ترجمة: بدر بن خميس الظفري -

بعد أن حصل حزب الحلم الجورجي الحاكم الذي يديره رجل الأعمال بيدزينا إيفانشفيلي على الأغلبية البرلمانية في الانتخابات الجورجية التي جرت يوم السبت، كانت موسكو مبتهجة. كتبت مارجريتا سيمونيان، رئيسة هيئة الإذاعة والتلفزيون الروسية التي تسيطر عليها الدولة، على قناة إكس: «لقد فاز الجورجيون.

يا لها من فرحة!».

وفي هذه الأثناء، أرسل لي صديق حزين رسالة نصية صباح الأحد ليقول إنه يشعر كما لو أنه «استيقظ في روسيا».

لقد كانت مسألة ما إذا كانت جورجيا سوف تستمر في الانجراف نحو فلك روسيا أو تغير مسارها وتحتضن أوروبا معلقة بالانتخابات. ولكن في ظل التقارير التي تحدثت عن مخالفات في التصويت ورفض حزب المعارضة الأكبر، الحركة الوطنية المتحدة، للنتيجة بشكل قاطع، فمن غير المرجح أن يتم حسم هذه المسألة في أي وقت قريب.

كان إيفانشفيلي في السلطة منذ عام 2012، عندما أسس حزب الحلم الجورجي وحقق انتصارا ساحقا على ميخائيل ساكاشفيلي، الرئيس الجورجي السابق الذي وعده بوتين «بالبقاء في السلطة» والذي يقبع الآن في سجن تبليسي. ومنذ ذلك الوقت، عمل إيفانشفيلي بشكل منهجي على تحريك جورجيا نحو علاقة أوثق مع روسيا، سرا وببطء في البداية، ثم علنا وبقوة في السنوات الأخيرة.

ولقد تسبب هذا في الكثير من المماحكات مع المجتمع. فقد سئم الجورجيون من حكومة ساكاشفيلي، التي كانت تتحول إلى حكومة استبدادية، ولكن العديد منهم كانوا عازمون على التحول نحو أوروبا. وعلى مدى قرون من الزمان، عمل كبار الشخصيات الجورجية على تعزيز فكرة أوروبا باعتبارها السبيل لحماية اللغة والهوية الجورجية من القمع من جانب جيرانها، سواء من الفرس والعثمانيين قديما، أو من الروس على مدى القرنين الماضيين. ويدعو الدستور الجورجي الحديث إلى تحالف أوثق مع الغرب، وخاصة الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.

حتى المواطنين الذين كانوا بالفعل محبطين من إيفانشفيلي شعروا بالصدمة عندما اختارت الحكومة الوقوف علنًا إلى جانب موسكو ضد كييف في عام 2022. لقد وقفت أوكرانيا إلى جانب جورجيا في جميع حروبها، بما في ذلك الغزو الروسي الأخير في عام 2008. لقد بدا موقف الحكومة وكأنه خيانة.

في السنوات التالية، أقرت حكومة جورجيا قوانين صعبة على غرار القوانين الروسية، فشنت حملات ضد الناشطين. وبحلول عام 2024، شارك مئات الآلاف في مظاهرات مناهضة للحكومة بشكل منتظم بقيادة الشباب المطالبين بأن تظل جورجيا على مسارها الأوروبي.

لقد كان من المفترض أن تكون الانتخابات هي السبيل الديمقراطي الوحيد لإخراج البلاد من قبضة إيفانشفيلي وروسيا، وربما كانت الانتخابات الأكثر أهمية في تاريخ البلاد منذ استفتاء الاستقلال في عام 1991. وقد أظهرت استطلاعات الرأي، بما في ذلك استطلاعات الرأي الموثوقة تقليديا، أن المعارضة تتقدم بوضوح. وفي يوم التصويت، كانت نسبة المشاركة مرتفعة إلى الحد الذي دفع الناس إلى الانتظار في طوابير لساعات في بعض مراكز الاقتراع للإدلاء بأصواتهم.

ورغم ذلك أعلنت الهيئة الانتخابية المركزية أن حزب العدالة والتنمية هزم المعارضة المؤيدة لأوروبا في البلاد وحصل على فترة ولاية رابعة. إنّ قائمة المخالفات المسجلة طويلة. تقول منظمة الأمن والتعاون في أوروبا إن هناك «ترهيبا وإكراها وضغوطا على الناخبين»، في حين تفصل تقارير أخرى تناقضات مريبة في الأعداد والعنف وتزوير أوراق الاقتراع. وسوف يتم الطعن في النتيجة، رغم أن النضال من أجل العدالة في المحاكم التي يسيطر عليها الأوليجاركي من المرجح أن يكون بلا جدوى.

في الأسابيع القليلة المقبلة، سوف تعمل المعارضة في جورجيا على حشد المؤيدين ومحاولة إثبات أن الانتخابات سُرِقَت. ولكن يتعين عليها أن تواجه حقيقة مفادها أن أداء الحزب الديمقراطي الجورجي كان أفضل من المتوقّع، ويرجع هذا جزئياً على الأقل إلى حملة انتخابية مضادة ركزت على الخوف، فقد خيّر الحزب الحاكم الشعب بين المعارضة وحرب أخرى مع روسيا. وتضمنت حملتهم لوحات إعلانية فيها صورتان متقابلتان: صورة أنقاض المدن الأوكرانية بجانبها المناظر الطبيعية الهادئة في جورجيا. وقد أثبتت حملتهم فعاليتها في بلد لا تزال روسيا تحتل 20% من أراضيه ولا تزال ذكريات غزو عام 2008 حية في الأذهان.

قد تتحدى نتائج الانتخابات المنطق، وتفقد الأمل بالنسبة للعديد من الجورجيين، لكنها تتوافق مع المسار الأوسع للعالم. على مدى العقد الماضي، أدى التفاعل بين التحالفات الأوليغارشية والتضليل وإساءة استخدام التكنولوجيا والعنف الانتقائي إلى تآكل أسس جميع المجتمعات. الخاسرون ليسوا فقط المعارضة الجورجية وأنصارها ولكن كل من يؤمن بقيمة الحرية. الفائزون الحقيقيون ليسوا الساسة الجورجيين، أو حتى الأوليغارشيين الذين يحركون خيوطهم، الفائزون الحقيقيون هم من يضعون المال والسلطة فوق القيم المشتركة.

في حالة جورجيا، يبرز الكرملين باعتباره المستفيد الرئيسي، بعد أن حقق للتو انتصارا في صراعه الأوسع ضد الديمقراطية الليبرالية. وتواجه المعارضة الجورجية فرصاً ضئيلة للنجاح في غياب الدعم المخلص من أوروبا والولايات المتحدة. ولكن في ظل الأزمة المستمرة في الشرق الأوسط، وكثافة الانتخابات الأميركية، والوضع الملح الذي تفرضه الحرب في أوكرانيا، فمن المرجح أن تكافح التطورات في جورجيا لجذب الانتباه العالمي.

إن أي شخص مهتم بمعارضة الاضطرابات العالمية التي تسببها روسيا لابد وأن يتذكر جورجيا. ففي هذا المكان ظهر الشرخ القاتل في الإمبراطورية السوفييتية في التاسع من أبريل 1989، عندما أصدرت موسكو الأمر لقواتها بفتح النار على المحتجين السلميين المؤيدين للاستقلال في تبليسي. إنّ السبب وراء انهيار الإمبراطوريات من أطرافها هو أن المقاومة الحقيقية تأتي دائما من الحدود، لذلك فإن مساعدة جورجيا على استعادة ديمقراطيتها من شأنها أن تبقي الديمقراطيّة على قيد الحياة في أماكن أخرى.

ناتاليا أنتيلافا هي الرئيس التنفيذي ورئيس تحرير موقع codastory.com

عن صحيفة الجارديان البريطانية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی جورجیا

إقرأ أيضاً:

ماذا حققت المقاومة غير الدمار وإزهاق الأرواح؟

7 أكتوبر 2023.. يوم بطوليّ مختلف جذريًّا في مسار المقاومة الفلسطينية على طريق الحرية، لأنه نقلها من ساحة العمليات الدفاعية المحدودة، إلى مباغتة العدو في هجوم غير مسبوق منذ عام 1948، لكسر هيبته العسكرية والاستخباراتية والمساس بعمق أمنه الاجتماعي والسياسي، وإجباره لاحقًا على التفاوض.

بل إنه أحدث الريبة الوجودية الكبرى في أسطورة الكيان الصهيوني ومشروعه الإمبريالي الغربي، ليفتح باب السيناريوهات الأمنية حول مستقبل “إسرائيل” في المنطقة، لأول مرة بشكل جادّ، مقابل استعادة الثقة في الذات الفلسطينية التحرريّة وكسب زمام المبادرة، في وقت اطمأنّ فيه أرباب “إسرائيل” وأذنابُها العرب إلى تصفية القضية المركزية عبر خطة التطبيع و”اتفاقات أبراهام”.

من هذا المنظور الاستراتيجي ينبغي تقييم جدوى “طوفان الأقصى”، أما التكاليف البشرية والمادية فهي ضريبة إجبارية في كل ثورات الاستقلال واستعادة السيادة الوطنية، وتزداد قيمتها وفق طبيعة المشروع الاستعماري والظروف الجيوسياسية المحيطة به والسياقات الدولية من مرحلة إلى أخرى، إذ تشكل القضية الفلسطينية اليوم حالة استثنائية في تاريخ الاحتلال، بالنظر إلى خلفياتها وتشعُّباتها وفارق ميزان القوى العسكرية، لكن الفلسطينيين يظلون متمسكين بالحقّ الخالد في الأرض والمقدسات.

لقد كانت قيادة المقاومة تدرك يقينًا خطورة ما أقدمت عليه يوم السابع أكتوبر، لكنها في الآن نفسه كانت تستشرف مكاسبه الإستراتيجية ولو بعد حين، خاصة وأنّ القرار لم يكن اختياريًّا، في ظل حالة الجمود، بل التحضير النهائي لدخول مرحلة التصفية وبيع ما تبقى من ملفات القضية الفلسطينية في مزاد القوى الإقليمية والعالميّة، بتواطؤ عربي مكشوف.

لذلك يمكن الجزم أنّ يوم 19 يناير 2025، بدء دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، بعد نحو 470 يوم من العدوان الوحشي الصهيوني والغربيّ على غزة، هو محطة أخرى بارزة لانتصارات المقاومة الفلسطينية الأسطوريّة.

قد يتساءل البعض، بحسن نيّة، وآخرون من المخذّلين: كيف يمكن توصيف فقدان قرابة 50 ألف شهيد وإصابة 110 ألف فلسطيني وتدمير 80 بالمائة من عمران غزة بالنصر على الكيان الصهيوني، مقابل هلاك 840 جندي فقط من جيش الاحتلال وتحرير بضعة مئات وحتى الآلاف من الأسرى؟

إنّ هذه المقاربة الرقميّة في قراءة المشهد الفلسطيني خاطئة جملة وتفصيلا، لأنها تتجاوز منطق التحرير والتشبُّث بالكرامة الإنسانية، مثلما تقفز على حالة المقاومة لتضعها في ميزان حرب الدول المتكافئة والجيوش النظامية.

ليكن واضحًا في فكر العقلاء والشرفاء أن النصر في وضع المقاومة هو كبح العدو الصهيوني عن تحقيق أهدافه الإستراتيجية التي تجنَّد وتكبَّد لأجلها الاستنزاف العسكري والاقتصادي والسياسي والأخلاقي، داخليّا وأمام الرأي العام العالمي، لكنه لم يحقق منها شيئا واحدا، وجلس في النهاية صاغرًا لتوقيع اتفاق وقف العدوان والقبول بصفقة ثنائية وفق شروط الطرفين.

ألم يتوعد نظام “نتنْ ياهو” الملعون بتحرير كافة الأسرى عُنوة وإخلاء القطاع من حماس نهائيًّا وتصفية المقاومة بالكامل؟ وكان يريد تهجير الفلسطينيين عن طريق حرب الإبادة الهمجية، بقتل الفلسطيني أينما كان، والاجتياح البرّي الجنوني وتدمير كل شيء تصله قواته في غزة، ولو كان مبنى مدنيّا أو مسجدا أو كنيسة أو مشفى أو مدرسة أو ملجأ أو هيئة إنسانية أو أممية أو مقرًّا صحافيًّا.

لقد اقترف الجيش الإسرائيلي، مسنودا بالآلة الحربية الأمريكية الجبارة، كل ما يمكنه اقترافه من جرائم تفوق طاقة الإنسان وخياله، لكنه خضع في آخر المطاف للتوقيع على اتفاق طرفه الآخر هو حماس نفسها، ولأجل تسليمه الأسرى أنفسهم، بينما ظلت وحدات المقاومة البطولية تفتك بمدرَّعاته وجنوده، موازاة مع إدارتها للعمل الإغاثي الميداني، برغم كل ما لحق بها من خسائر فادحة طالت كل مستوياتها القياديّة والقاعديّة، أمّا الشعب الفلسطيني فقد ظل صامدا تحت القصف، منتقلا بين الشمال والجنوب، متشبِّثًا بالحياة فوق أرضه، في ظروف يندى لها جبين البشرية وكل مؤسسات المجتمع الدولي.

في غضون ذلك، سقطت السردية الصهيونية بمظلومية اليهود عبر التاريخ منذ حادثة “الهولوكوست” المزعومة، ليكتشف العالم مجددا وحشية هذا الجنس البشري غير السويّ، ومدى انتهاكه لكل الشرائع الدولية والقانونية والأخلاقية واستهتاره بالمؤسسات الأممية.

كل ما بنته السرديّة الغربية، طيلة 76 سنة من التضليل، عبر مؤسساتها الدعائية الإعلامية والفنية والأكاديمية عن “دولة إسرائيل” الديمقراطية ونموذج حقوق الإنسان و”الشعب اليهودي” تبخّر بتورّط الكيان في العدوان الأخير للردّ على “طوفان الأقصى”.

لم يسبق للاحتلال الإسرائيلي التعرُّض للضغط القانوني والأخلاقي والملاحقات القضائية والشعبيّة والنخبويّة خارج العالم العربي والإسلامي، مثلما وقع منذ 7 أكتوبر 2023، حتّى تحوَّل إلى كيان منبوذ دوليًّا، تحتجّ الجماهير على ممارساته العدوانية في معاقل إنشائه ودعمه التاريخي، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، خاصة في أوساط الفئات الشبابية والطلابية، في مقابل ما كسبته القضية الفلسطينية من آفاق إنسانية وزخم دولي على كافة المستويات، رفعها إلى صدارة الأحداث الدوليّة بعد ما خطط أعداؤها لوأدها إلى الأبد.

كل ذلك يشكِّل، وفق التقييم الموضوعي، مؤشِّرات نصر ساطع للقضية التحرريّة، لم يكن ليتحقّق لولا عقل المقاومة وفعلها، وإنّ غدا لناظره لقريب.

الشروق الجزائرية

مقالات مشابهة

  • الأمير هاري يعلن انتصارا "هائلا" على مجموعة مردوخ
  • مشروع قانون الحوافز الانتخابية في العراق بين تعزيز المشاركة وتهديد الديمقراطية
  • منتخب الجودو ينتظم في معسكر جورجيا
  • ترامب: الحقبة الذهبية للولايات المتحدة قد بدأت للتو
  • دونالد ترامب: الحقبة الذهبية للولايات المتحدة قد بدأت للتو
  • نائب بالشيوخ: قرار العفو عن 4466 محكوما عليهم يعد انتصارا للإنسانية
  • إعلام إسرائيلي: فشل مدوٍ للجيش وحماس حققت أهدافها
  • للمرة الأولى منذ 2022.. أنفلونزا الطيور تضرب منشأة دواجن في جورجيا
  • ماذا حققت المقاومة غير الدمار وإزهاق الأرواح؟
  • لأول مرة.. أنفلونزا الطيور تضرب منشأة دواجن في جورجيا