لجريدة عمان:
2025-01-31@18:52:20 GMT

التوتر في الظواهر.. كيف نحمي التماسك الاجتماعي؟

تاريخ النشر: 2nd, November 2024 GMT

تعيش المجتمعات المتنوعة ثقافـيا تحديها الخاص، وهي إذ تتماسك فـي بنائها الجمعي تفعل ذلك عبر بناء علاقات ذات طابع وظيفـي تحقق بها وعبر منطقها صورة من تآلف الحضور الاجتماعي المتجسد فـي مظاهر شتى من العقائد الفكرية، والمذاهب الروحية، والأشكال الثقافـية متعددة التنسيج، ومع ذلك فإن التحدي يظل قائما، وهو كيف يمكن الحفاظ على هذه العلاقات مُمْتَنة وذات قيمة معنوية تشد بها أطراف ظاهرتها، والسؤال الأهم فـي ذلك هو: هل تلحق بهذه العلاقات أعراض من فتور مردها توتر فـي الإطار الكلي الناظم لسياق الاجتماعي؟ وليكن هذا السؤال هو محل نقاش هذه المقالة القصيرة.

إن كل رابطة اجتماعية فـي جوهرها تعبير عن تواصل مستمر فـي البنى الأصغر فـي كل تكوين، وما يصنع هذا التواصل هو العلاقات ما فوق البنيوية، فالمجتمعات الحيَّة هي تلك القادرة على الاستثمار المنتج لمختلف بُناها وأُطرها، لأن مصدر قوة كل مجتمع يعود إلى ترسيخ وتمديد فاعلية المكون الأقوى فـيها (=المعايير والقيم الأخلاقية)، فهي ماهيته الثقافـية المُشَكِلة للحضاري فـيه، والمعبرة عن ذاتيته وخصوصيته، وليس تفلح أي طاقة معرفـية ما لم تكن قادرة على التحقق المستمر من عمليات التواصل هذه، والطريقة المثلى لإجراء هذا الاختبار على مدى صلابة الاتصال الفعَّال بين المكونات الاجتماعية المختلفة، هو دراسة بل لنقُل مراقبة التحولات الناشئة جرَّاء التطورات التي تعيشها المجتمعات اليوم، إذ بهذا يمكن للمعنيين الحفاظ على التماسك الاجتماعي، لأنه من الملاحظ أننا فـي منطقتنا العربية لا نولي اهتماما كبيرا للمتغيرات الكامنة فـي جوف كل تحول تمليه قوانين طبيعية مثل: «الأجيال الجديدة، تراجع صور الانتماء، تحدي الآخر، الحريات والفردانية، مساءلة المُسَلمات...إلخ» ونعتقد بأن الكتلة الاجتماعية الصلبة لا تتأثر بما يحدث فـي السياقات الأخرى من الظاهرة، وقد لاحظ كثير من فلاسفة علم الاجتماع الحديث أن أكبر التحديات التي تواجه المجتمعات المعاصرة تتلخص فـي قدرة الفاعلين لمواجهة تحدياتها على التنبؤ وليس الرصد، فالثانية تعبير عن حالة إقرار واستسلام للمتغيرات، أما الأولى فوظيفتها أمضى، كونها تتبع حُر لفهم التبدلات الصامتة فـي البنية الاجتماعية الشاملة، ولذا نقع كثيرا على تخليط بين المشكلة الاجتماعية، وحقائق الواقع الاجتماعي (=الظواهر) فالأولى تنطبق على بعض مظاهر سلوكية تخترق سياج المعايير العامة مثل: «المخدرات والجريمة، الطلاق، الفقر، التفكك الأسري، الهجرة، العنف، التسول والتشرد...إلخ» وهذه محكومة أكثر بنطاق ضيق فـي البنية الشاملة، إذ هي لحظة من لحظاتها، وتحتاج فـي المقام الأول قبل التشريعات، والتي هي بطبيعة الحال موجودة فـي أي بلد، تحتاج إلى تدريب يتلقاه الباحث الاجتماعي لمحاصرة هذا النوع من المشكلات عبر دراسة الفئات الأكثر ارتباطا بها، وهذا يفـيد أن المشكلة الاجتماعية لا يتوفر فـيها ما يتوفر فـي الظاهرة، أي الشمول والانتشار واللازمانية، ورغم تعدد التعريفات لماهية المشكلة الاجتماعية، فإن المدرسة الوظيفـية فـي علم الاجتماع الحديث وهي التي تضع على عاتقها تنظيم المجتمع وضمان تثبيت حالات التوازن فـيه لتحقيق هدفها الرئيسي وهو تجذير الاستقرار الاجتماعي، فإن هذه المدرسة تمدنا بأهم جانب فـي فهم المشكلة الاجتماعية، وهي أن المشكلة الاجتماعية يتعاظم حضورها عندما تكون الظروف الراهنة فـي فضاء المجتمعات (المتعددة منها بالذات) غير قادرة على تلبية المعايير الاجتماعية (الكلية والمُجمع عليها، بل هي هوية سلم قيم المجتمع) بشكل كاف يحفظ لهذه القيم الاستمرار والديمومة التفاعلية فـي الأوساط الاجتماعية كافة، كما أن من مظاهر التحقق من وجود المشكلة الاجتماعية أن يكون هناك إجماع حتى من الفئات الناشطة فـيها أو على الأقل المتورطة فـي ترويجها، أن يكون هناك إجماع على رفضها والتبرؤ منها، فليس هناك مجرم أو مدمن أو أي خارج على القانون بإمكانه الدفاع عن أفعاله فـي الفضاء العام، وإن فعل ذلك فإنه ليس فقط يحكم على نفسه بالإدانة بل إنه يجعل من جريمته أيًا كان نوعها حربًا على المجتمع كله، لأن الجريمة الاجتماعية هي إخلال متعمد بالوثيقة الأخلاقية التي يتواضع عليها الجميع، بل إن حتى المجتمعات المتعددة ثقافـيًا وإثنيًا حيث تتنوع مناظيم القيم فـيها وتكون محكومة فـي كثير من اتجاهاتها بالنسبية الأخلاقية لا تستطيع أن تحافظ على تعايشها السلمي دون أن تتفق على منظومة عليا من القيم والمفاهيم المؤسسة لوجودها الاجتماعي.

إنه ولمواجهة أي مشكلة اجتماعية، وكم هي كثيرة فـي واقعنا العربي فإن المسؤولية كبيرة على عاتق مؤسسات الدولة، المؤسسات التي يدخل فـي حيز فاعليتها الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي وحماية تماسك الأفراد، وهنا فإن أولى مهام المؤسسات الاجتماعية فـي الدولة أن تهتم بتأسيس مراكز متخصصة يكرس جهد باحثيها لدراسة المشاكل الاجتماعية عبر إحاطة علمية دقيقة تسهم فـي فهم دوافع الجماعات أو التكوينات التي يتفشى فـيها الخروج عن السياق الجمعي، وأن تكون هناك دوريات متخصصة فـي توعية المجتمع بالخسائر الفادحة نتيجة هذا التشظي بين الفئوي والجمعي، وإن كنا نرى جهودًا مقدرة فـي هذا الاتجاه لكنها لا تزال تحتاج إلى خيال بحثي أكثر سعة مما عليه، كما أنه ينبغي للباحث الاجتماعي أو ما نطلق عليه فـي مجالنا العربي «الأخصائي الاجتماعي» رغم عدم دقة الوصف، ينبغي عليه وهو المعني بدراسة أوضاع الجريمة بأشكالها كافة أن يعي كيف أن المشكلات الاجتماعية تحتاج إلى تعريفها باستمرار كونها خاضعة لأشراط الزمان والمكان والسياق الذي تحدث فـيه، وأن يعمل على إخضاعها لمعايير الموضوعية العلمية. إنه الفحص المستمر لأشكال التوتر فـي الظاهرة الاجتماعية حماية لبقية عناصرها، كما أنه ومن الضروري أن يُنظر فـي سبيل تقييم المشكلة الاجتماعية إلى الفجوة بين المعايير العامة والظروف الفعلية لحدوث هذا النوع من الاختراق لسياج التماسك فـي الحياة الاجتماعية، ولذا فإن المشكلات تشكل بطبيعتها مواقف اجتماعية؛ فهي تنشأ من توتر فـي السياق الجمعي، وانتشارها يمثل تهديدًا للسلام الاجتماعي، ومن واجب العمل الاستباقي لمحاصرة أي إخلال لكن ليس عبر القانون فقط، فالقانون لا يحد من الجريمة إلا بمقدار تحييد الجُرم بقوة العقاب، بل يبدأ الحل بجعل القانون سُدة مراحل المواجهة بين القيم والانحراف.

إن المهمة الأم تتلخص فـي تجهيز الباحثين الاجتماعيين بقدرات ذكية وفعّالة وناجعة لفهم التحولات وهدم أساسها المادي عبر الدراسة والسبر والكشف المبكر، وهنا فقط ستصبح بقية أدوات الضبط الاجتماعي ذات فاعلية كبرى، وسيصبح المجتمع هو المدافع الأول والأقوى عن قيمه الكلية التي تحفظ تماسكه وتوازنه وتحقق رفاهه المادي.

غسان علي عثمان كاتب سوداني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: المشکلة الاجتماعیة

إقرأ أيضاً:

هل إنسانيتنا هي المشكلة؟.. المفكر اللبناني علي حرب ضيف معرض الكتاب

استضافت "القاعة الرئيسية"؛ بمعرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته السادسة والخمسين؛ لقاء مع المفكر اللبناني "علي حرب" تحت عنوان "هل إنسانيتنا هي المشكلة"؛ وأدار اللقاء الكاتب محمد شعير؛ رئيس تحرير عالم الكتاب سابقا؛ ونائب رئيس تحرير جريدة أخبار الأدب.  

في البداية أعرب الكاتب محمد شعير؛ عن سعادته بمشاركة المفكر علي حرب؛ الفيلسوف والباحث المتميز؛ الذي على مدى نصف قرن طرح أسئلة إشكالية؛ ويحاول أن يفكك آليات التفكير؛ ومشروعات الحداثة والخطابات الأصولية؛ وتابع شعير: " إن -علي حرب- صاحب حوالي 30 كتابا متنوعًا منها كتاب -إنسانيتنا على المحك-، ويصدر له قريبًا كتاب -كلمات صنعت خراب لبنان-، وحرب يتطرق كثيرًا إلى الأزمة العالمية؛ ويرى أن العالم كله يعيش في أزمة؛ وليس المنطقة العربية فقط؛ والعالم توقف عن إنتاج الأفكار الكبرى، وكتب علي حرب موجهة إلى الإنسانية؛ واليوم يطرح علينا سؤالا جدليًا هو: هل إنسانيتنا هي الأزمة؟". 

من جانبه أعرب المفكر "علي حرب"؛ عن سعادته بمجيئه إلى القاهرة بعد غياب 6 سنوات، وتقدم بالشكر؛ إلى الدكتور أحمد بهي الدين العساسي؛ على دعوته؛ وإتاحة الفرصة له لكي يأتي ويشارك في إحدى فعاليات معرض الكتاب.  

وتابع علي حرب: "إن العالم في اللحظة الراهنة لم يعد على ما كان عليه؛ لا في الأفكار؛ ولا الوسائل؛ ولا الأدوات؛ وحتى الزمان تغير؛ وأصبحنا أمام عالم متسارع فائق في أدواته؛ فائض في معلوماته ومحتوياته؛ وهو متقلب في أحواله ؛ وملتبس في علاقاته؛ ومفخخ في محركاته، ولذلك العالم يزداد سوءًا في أزماته؛ وهذا ما تشهد به الأزمات العاصفة على صعيد الحروب التي كنا نظنها انتهت؛ فنرى البشرية تشهد حروبا فتاكة في أوكرانيا؛ والشرق الأوسط".  

وتابع: "إن أسباب أزمات عالمنا أيضا التشريح القومي؛ والإمبريالي؛ حيث نرى دولًا تريد أن تضم أوكرانيا؛ وأمريكا تريد ضم كندا؛ مع أن كندا دولة كبيرة، وكذلك من مشكلات عالمنا تفاقم أعمال التحرش والاغتصاب خاصة في أوروبا؛ والولايات المتحدة؛ خاصة في قطاعات الرياضة"؛ وشدد على أن الثورات التكنولوجية وما تطرحه من أسئلة وإشكالات؛ من أهم مشكلات عالمنا، فقد أصبحت الأدوات التكنولوجية تتحدى العقل البشري؛ وتتحدى الإنسان ككائن عاقل ومفكر، كذلك من مشكلات عالمنا انهيار وتراجع حقوق الإنسان.  

وفسر المفكر علي حرب؛ الأزمات التي نعيشها بأن إنسانيتنا هي مصدر ما نعانيه؛ فالإنسان أكثر الناس جهلًا بإنسانيته؛ فإنسانيتنا بعكس ما نهوى ونريد أن نصنعها؛ ونحن بعكس ما نفكر؛ وإذا أردنا أن نعالج المشكلة على المستوى الحضاري؛ يكون ذلك من خلال أفكارنا، وأنا لست مع المعالجات الأحادية أنا مع المعالجات المتنوعة؛ فكل واحد يدخل إلى المشكلة من خلال اختصاصه وخبراته"؛ وشدد علي حرب؛ على أن من يدعي القول بالحقيقة هو إنسان يجهل الواقع؛ لأن ما نقوله نحن على أنه وقائع إنما هو تفسير الحقيقة؛ وليس الحقيقة ذاتها، لذلك لا يستطيع الإنسان التحكم في مجريات الأمور، والحل هو خلق وقائع جديدة، ويشترك الناس جميعا في مسألة البناء والوجود".  

وحول قراءة النصوص وتأويلها؛ أكد أن القراءة الخلاقة الخصبة هي التي تقرأ ما لم يكن موجودًا من قبل؛ وتأتي بجديد، لأن النص ينفتح على قراءات كثيرة وينفتح على احتمالات كثيرة؛ وتطرق إلى فكرة الحرية؛ موضحًا أننا تعاملنا مع الحرية على أنها ضد النظام والسلطة؛ وهذا الموقف ارتد على المثقفين؛ لأن المثقف استبد بفكرته؛ والسلطة أيضا ازدادت استبدادًا، والصواب أن الحرية بمفهومها الإيجابي تستلزم إنتاج أفكار؛ وليس فقط النضال ضد السلطات.

مقالات مشابهة

  • ليبيا – باشاآغا: تصاعد السلوكيات المنحرفة يهدد النسيج الاجتماعي ويتطلب حلولًا جذرية
  • “هل إنسانيتنا هي المشكلة؟”.. نقاش مع المفكر علي حرب في معرض الكتاب
  • هاني رمزي يشهد احتفالية المتحف الجوي بمناسبة عيد الشرطة الـ 73 تحت عنوان معاً نحمي الوطن
  • هل إنسانيتنا هي المشكلة؟.. المفكر اللبناني علي حرب ضيف معرض الكتاب
  • الهاشمي: نواصل مبادرات تعزيز التماسك الاجتماعي لتحقيق «رؤية القيادة»
  • انطلاق المؤتمر الإقليمي للرعاية البديلة ودور التنمية المستدامة.. «الحماية الاجتماعية للأطفال والشباب والتمكين الاجتماعي والاقتصادي والاستدامة وبناء مؤسسات معاصرة» أبرز المحاور
  • المشكلة والحل..!
  • كيف نحمي كبار السن من أمراض الشتاء؟
  • السيدة الأولى لكينيا تزور وزارة التضامن الاجتماعي بالعاصمة الإدارية وتطلع على برامج الحماية الاجتماعية
  • أمير الجوف يستقبل وكيل وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية للضمان الاجتماعي والتمكين المكلَّف