرة فيها دعوة للوقوف ضد الجيش واستنفار المواطنين وتسليحهم (36 كلمة).
وسترى أنه جاءت إدانة الجيش في 216 كلمة بينما جاءت إدانة "الدعم السريع" في 43 كلمة بنسبة 19 في المئة للجيش.
أما بيان "تقدم" (الـ26 من أكتوبر) فحافظ على أخذ الطرفين بالنقد لانتهاكاتهما متى كان العدوان ليومنا من جانب "الدعم السريع":
الفقرة الأولى: استنكار ما حدث في شمال الجزيرة وشرقها.
الفقرة الثانية: تعبير عن الأسف لتسليح المواطنين من قبل الجيش وتحويلهم إلى مقاتلين بجرهم إلى حرب أهلية.
الفقرة الثالثة: حملت "الدعم السريع" مسؤولية ما حدث وطلبت منها وقف الانتهاكات ومحاسبة مرتكبيها (وهي فقرة متوقع إنشائياً أن تأتي بعد الفقرة الأولى التي عرضت لتلك الانتهاكات مباشرة).
فقرة رابعة: دعوة الأطراف للتوقف عن خطاب الكراهية والتحشيد على أساس قبلي والعودة إلى اتفاق جدة عن حكاية المدنيين.
هذه "اللجة" بين الجيش و"الدعم" التي وسمت أدبيات "تقدم" هي ما قصده ربما وزير الإعلام في الحكومة الانتقالية الصحافي فيصل محمد صالح بقوله "القسمة على اثنين"، أي ألا تذكر عدواناً لطرف بغير ذكر عدوان للطرف الآخر، ضربة لازب. وفيصل معدود في "تقدم" بسليقته الصحافية المستقلة. وقال في مقالة أخيرة إن إدانة "الدعم السريع" على انتهاكاتها في الجزيرة هي "الموقف الصحيح الذي لا يقبل القسمة على اثنين". بعبارة، فلننسى القوات المسلحة لحين ونأخذ المنتهك في يومنا بجريرته، وزاد برفض الربط الذي أقامه بيانا "الجمهوري" و"تقدم"، وسوءة "الدعم السريع" فاقعة بين انتهاكاته واستنفار القوات المسلحة للمقاومة الشعبية. فقال إن ربط ما حاق بالمواطنين العزل بدعوات الاستنفار "هي تبرير لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية واسعة النطاق التي يقوم بها ’الدعم السريع‘ بحق المدنيين". وزاد أن مثل هذا الربط "يرقى إلى التواطؤ مع القتلة والمجرمين على أفعالهم".
ويقال في السودان "الجاب كتالك (قاتلك) جاب حجازك"، أي من رتب لقتلك رتب خلال الوقت نفسه لمن يحجزك عنه. و"حجاز" هذه الحرب تطوعاً منذ اندلاعها في الـ15 من أبريل 2023 هي "تقدم" بموقفها المعلن "لا للحرب". وبدا أخيراً أن كسبها من هذه الجهة ليس موضع رضا حتى بين من يعد من أصدقائها ناهيك بخصومها. فكتب الواثق كمير الأكاديمي النقابي ذو الباع الطويل في الممارسة السياسة زاهداً في طرائقها لبسط السلام، قائلاً إنه لا بد من نهج مختلف لمقاربة إنهاء الحرب بعد عدوان "الدعم السريع" على السودانيين الأبرياء بولاية الجزيرة. فالمفاوضات مع "الدعم السريع" التي لا يمتثل عناصرها لأوامر قائدهم المعلنة "مجرد سراب". وهذا ما يستدعي من هذه القوى السياسية أن تعيد النظر في "موقفها في شأن وقف الحرب وإنهائها".
وهذه كلمة عنوانها النهائي "تقدم" لا محالة. ولعل أول ما تبدأ به "تقدم" بصدد شق طريق جديد لإنهاء الحرب هو مراجعة إعلانها السياسي مع "الدعم السريع" في أديس أبابا خلال أوائل هذا العام. فـ"الدعم السريع" لم تلتزم بأي مما تعاقدت مع "تقدم" على عمله. فرأينا حتى الجمهوريين ينعون عليها الغفلة أو سوء التقدير لأنها لو لم تمتنع عن تنفيذ الإعلان لكسبت الناس جميعاً. فلم تهيئ "الدعم"، في قولهم، الأجواء كما التزمت لعودة المواطنين إلى منازلهم في المناطق التي تأثرت بالحرب (الخرطوم ودارفور وكردفان والجزيرة) فحسب، بل وسعت الفتق على الراتق في التهجير القسري. فنزح فقط جراء تعدياتها الأخيرة نحو 14 ألف نسمة من أرياف الجزيرة. ولم تحل الإدارة المدنية التي اتفق أن ينشأ مثلها في مواضع سيطرتها التي أقامتها في ولاية الجزيرة دون ما فشا عن عنفها البدني والجنسي والنفسي على أهلها. ولم يعد من يذكر إعلان أديس أبابا جدياً أو يرجو خيراً منه. فما يسمع الناس عنه إلا في معرض لوم "تقدم" للحكومة على امتناعها عن التوقيع عليه بعد مناقشته وتعديله ما شاءت. إلا أن إعادة النظر فيه مع "الدعم السريع" لوضعه موضع التنفيذ أو إلغائه مما قد تتحقق به دعوة الواثق من ابتداع -مثل "تقدم"- طرق مختلفة لوقف الحرب. فالإعلان بات عالقة تحرج "تقدم" من فرط خمولها في حين كسبت "الدعم السريع" منه ليومه. ولا أظنه يخطر له ولو لماماً.
إذا أرادت "تقدم" أن تكون حجازاً صح أن تستصحب عبارة سودانية في المعنى "الحجاز ليهو عكاز أي أنه على حياده، ذو حيلة وصولة.
ibrahima@missouri.edu