لنخرج من عقد السخط إلى عقد البناء الفكري
تاريخ النشر: 2nd, November 2024 GMT
شكلت الخطابات الفكرية والفلسفـية عبر القرون الماضية أرضية صلبة تأسست عليها حركات اجتماعية وسياسية واقتصادية وساهمت فـي بناء أنظمة قوية، وقيم أخلاقية ما زالت إلى اليوم، رغم تآكل بعضها نتيجة التحولات الجديدة، تحكم العلاقات الإنسانية. كانت تحركات المجتمعات فـي الشرق وفـي الغرب محكومة بأطروحات فكرية وفلسفـية تؤطر مساراتها وترسم نظرياتها السياسية والاقتصادية والأخلاقية.
نستطيع أن نتذكر الآن الدور الكبير الذي شكلته أفكار أمثال: جان بول سارتر وكارل ماركس وجان جاك روسو ومحمد عبده وطه حسين ونور الدين السالمي مع اختلاف المرجعيات الأيديولوجية لكل مسار. كان ثمة مسار فكري واضح المعالم حاول أن يؤسس لمرحلة ويبشر بها فـي مساحة زمنية وإطار جغرافـي.. وكانت تلك الأفكار حافزا لإحداث تغيرات جذرية فـي المجتمعات التي ظهرت فـيها أو تلك التي تأثرت بها.
لكن هذا النمط تم تفكيكه مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي مع بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ويكاد يكون غائبا تماما فـي العالم العربي الذي لم يعد يتعاطى بشكل حقيقي، فـي الغالب، مع المصادر الفكرية مثل الكتب والمجلات العميقة التي لم يبق منها الكثير، كل ذلك حصل لصالح المحتوى الرقمي السريع الذي يُفقد العمق المرجعي ويتبنّى تبسيط المقولات الفكرية والفلسفـية السابقة ويخرجها من سياقها الأصلي ويتسبب فـي سوء فهم عميق لمفاهيمها.. وهذا بالضبط ما نشاهده الآن فـي وسائل التواصل الاجتماعي.
يعيش العالم أجمع الآن أمام لحظة فارقة فـي تاريخه، تتشكل فـيها منظومة قيمية وأخلاقية جديدة بعيدا عن أي مرجعية ثقافـية أو فكرية أو فلسفـية يمكن أن تكون منطلقا لهذا التحول ودليلا له، وحدها وسائل التواصل الاجتماعي، بكل ما فـيها وما يحيط بها، هي التي تشكل المشهد الجديد وتوجهه، ومع الأسف، تُعيد عَبره تشكيل منظومة القيم والأخلاق والمبادئ.. يحدث ذلك فـي ظل غياب الخطاب الثقافـي العميق والناقد.
كان عقد التسعينيات آخر العقود التي بُنيت على مرجعيات فكرية، مهما كان موقف الناس منها، مثل نهاية التاريخ، ونهاية الحرب الباردة، وصراع الثقافات والعولمة وما بعد الحداثة، وما بعد الكولونيالية، والديمقراطية، والتنمية والاستدامة.. كان الناس يتعاطون مع هذه النظريات فهما لها وتطبيقا أو تخويفا منها وتحذيرا كما كان الحال بالنسبة للعولمة التي كانت حديث الجميع فـي المنتديات الثقافـية وفـي المقالات الصحفـية وحتى فـي المدرسة رغم أن الطلاب، وأنا أحدهم، لم نكن نعي ماهية العولمة بشكل دقيق! وربما استطاعت تلك النظريات وما تطرحه من أفكار ومفاهيم أن تساهم فـي إحداث تحولات اجتماعية وسياسية على اتجاهات مختلفة.
اختلف الحال فـي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين الذي بدأ بأحداث الحادي عشر من سبتمبر التي أعادت بناء الكثير من المفاهيم فـي العالم وأثّرت جذريا في العالم العربي.
يمكن أن يوصف عقد التسعينيات فـي العالم العربي بأنه عقد «السخط» بامتياز؛ فقد دخل العالم الألفـية الجديدة بقوة التكنولوجيا وثورة المعلومات فـيما دخلها العالم العربي على وقع الغزو الأمريكي على العراق الذي دمّر واحدة من أكثر المدن العربية التي كانت تحمل رمزية التقدم العلمي والفكري عبر التاريخ. ساهم الغزو الأمريكي على العراق فـي تكريس خطاب السخط فـي العالم العربي والشعور بحالة أزلية من الانكسار ومن الإرهاق فـي السعي وراء أحلام عربية لا تتحقق. وعندما جاءت أحداث 2011 فـي العالم العربي كان الجميع يشعر أن العالم العربي قد وصل، فعلا، إلى مرحلة كاملة من الانسداد الحضاري. رأى الكثيرون فـي تلك الأحداث محاولة للقفز فوق ذلك الانسداد الحضاري. لكن الأمر لم يكن كذلك، وبعيدا عن نظرية المؤامرة، التي أؤمن بها شخصيا فـي أحداث ما عُرِف بـ«الربيع العربي» إلا أن العالم العربي لم يكن فـي ذلك الوقت يتحرك وفق خطاب فكري وفلسفـي، ولم تكن تلك الأحداث على فرضية عدم استغلالها من قبل الغرب، نتيجة لحراك ثقافـي وفكري؛ ولذلك سادت العالم العربي أكبر حالة فوضى فـي تاريخه وتدمرت دول كانت فـي يوم من الأيام مصدر قوة واستقرار للعالم العربي. وحدثت صراعات كبرى فـي العالم العربي بين القوى الساخطة وبين الأنظمة.. حدث كل ذلك فـي غياب ثقافـي وفكري وفلسفـي عربي مؤسس، وحضور قوي مؤثر لوسائل التواصل الاجتماعي التي استأثرت بكل المنابر التي أعيد عبرها بناء قيم ثقافـية جديدة فـي المجتمعات العربية، وتم من خلالها الضغط على الأنظمة السياسية من أجل إحداث قيم ثقافـية جديدة لا تنتمي، بالضرورة، إلى القيم الثقافـية العربية والإسلامية.
إن نتائج ذلك التحول وذلك الغياب الغريب للخطاب الثقافـي والفكري العربي كثيرة جدا سواء على المستويات الوطنية الداخلية فـي كل دولة عربية أم على المستوى القومي العربي والذي نستطيع قراءته فـي موقف الشعوب العربية من الحرب الهمجية الإسرائيلية على قطاع غزة وعلى لبنان وسوريا.
إننا فـي أمسّ الحاجة اليوم فـي العالم العربي وفـي الدول القُطرية أن نخرج من عقد السخط الذي عشناه طوال العقدين الماضيين إلى عقد العمل من أجل غد مختلف ومبني على رؤية ثقافـية وفكرية وخطاب فلسفـي مؤسس للتغيير والتحول فـي المجتمعات، ونحتاج إلى خطاب ثقافـي مبني على وعي يستطيع تفنيد القيم التي تشكلها وسائل التواصل الاجتماعي فـي مجتمعاتنا والتي تسيطر على وعي الكثيرين، نحتاج بشكل واضح إلى من يُنهي هذا الانقلاب والانفلات الأخلاقي والفكري فـي المجتمعات العربية. لم يعد هناك أي مبرر لغياب النخب الثقافـية عن المشهد العربي الذي يتداعى فـي الكثير من الأماكن ولتبنّي المثقف العربي لدوره التاريخي فـي بناء الوعي الرصين فـي مجتمعه.
وحتى لا تكون هذه الدعوة عامة بعيدة عن السياق العماني فإنني أدعو بشكل خاص المثقف العماني والمفكّر العماني وكل النخب العمانية للقيام بهذا الدور والمساهمة فـي بناء وتكريس خطابات فكرية عميقة تساهم فـي مسيرة تحولات المجتمع العماني بعيدا عن محتوى وسائل التواصل الاجتماعي التي تكرس، فـي الغالب، لبقاء عقد السخط من كل شيء والتقليل من أي إنجاز تقوم به الدولة نتيجة عدم القدرة على وضعه فـي سياقه الصحيح من مسار المجتمع.
عاصم الشيدي كاتب ورئيس تحرير جريدة «عمان»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: وسائل التواصل الاجتماعی فـی العالم العربی فـی المجتمعات
إقرأ أيضاً:
هذا الإذلال الذي طال عمنا (المسن) في شرق النيل
هذا الإذلال الذي طال عمنا (المسن) في شرق النيل سنظل ننتظر رد الاعتبار له علي طريقة ( الراحل ) الفاتح جبرا وكل يوم يمر من غير أن ينال المجرم ( شارون ) جزاءه لن نسكت وسنذكر أنفسنا بأنه قد مضي كم يوم والمجرم مطلق السراح !!..هل هذا معقول ، هل نحن في يقظة ام منام بل هل نحن اموات ام احياء وهذه الحرب منذ أن انطلقت من عقالها الشيطاني ظلت تكاد لا تهدأ مثل طائر الشفق الاحمر والشيء المحير أن أي طرف فيها يدعي الغلبة ويدعي التدين والتمسك باهداب الفضيلة والغريبة أن الطرفين المتحاربين أحدهما كان الراعي الرسمي للطرف الآخر وقد أحسن رعايته ووفر له كل أسباب الراحة وجعله يتقلب في نعيم الدنيا موفرا له اجنادا مجندة وشركات وتجارة وصناعة وبنوك ومصارف وصرافات واذونات بالاستيراد بما في ذلك استيراد السلاح من روسيا والصين ومن الجن الاحمر وجلب المرتزقة من دول الساحل والصحراء الذين هبطوا علي بلادنا الحبيبة وعلي مقرن النيلين وارض الجزيرة وسهول كردفان ودارفور كالجراد ولم يتركوا صفقة شجرة إلا والتهموها بنهم الطواحين داخل كروشهم التي تهضم ( الزلط ) والصخر والحديد الفولاذ !!..
وتتدفق علي الطرفين العدة والعتاد من الشرق والغرب وتتعثر الإغاثة وتزداد معاناة المواطنين التي قل أن يوجد لها مثيلا في عالم اليوم وقد وصلت اطوارا تحولت فيها أرضنا الطيبة الي غابة تمرح وتسرح فيها الذئاب الجائعة والافاعي والتماسيح !!..
نعود لما قلناه وسنظل نكرره أن الشعب حان ميعاد أن يستيقظ وكفاه هذا النوم الثقيل ولاعذر لأي فرد بعد اليوم أن يترك مصير بلده يتحكم فيه شخصان أو حفنة اشخاص بعدد أصابع كفة اليد ... كلنا شعارنا في هذه اللحظة المفصلية وقد بدأت الدولة تنزلق من بين فروج أصابعنا أن نهتف مليء حناجرنا : لا للحرب ... لا لاذلال كبارنا وانتهاك حرماتنا ... كفي هذا القتل والسحل والاستهتار والعبث والجنون ... كفي التعويل علي الخارج وعلي الكبار والأصدقاء والجيران ... كلهم ليس لهم الينا إلا طبطبة هوائية مثل مطبات الفضاء لاتزيد طائراتنا إلا مزيدا من الجهجهة والخسران والضياع وربما يهتف العالم من وراء الأفق : ( يالهم من مغفلين يشعلون النيران في أنفسهم وممتلكاتهم وفي كل شيء ... ماذا نصنع لهم وقد استمراوا اللعبة وكل طرف من المتحاربين يحشد فديوهات ومحللين واستراتيجيين ورأينا قناة الجزيرة مباشر الرصينة المهنية المتخصصة العالمية تعرض علينا يوميا وعلي مدار ساعة كاملة نماذج من البشر في شكل فريقين متشاكسين كل واحد منها يحتفظ لنفسه بالحكمة والموضوعية والصدقية ويرمي الآخر بكل ماهو قبيح وسافل واجرامي والمذيع المسكين يتوسطهما وقد انتقلت منهما إليه عدوي البلادة والضحالة والاسفاف والافلاس والتاتاة والفافاة وقد أعادوا الينا العهد الذهبي لعالم زمانه واخطر خبراء العصر الحجري المحجاج كثير اللجاج والمقاطعة مع الكلمات المتقاطعة اسطورة الاساطير المستر ( هبنقة ) الشهير.
كفي ياجزيرة مباشر ومع احترامنا لكم أن هذه الساعة لو قلبتوها اعلانات لدرت عليكم خيرا كثيرا ومالا وفيرا يمكن أن تنفقوه في وجه الخير ... أو لو سمحتم تستضيفوا لنا علي الاقل شخص يمكن أن يرتب جملة مفيدة وبلادنا والحمد لله مليانة بالفصحاء والشعراء والمفكرين والمثقفين والأدباء والتشكيليين ... مالقيتو إلا ناس قريعتي راحت !!.. حتي لو هاجر جميع أهل العلم والخبرة والمعرفة اكيد حتلجوا واحد من اهلنا الهمباتة دفعة الطيب ودضخوية شوفوه بتكلم كيف شعرا ونثرا وغزل عفيف يذوب الصخر وفروسية ومعرفة بفنون القتال وكأنه خريج كلية سانت هيريست :
أوقفوا الحرب ياجنرالات ويالوردات القتل والدمار من أجل المال وعلي الشعب الوقوف ساعة زمان من الصمت نبكي فيها علي موتانا ونتوجع علي وطننا الذي اضعناه بأيدينا وماذا جنينا غير الذلة وقلة القيمة ومافي طرف كسبان لكن الشعب خسران ( خسران مبين ) !!..
حمدالنيل فضل المولي عبد الرحمن قرشي .
معلم مخضرم .
ghamedalneil@gmail.com