محمود مرزوق يكتب: الخواجة جرانجر وسرقة التاريخ
تاريخ النشر: 3rd, November 2024 GMT
عندما بدأت الثورة الصناعية فى أوروبا كانت صناعة النسيج هى أبرز الصناعات التى أنتجتها هذه الثورة الفاصلة فى التاريخ الحديث.
وفى هذه الأثناء كانت فرنسا وإنجلترا فى حالة تنافس محموم بغية النهوض بصناعة المنسوجات ومن ثم الاستغناء عن الاستيراد من الهند وحواضر الشرق الأوسط مثل القاهرة وحلب وديار بكر والانتقال لمرحلة الإنتاج والاكتفاء الذاتى والتصدير، لكن هذا الطموح كان يواجه عقبة كبيرة تتمثل فى التقنيات المصاحبة لعملية التصنيع، وتحديداً عملية صباغة المنسوجات، فكانت فرنسا تضطر لإرسال أقمشتها لتُصبغ فى هولندا ثم تكتمل عملية تصنيعها فى فرنسا من جديد.
وبدأ الفرنسيون يفكرون فى إيجاد طريقة اقتصادية لتلوين أقمشتهم ومنسوجاتهم تسهم فى النهضة بمشروعهم الصناعى الناشئ، غير أن محاولاتهم لم تُكلل بالنجاح، فبدأوا جولة جديدة من التجسس الصناعى بعدما تواترت لديهم معلومات تؤكد أن أفضل ما يمكنهم فعله هو اقتباس التقنية المصرية فى تبييض وصبغ الأقمشة والمنسوجات، وقد كانت مصر وصُناعها لديهم خبرة متراكمة عبر الزمن فى معالجة الألوان واستنباط الجديد والطريف والمركَّب منها بدراية هائلة وخبرة تناقلوها من عصور ما قبل الأسرات.
وفى الوقت الذى كانت تتطلع فيه فرنسا لطرف خيط يسهم فى نجاح صبغ وتبييض الأقمشة كانت القاهرة تعج بطوائف الصُناع المهرة المدربين على التقنيات التقليدية فى صبغ المنسوجات، فكانت هناك طائفة الصباغين بالأحمر وطائفة البصمجية الموكلين بوضع الألوان الزاهية المتداخلة على الأقمشة.
اقتضى نظام طوائف الحرفيين آنذاك أن تكون الطائفة مغلقة على نفسها ولا تسمح إطلاقاً بوجود دخلاء على المهنة ومن يمارس المهنة دون تصريح من شيخ الطائفة يُعرِّض نفسه للمساءلة القانونية أمام المحاكم الشرعية، والتى كانت تحكم بالقانون الداخلى لكل طائفة.
ولضمان الجودة ومنع التنافسية كانت أسرار الصنعة حكراً على كل طائفة، وهو ما ضمن ربحاً كبيراً للطائفة التى لا ينافسها أحد وتحتكر أسرار الصنعة، غير أن القائمين على صناعة النسيج فى فرنسا كانوا يتطلعون لإنجاح تجربتهم الخاصة بصنع النسيج، وكانت الحلقة المفقودة التى يبحثون عنها هى تقنية إنتاج ملح النوشادر، وهى مادة كيميائية يتم إنتاجها بطريقة تقليدية وتسهم فى ثبات الألوان واستمرارها زاهية فترة طويلة بعد الصباغة والاستعمال، وهنا قرر الفرنسيون استخدام مهارتهم فى التجسس الصناعى فأرسلوا قناصل وتجاراً ورهباناً بهدف جمع معلومات عن تقنية صناعة ملح النوشادر، وجاء النجاح واقتناص المعلومات على يد طبيب يُدعى جرانجر تنكَّر فى زى رجل عربى وبدأ التجول حول ورش صناعة هذه المادة الكيمائية بغية تحصيل أى معلومات تكشف له سر الصنعة، إلى أن سنحت الفرصة عندما فقد الوعى فجأة أحد صُناع ورش ملح النوشادر، وهنا اندس جرانجر وسط الجموع التى تحاول إسعاف الرجل ونجح فى علاجه بحكم عمله كطبيب، وأثناء جلسة ودية أعقبت إسعاف المريض انحلت عقدة لسان معلمى الملح وتباسطوا مع الخواجة جرانجر وشرحوا له من الألف للياء طريقتهم السرية فى تحضير ملح النوشادر، وبسرعة البرق أرسل جرانجر ما تراكم لديه من معلومات ثمينة لفرنسا فاعتبروا ذلك نصراً كبيراً وعلقوا: «الناجحون هم الذين لا تشيع أسرارهم»، وهكذا فقدت مصر أحد أوجه تميزها وتفردها بفعل خديعة أتقنها الخواجة جرانجر.
هذه الواقعة وغيرها من وقائع كثيرة تُعد حلقة من حلقات ممتدة لسياسات الاستيلاء الثقافى التى شملت سرقة الأفكار والآثار، وتؤكد أن لحظة الاصطدام بالغرب وقت الحملة الفرنسية ما هى إلا لحظة مهمة ولكنها ليست فريدة.
* كاتب وباحث فى الآثار المصرية
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: صناعة النسيج
إقرأ أيضاً:
د. مروان المعشر يكتب .. الخطة العربية مقابل المقترح الأمريكي
#سواليف
أقرت #القمة_العربية ومن بعدها منظمة التعاون الإسلامي خطة عربية مفصلة لليوم التالي بعد #الحرب على #غزة تتضمن إعادة إعمار غزة دون #تهجير_الفلسطينيين منها، وذلك ردا على #مقترح_الرئيس_الأمريكي إعادة الإعمار ولكن بعد تهجير الفلسطينيين من #غزة ثم عدم العودة إليها. من المفيد النظر إلى بعض التفاصيل حول الفوارق بين الخطة والمقترح وواقعية كل منهما.
بدءا، من المهم الإدراك أن ما قدمه الرئيس الأمريكي لا يتجاوز المقترح دون إرفاقه بأية خطة لتنفيذه، مفاده تهجير #سكان_غزة إلى #مصر و #الأردن وعدم العودة إليها، ثم إعادة تعمير غزة وجعلها «ريفييرا» المنطقة. بالطبع، لم يقدم ترامب أية آليات لتهجير مليوني فلسطيني دون إرادتهم، أو ما يعرف قانونيا بالتطهير العرقي، ولم يشرح كيف يتم التهجير إلى مصر التي رفضت ذلك بالمطلق، كما فعل الأردن الذي لا يرتبط جغرافيا بقطاع غزة أصلا. ولم يشرح ترامب أسباب رفض عودة الفلسطينيين إلى غزة بعد «إعمارها» وتناقضه مع «تعاطفه» مع أهل غزة و«رغبته» في توفير عيش كريم لهم دون السماح لهم بالعودة إلى أرضهم ووطنهم. كما لم يشرح المقترح كيف «ستتملك» الولايات المتحدة غزة كما قال ترامب ومن سيقوم بإعمار القطاع وإلى من ستؤول «ملكيته».
بالرغم من إبهامية المقترح، وخرقه الفاضح لكل القوانين الدولية، وتجاهله لحقيقة أن لا الفلسطينيين يرغبون بالهجرة ولا مصر والأردن مستعدتان لاستقبالهم، يخرج البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية لينعت الخطة العربية بمجرد صدورها «باللاواقعية» بينما ترفضها إسرائيل جملة وتفصيلا.
مقالات ذات صلة التفاوض مع حماس.. لماذا أقدم ترامب عليه ولماذا قبلت الحركة؟ 2025/03/11من المفيد استعراض الملامح الرئيسية للخطة العربية. فعدا عن تقديمها خطة فنية مفصلة تشرح كيفية #إعادة_الإعمار دون تهجير الفلسطينيين عبر مراحل عدة تتضمن إسكانهم في بيوت جاهزة أو خيم بينما تتم إعادة الإعمار على مراحل تمتد لخمس سنوات، وبينما يتم تزويد السكان بكل ما يحتاجونه من مستشفيات متنقلة ومدارس ودور عبادة وبنية تحتية. تتضمن الخطة أيضا الكلفة التقديرية لذلك والبالغة ثلاثة وخمسين مليار دولار، وتدعو إلى مؤتمر تمويلي في القاهرة الشهر القادم للبدء بجمع الأموال اللازمة.
عدا عن الخطة الفنية المفصلة، تشدد الخطة على أمور أساسية كي تصبح إعادة الإعمار خطوة أولى على طريق مسار سياسي يؤدي إلى إنهاء #الاحتلال_الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية. أهم هذه الأمور إعادة الالتزام بمبادرة السلام العربية التي تدعو إلى سلام شامل بعد انسحاب إسرائيل من كافة الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما تدعو إلى البدء بمسار سياسي فوري لتحقيق ذلك. بدون ذلك، من الصعب تخيل من من المجتمع الدولي سيكون راغبا في تقديم مساعدات لإعادة الإعمار ليرى إسرائيل تدمرها في المستقبل كما فعلت مرارا عديدة في الماضي.
المطلوب اليوم حشد أكبر قدر من الدعم الدولي للخطة، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين واليابان، ومحاولة إقناع الإدارة بتبنيها، ثم الضغط على إسرائيل لقبولهاتؤكد الخطة أيضا على وحدة غزة مع الضفة الغربية، خاصة في ضوء محاولات إسرائيل المتكررة لفصل القطاع عن غزة تمهيدا لضم الضفة الغربية.
تقترح الخطة إدارة انتقالية للقطاع تتكون من أشخاص تكنوقراط مستقلين تحت إشراف السلطة الفلسطينية وذلك بعد الاتفاق الذي تم مع حماس لعدم الاشتراك في إدارة القطاع للرد على الحجة الإسرائيلية والأمريكية التي ترفض بالمطلق مثل هذا الإشراك.
كما تدرك الخطة، ولو بشكل غير مباشر، أن السلطة الفلسطينية لا تتمتع بتأييد كبير لدى الفلسطينيين، وتبعا لذلك، وفي خطوة غير مسبوقة، سلطت القمة الضوء على حاجة السلطة لإصلاحات داخلية تتضمن انتخابات رئاسية وتشريعية في غضون سنة. وقد أوضحت الخطة، وذلك أيضا ردا على المطلب الأمريكي والإسرائيلي بنزع أسلحة حماس بأن ذلك يمكن أن يتحقق فقط إن تم الاتفاق على مسار واقعي لإنهاء الاحتلال.
إن أية مقارنة موضوعية لكل من المقترح الأمريكي والخطة العربية تظهر أن الأخيرة أكثر واقعية بمراحل من مقترح ترامب. وبالرغم من ذلك، فإن فرص تنفيذها تصطدم بعقبات عدة، أولها أن إسرائيل ليست معنية بإعادة إعمار غزة بغض النظر عن أية خطط تقدم لا تتضمن تهجير الفلسطينيين من أرضهم، وهو الهدف الأساسي لإسرائيل. إضافة لذلك، فإن إسرائيل ليست معنية أيضا بالحديث عن أفق سياسي يؤدي إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، لأن عينها على ضم الضفة الغربية لإسرائيل. ومن الملفت للنظر أن كلتا إسرائيل والولايات المتحدة لم تعلقا على الشق المتعلق بالأفق السياسي في الخطة على الإطلاق ما يشير إلى عدم اهتمامهما به بتاتا.
وبينما أبدى الجانب الأمريكي بعض المرونة بالنسبة للخطة في تصريحات متناقضة، ليس من الواضح إن كان الجانب العربي سينجح في إقناع الولايات المتحدة بتبني الخطة وإن ببعض التعديلات. إن فرص تحقيق ذلك وخاصة مع التعنت الإسرائيلي تبدو ضعيفة.
من المهم الإدراك أن البديل عن الخطة العربية في حال رفضها ليس المقترح الأمريكي اللاواقعي والمفتقر إلى أية آليات جادة لتحقيقه. بديل الخطة العربية هو استمرار الحرب والدمار وقتل الأبرياء المدنيين. لذا، فالمطلوب اليوم حشد أكبر قدر من الدعم الدولي للخطة، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين واليابان، ومحاولة إقناع الإدارة بتبنيها، ثم الضغط على إسرائيل لقبولها. أدرك مدى صعوبة ذلك، لكن يبدو أنه الخيار الوحيد على الساحة اليوم. أما خيار التهجير فالأغلب أنه لن يمر في ضوء الصمود الفلسطيني والرفض العربي.
المرحلة القادمة صعبة للغاية، وستتطلب تنسيقا عربيا عالي المستوى، بل موقفا عربيا موحدا يستطيع الصمود أمام نوايا إسرائيل التوسعية وأفكار الإدارة الأمريكية المغالية في تشددها وعدم واقعيتها والتي تعطي إسرائيل الضوء الأخضر للتوسع في عدوانها والاستمرار في فرض حقائق جديدة على الأرض.