«أن تصير حياتي قولا مأثورا»
تاريخ النشر: 2nd, November 2024 GMT
في مقال الأسبوع الماضي تحدثتُ عن «الكليشيهات» التأبينية التي تنهال على الكاتب حين يموت، والمقالات التي تكتب على عجل بعد رحيله مستذكِرةً مناقبَ له وخصالًا حميدة لم يَلتفتْ لها أحد وهو حيّ، وتباري الصحف في تضمين أشهر عناوين كتبه «بنطًا» عريضًا في إعلان خبر الوفاة، هذا علاوة على مُؤَبِّني الــ«سوشل ميديا» الذين يحرصون على وضع صورة تجمعهم بالكاتب الراحل بعد دقائق فقط من رحيله، وختمتُ مقالي بأن ثمة نوعًا آخر من «الكليشيهات» المصاحِبة لوفاة الكاتب أجلتُ الحديث عنه إلى مقال هذا الأسبوع.
هذا النوع هو البحث عن اقتباسات من كتبه العديدة، تكون متوفرة في العادة في «النت» بنقرة زر، وحبذا لو تكون هذه الاقتباسات عن الموت لتكون ملائمة للمناسبة. يحضرني هنا الاقتباس الذي تصدّر وسائل التواصل الاجتماعي بعد وفاة الكاتب المصري أحمد خالد توفيق (توفي في 2 أبريل 2018م): «وداعًا أيها الغريب. كانت إقامتك قصيرة، لكنها كانت رائعة»، وهو مستل من كتابه «أسطورة النبوءة». هناك أيضًا اقتباس تصدّر تويتر وفيسبوك بعد وفاة الكاتب العُماني عبد العزيز الفارسي (توفي في 10 أبريل 2022م)، مستلّ من إحدى قصصه: «سيدي الموت: إن جئتَ على غفلة فمرحبا بك، وإن استأذنتَ بمرض عضال فعلى الرحب والسعة. لن أردّك. لا حُبًّا، ولكن رغبة في معرفة المطلق». أما الشاعر العُماني زاهر الغافري؛ فقد أعلنتْ إذاعة مونت كارلو الدولية خبرَ وفاته بهذا العنوان: «علَه يزداد جمالًا بعد الموت: وفاة الشاعر العُماني زاهر الغافري في السويد»، وهو عنوان شبيه بعنوان صحيفة الشرق الأوسط: «زاهر الغافري.. لعلنا سنزداد جمالا بعد الموت»، وفي العنوانَيْن يُقتَبَسُ أحدُ أشهر مقاطع الغافري الشعرية: «لعلنا سنزداد جمالا بعد الموت».
من هنا أفهم تبرّم الشاعرة المصرية فاطمة قنديل في كتابها «أقفاص فارغة»: «أسوأ ما يمكن أن يحدث لي بعد موتي هو أن يأخذ الآخرون أقوالًا مأثورة مما أكتب الآن. أن تصير حياتي قولًا مأثورًا، هو ما يصيبني بالغثيان، أن تصير درسًا، أو عبرة، هو الجحيم ذاته، أحاول أن أتجنب هذا المصير وأنا أكتب، بلغة عارية تمامًا، لا ترتدي ما يستر عورتها من المجازات، لأن الحياة تصير أكثر شبقًا بعد أن نموت، كذئب مسعور، لا يروي ظمأه، إلا الحكايا».
إذا كانت فاطمة قنديل تصاب بالغثيان من العبارات المقتبسة من داخل كتابها، فماذا كان سيقول الروائي السوري خالد خليفة لو عاد إلى الحياة اليوم وهو يشاهد أنه حتى هذا الشرف؛ شرف أن يُبحَثَ في أعماله عن عبارات جميلة تصلح للاستشهاد بها في تأبينه، لم يحظَ به، واكتفى مؤبِّنوه باستدعاء عنوان روايته الشهيرة «الموت عمل شاق» والتنويع عليه بعبارات مكرورة. هذا ما نُشِرَ بالفعل في اليوم التالي لرحيل خالد خليفة (في 30 سبتمبر 2023م). وهذه عينة من تأبينات أربعة كتّاب سوريين لخليفة في مجلة «العربي القديم»:
- «الموت عمل شاق! فكيف إذا كان موتك ورحيلك عنا يا خالد».
- «رحيلك «عمل شاق» بالنسبة لنا... وداعًا يا نبيل، وداعًا يا كبير».
- «قلتَ: «الموت عمل شاق»، ومارستَه باكرًا. قلتَ: «لم يصلِّ عليهم أحد»، وها سيُصلى عليك». («لم يصلِّ عليهم أحد» هو عنوان رواية أخرى لخالد خليفة).
- «يبدو أن الموت في هذا الزمن هو العمل الوحيد الشريف، لا الشاقّ فقط. تريد الحقيقة يا خالد؟ حسنٌ أنك فعلتها. كبرت بعيني يا رجل».
هذه عينة فقط مما يحدث في وسطنا الثقافي العربي كلّ يوم تقريبا، سيل جارف من العبارات المستهلَكة، والتأبينات المكرورة، والمقالات المتسرّعة، ما يجعل المرء يتعاطف بالفعل مع وصية الأديب السوري الكبير حنا مينا التي كتبها عام 2008م؛ أي قبل موته بعشر سنوات: «عندما ألفظ النفَس الأخير، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألا يُذاع خبر موتي في أية وسيلةٍ إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية»، مضيفًا في موضع آخر من الوصية: «وأشدد: لا حفلة تأبين، فالذي سيقال بعد موتي، سمعتُه في حياتي، وهذه التآبين، وكما جرت العادات، مُنْكَرة، منفِّرة، مسيئة إليَّ، أستغيث بكم جميعًا، أن تريحوا عظامي منها».
لكن عظام حنّا مينا لم ترتح، فلقد أبّنوه هو الآخر، ولا يزالون. لعله ما زال يستغيث بنا من هناك، كما آلاف الكتّاب الذين سبقوه، وكما آلاف أخرى ستلحق به في مقبل الأيام والسنوات.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: عمل شاق
إقرأ أيضاً:
شرح أيقونة قيامة سبت العازر
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
تُظهر أيقونة “سبت لعازر” حدث إقامة يسوع للعازر من الموت، وهي مقسّمة بصريًا إلى مستطيلين رئيسيين، يمين ويسار، يتوسطهما مشهد مركزي غني بالرموز والمعاني اللاهوتية.
المستطيل الأيمن: عالم الموت
يمثّل هذا الجانب عالم الأموات، ويظهر فيه:
القبر الصخري: في داخل فتحة صخرية يقف لعازر ملفوفًا بالأكفان، وقد بدأ يخرج استجابة لأمر يسوع
اليهود المعزّين: مجموعة من اليهود، بينهم فريسيّون يرتدون العمامة التقليدية. أحدهم يسدّ أنفه بسبب رائحة القبر، دلالة على مرور أيام على وفاة لعازر
رمزيه الموقع: عادة ما تُرسم مجموعة اليهود في وسط الأيقونة، لكن في هذه الأيقونة تم وضعهم بجانب القبر، رمزًا لعدم إيمانهم بكلام الحياة الذي أعلنه المسيح.
عمال الدفن: شابّان يساعدان في المشهد، أحدهما يرفع حجر القبر والآخر يهمّ بفك الأكفان، تنفيذًا لأمر يسوع: “حلّوه ودعوه يذهب”.
المستطيل الأيسر: عالم الحياة
يمثّل الجانب الأيسر عالم الحياة والنور، ويضم:
المسيح: يتقدّم المجموعة، ممسكًا في يده اليسرى لفافة (رمز الكلمة أو الناموس)، وباليمنى يبارك ويأمر: “يا لعازر، اخرج”
التلاميذ خلفه: من بينهم بطرس ويوحنا وأندراوس، يظهرون في حالة احترام وتأمل، دون خوف، تعبيرًا عن الإيمان بما يحدث.
اسوار أورشليم: تظهر في الخلفية، مشيرة إلى أن بيت عنيا، موقع الحدث، قريب من المدينة المقدسة
مرتا ومريم: الأختان تجثوان أمام يسوع. مرتا ترفع نظرها برجاء، ومريم تنحني عند قدميه، تلمّح إلى الحادثة التي تلت القيامة، حيث دهنت قدمي يسوع بطيب الناردين.
يهوذا الإسخريوطي: حضور الخيانة
وضعه في الأيقونة: يقف خلف مريم، مشاركًا مجموعة الموت رغم كونه من التلاميذ، دلالة على خيانته اللاحقة.
سلوكه ورمزيته: يشير إلى مرتا معترضًا، ويضع يده على فمه بتحسّر، تلميحًا لاعتراضه على “تبذير” الطيب الذي سكبه على قدمي يسوع، وهو في الحقيقة كان طامعًا لا محبًا للفقراء، إذ كان يسرق من صندوق التبرعات.
معلومة تاريخية: أقدم تصوير للأيقونة
تعود أقدم أيقونة تصوّر حدث إقامة لعازر إلى أوائل القرن الثاني الميلادي، وقد عُثر عليها في سراديب مدينة روما. أما الشكل الفني المعتمد حاليًا للأيقونة فقد استقرّ منذ القرن الرابع الميلادي.