لجريدة عمان:
2025-01-09@09:23:13 GMT

انتحار الشاعر

تاريخ النشر: 2nd, November 2024 GMT

في السادس من يونيو من عام 1982 كانت الدبابات الإسرائيلية قد بدأت اجتياحها البري للأراضي اللبنانية في عملية أطلقت عليها عصابة مناحيم بيجن اسم «سلامة الجليل». استباح الطيران المعادي في جولاته الأولى مكاتب القيادة التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت وقواعد فدائييها المتمترسين مع راجمات الكاتيوشا في تضاريس الجنوب.

برا وبحرا وجوا، كان البلد الصغير يهوي ساعة بعد ساعة في جحيم القصف الإسرائيلي العنيف أمام صمت العالم وعجز العرب. ومع الانهيار السريع للخطوط الدفاعية الفلسطينية في القرى الجنوبية، كانت قوات العدو تتقدم نحو مشارف بيروت التي باتت تحت تهديد «الزمن الإسرائيلي» القادم على ظهور الدبابات. في ذلك اليوم العربي المرير، والمصادِف -صدفةً!- لذكرى هزيمة مروعة قريبة، هي هزيمة العرب بقيادة جمال عبدالناصر عام 1967، أطلق الشاعر اللبناني خليل حاوي «رصاصة الرحمة» على صدغه من بندقية صيد فرنسية الصنع، ومات على شرفته:

«مُبحرٌ ماتت بعينيه الطريقْ

مات ذاك الضوء في عينيه ماتْ

لا البطولاتُ تنجِّيه، ولا ذلُّ الصلاةْ

(...)

آه كم أُحرقتُ في الطين المُحمى

آه كم متُّ مع الطين المواتْ».

هكذا نقرأ في قصيدته الأولى «البحار والدرويش» من ديوانه الأول «نهر الرماد» المنشور عام 1957، الذي كتبه بين لبنان وسنواته الثلاث في إنجلترا، بينما كان يعِد أطروحته للدكتوراة في جامعة كامبردج.

لكننا قبل انتحار خليل حاوي، في ذلك التوقيت وبتلك الطريقة، كنا نظن بأن الشعراء لا ينتحرون في العادة إلا لأسباب عاطفية شخصية فقط؛ فسيرُهم حافلة بالانتحارات المدفوعة إما بنِكل الحب في إحدى قصصه الفاشلة، أو في ضباب أزمة روحية وجودية تُلبِّد معالم الحياة في عيونهم بشقاء الشك وانعدام اليقين، أو نتيجة لمضاعفات الكآبة المزمنة التي لا تفسير لها، أو ربما كان انتحارهم حدثا «فنيا» خالصا بعد محاولات بائسة في كتابة القصيدة المنشودة، مع ندرة هذه الفئة من الشعراء التي تؤمن بالشعر إلى هذا الحد الذي يستحق المفاضلة بين الموت والحياة فيفضي إلى الانتحار تحررا من العجز الشعري وكأن الشعراء الذين يموتون من أجل الشعر قد ماتوا حقا!

غير أن انتحار الشاعر هذه المرة كان فعلا سياسيا صارخا، حين فجّرت تلك الطلقة رأسه على وقع أنباء الانهيار الميداني أمام أرتال الغزاة. فالشاعر المرهف الغاضب، ابن الحزب السوري القومي الاجتماعي وتلميذ أنطون سعادة، ما كان ليحتمل بعد خمسة عشر عاما من «النكسة» شعورا مضاعفا بالهزيمة في حياته القصيرة، دون أن يخلو هذا الانتحار السياسي بالضرورة من احتمال آخر لأي من الدوافع الشخصية المذكورة.

الجدير بالانتباه في مسيرة حاوي، شخصا ونصا، يتعلق بالنظر إلى آثار الهزيمة العسكرية والسياسية كفواعل للكتابة الشعرية لدى جيل أو جيلين على الأقل من الشعراء العرب في القرن الماضي؛ فهزائمُنا الكبرى والمتلاحقة لم تتكفل بإعادة رسم خرائط «الشرق الجديد» بعد كل حرب فحسب؛ وإنما بكتابة شعرنا أيضا، شعرنا العربي المحقّب والمكتوب بين ارتدادات الحروب وسقوط العواصم. صحيح أن هزائمنا التي نضحت من مسام شِعر تلك المرحلة مثَّلت ضرورة تاريخية للانقلاب على الثوابت والثورة على التقاليد، لكنها ساهمت في المرحلة نفسها بخلق حداثة مشوهة، مرتبكة، ذات نزعة سياسية تطغى على نزعتها الفنية. فقصيدة حاوي، مثلا، التي بشَّرت حركة الشعر الحر بشاعر يواكب السيّاب ما لبثت حتى رست في القالب الشكلي المعتمد لحداثة الخمسينيات دون أن تطرق مسالك في حداثة الرؤية والمضمون أكثر من بعث الأساطير السورية؛ إلى الحد الذي يجعل الناقد السوري صبحي حديدي في مقالته «خليل حاوي وانكسار الحداثة» يرجِّح كلاسيكية بدوي الجبل على قصيدة حاوي الحديثة إيقاعيا؛ إذ تبدو قصيدة الأول أكثر جرأة «في التقاط حسّ الحديث» على حد تعبير الناقد.

يبقى أن القصيدة الأسطورية قد أغرت شاعرها بنهاية أسطورية مماثلة، ربما حين عجزت القصيدة نفسها عن قول أكثر مما قالت. ولكن ليس أي شاعر من يموت بتلك الطريقة، ليس أي شاعر من يذهب للحتف بكامل إرادته حينما تفشل أدواته في ردع آلة الحرب المتقدمة: «الشاعر افتضحتْ قصيدته تماما» كما رثاه محمود درويش، ولذلك مات انتحر خليل حاوي لأنه لم يكن مستعدا ليعيش في بيروت التي سيسهر الضباط الإسرائيليون في ملاهيها الليلية ويأكلون في مطاعمها أمام الناس ببزاتهم العسكرية، ولأنه لم يكن مستعدا ليشهد اليوم الذي قالوا فيه إن لبنان قد دخل في الزمن الإسرائيلي منذ صورة شارون المهينة في قصر «بعبدا» رافعا قدمه على الطاولة، قبل أن تطرده وزمرتَه إلى ما وراء الحدود ثلةٌ قليلة من الرجال المؤمنين بعد أعوام ثقيلة على الكرامة منذ ذلك العام، عام 1982.

سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

غداً.. انطلاق المرحلة الثانية من "أمير الشعراء"

يواصل برنامج أمير الشعراء موسمه الحادي عشر، حيث تنطلق، غداً الخميس، المرحلة الثانية من البرنامج، الذي تنتجه هيئة أبوظبي للتراث، في إطار إستراتيجيتها الهادفة إلى رعاية وتعزيز وتوثيق الشعر بأنواعه، والاهتمام به، والحفاظ عليه، والترويج له عبر مختلف الوسائل المتاحة.

وسيلقي الشعراء المشاركون قصائدهم أمام لجنة التحكيم المكونة من رئيس مركز أبوظبي للغة العربية الدكتور علي بن تميم، والدكتور وهب رومية، والدكتور محمد حجو، أثناء الحلقة السادسة المباشرة من برنامج أمير الشعراء، والتي تبث في التاسعة مساءً من مسرح شاطئ الراحة بأبوظبي، وهي الأولى في المرحلة الثانية، ويشارك فيها كل من الشعراء جبريل آدم جبريل من تشاد، وحسين علي آل عمار من السعودية، ويزن عيسى من سوريا، والمختار عبدالله صلاحي من موريتانيا، وعلا خضارو من لبنان.
وسيتم الإعلان عن المتأهلين إلى المرحلة الثانية، بحسب نتيجة تصويت الجمهور من الحلقة الماضية، ومن يكون صاحب الحظ الشاعر سرى علوش من مصر، أم فارس صالح من فلسطين.
واختتمت الخميس الماضي المرحلة الأولى  وأسفرت عن تأهل 14 متسابقاً من 12 دولة، منهم 11 شاعراً و3 شاعرات، في انتظار نتيجة التصويت لمعرفة آخر المتأهلين.
والشعراء المتأهلون إلى المرحلة الثانية هم جبريل آدم جبريل من تشاد، وحسين علي آل عمار من السعودية، ويزن عيسى من سوريا، والمختار عبدالله صلاحي من موريتانيا، وعلا خضارو من لبنان، وعبدالرحمن الحميري من الإمارات، ونجوى عبيدات من الجزائر، ومحمد زياد شودب من سوريا، وعبدالواحد عمران من اليمن، ومحمد إدريس من العراق، وعثمان الهيشو قرابشي من المغرب، وعبدالسلام سعيد أبوحجر من ليبيا، وعماد أحمد أبو أحمد من ألمانيا، وأسماء الحمادي من الإمارات.

مقالات مشابهة

  • عمرو خليل: مصر وقبرص واليونان نموذج للتعاون والشراكة
  • أربيل..‏ انتحار فتاة عشرينية حرقاً
  • إفطار على شرف «الشعر العماني»
  • غداً.. انطلاق المرحلة الثانية من "أمير الشعراء"
  • حادثة مأساوية.. انتحار حبيبين قفزاً من الطابق الـ13 بتركيا
  • سلطان: نكرّم من يكتبون الشعر الهادف والبعيد عن الأغراض الشخصية
  • ندوة الثقافة والعلوم تكرم الشاعر محمد بن مسعود
  • حاكم الشارقة يكرّم الشعراء الفائزين بجائزة القوافي 2024
  • حاكم الشارقة يكرم الشعراء الفائزين بجائزة القوافي 2024
  • الحقيقة الكاملة وراء انتحار طالبة الزقازيق.. الأزهر يكشف