د. هشام عثمان

يعيش السودان واحدة من أسوأ فصول تاريخه الحديث، حيث الحرب الأهلية المستعرة التي دمرت الأخضر واليابس ودفعت الملايين إلى النزوح واللجوء. وسط هذه المأساة، نجد أن بعض السودانيين، بدلاً من الانخراط في مبادرات السلام والعمل على إنهاء الحرب، يتبنون مواقف رعناء وجهالة مدمرة. وتظهر هذه المواقف جلياً في سلوكيات فئة ترفض الحل السلمي وتتمسك باستمرار الحرب كوسيلة لمنع التغيير السياسي والاجتماعي الذي من شأنه إنهاء دولة الامتيازات التي تحكمت فيها أقلية لعقود.



رفض السلام: خطأ استراتيجي مدمر

شهدت العاصمة البريطانية لندن مؤخراً مظاهرات ضد زيارة رئيس الوزراء السوداني السابق عبد الله حمدوك، الذي كان يزور بريطانيا في إطار البحث عن حلول سلمية لإنهاء الحرب في السودان. هؤلاء المتظاهرون، بدلاً من تأييد الجهود الرامية إلى إيقاف الدمار الذي تعاني منه بلادهم، اختاروا الاعتراض على مبادرة قد تقود إلى حل سياسي شامل. هذا الموقف يعكس خطورة الجهل السياسي واستمرار تبني مفاهيم موروثة تقوم على العنف والإقصاء كوسيلة لحل النزاعات، دون أن يدركوا أن هذا النهج يضر بمستقبلهم ومستقبل أجيال قادمة.

إن موقف هؤلاء المتظاهرين ليس موقفاً عاطفياً فقط، بل يعبر عن رؤية سياسية محددة تسعى للحفاظ على الوضع الراهن، وهو وضع تمتاز فيه أقلية معينة بامتيازات اقتصادية وسياسية كبيرة، على حساب الغالبية العظمى من الشعب السوداني. إنهم يخشون التغيير، ويعتقدون أن استدامة الحرب ستضمن لهم استمرار سيطرتهم على موارد البلاد ومفاصل السلطة. لكن ما لا يدركونه هو أن الحرب، بدلاً من أن تحافظ على هذه الامتيازات، تدمر البلاد وتفكك مؤسساتها، مما يجعل من الصعب إعادة بناء دولة قوية ومزدهرة حتى لو استمرت هذه الامتيازات مؤقتاً.

العقلية المدمرة: الحنين إلى دولة الامتيازات

لعل ما يدفع هؤلاء إلى رفض الحل السلمي هو خوفهم من فقدان الامتيازات التاريخية التي حصلوا عليها عبر تحالفات سياسية وعسكرية واقتصادية، حيث رسخت هذه الامتيازات في أذهانهم صورة نمطية للدولة التي تخدم مصالحهم فقط. إنهم يعتبرون أي محاولة للتغيير تهديداً مباشراً لوجودهم السياسي والاقتصادي، حتى وإن كان ذلك التغيير يستند إلى مبادئ العدالة والمساواة.

لكن المفارقة الكبرى تكمن في أن هذه الأقلية، بدلاً من البحث عن حلول سياسية واقتصادية عادلة تضمن لهم موقعاً في السودان الجديد، اختارت أن تستمر في تدمير البلاد عبر التمسك بالحرب كوسيلة للحفاظ على نفوذها. وكأنهم "يخربون بيوتهم بأيديهم"، غير مدركين أن استمرار هذه الحرب لن يؤدي إلا إلى المزيد من الخراب، وأنهم في نهاية المطاف سيدفعون الثمن غالياً.

السودان في مفترق طرق

لقد أصبح واضحاً لكل ذي عينين أن الحرب لن تحقق حلاً لأي طرف، بل إنها تزيد من تعقيد الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في السودان. ومن يرفضون الحل السلمي اليوم ليسوا فقط في موقف غير أخلاقي بل في موقف غير عقلاني أيضاً، فهم يخاطرون بمستقبل بلادهم ويدفعونها نحو مزيد من الانهيار.

الجهود الدولية والإقليمية لإيقاف الحرب في السودان تواجه تحديات كبيرة، ولكنها ضرورية لتجنب مزيد من الدمار. إن مبادرات مثل زيارة حمدوك لبريطانيا تأتي في سياق هذه الجهود، والتي تهدف إلى توفير منصة للحوار والتفاوض بين الأطراف المتنازعة. إلا أن الأصوات الرافضة لهذه الجهود تعكس أزمة فكرية وسياسية عميقة لدى البعض، ممن يرون في استمرار الحرب وسيلة لإدامة مصالحهم الضيقة، متناسين أن الأوطان تبنى بالتوافق والشراكة لا بالعنف والقتل.

مصلحة الجميع في السلام

إن مصلحة كل سوداني تكمن في إنهاء الحرب والدخول في عملية سياسية تعيد بناء الدولة على أسس جديدة من العدل والمساواة. إن الذين تظاهروا ضد زيارة حمدوك في لندن يظنون أنهم يدافعون عن السودان، ولكن الحقيقة أن موقفهم لا يخدم إلا الحرب والتدمير. هم يخربون بيوتهم بأيديهم، معتقدين أن هذه الحرب هي وسيلتهم الوحيدة للحفاظ على نفوذهم.

ختاماً، السودان يقف اليوم على مفترق طرق. الطريق الأول يقود إلى مزيد من الدمار والتفكك، حيث تواصل الحرب حصد الأرواح وتدمير الاقتصاد والبنية التحتية. أما الطريق الثاني، وهو الطريق الذي يجب أن يسلكه الجميع، فهو طريق السلام والمصالحة الوطنية. من الضروري أن تدرك جميع الأطراف أن الحل لا يكمن في استمرار الحرب، بل في وقفها والتفاوض على مستقبل جديد للسودان يضمن العدالة والكرامة للجميع.

hishamosman315@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: فی السودان

إقرأ أيضاً:

الكنيسة المارونيّة وضعت الخلاف السياسي جانباً... الأولويّة للتضامن الوطني

كتبت ابتسام شديد في" الديار": مع ان الكنيسة المارونية لم تكن يوما من الفريق المؤيد لخيارات حزب الله السياسية، وآخرها عدم الموافقة على حرب إسناد غزة، إلا ان الكنيسة بعد توسع الحرب تخطت الحواجز السياسية، لتطالب بالتضامن الوطني واحتضان اللبنانيين الهاربين من القصف.

والمشهد في المناطق المسيحية على غرار منطقة دير الأحمر بعد حركة التهجير من بعلبك، هو نموذج يشهد على التعاضد الوطني والالتحام بين الناس، على الرغم من الانقسام السياسي الكبير.
سبق لرأس الكنيسة الكاردينال بشارة الراعي ان حذر من الفراغ الرئاسي، ومغبة انفلات الوضع، وعلى هذا الأساس دعا لفك الارتباط بين لبنان وحرب غزة، مما تسبب بتباعد بين بكركي والمحور الذي انخرط بالحرب، وتزايد الفتور في العلاقة بين الصرح البطريركي وحزب الله، مع تعثر انتخاب رئيس جمهورية واستمرار الشغور في رئاسة الجمهورية.

وقد ثبت كما تقول مصادر سياسية ان الراعي كان الى حد كبير محق في هواجسه من الفراغ في سدة الرئاسة، مع اندلاع العدوان «الإسرائيلي» الوحشي، في حين ان وجود الرئيس المسيحي التوافقي والقوي يعطي المظلة الداخلية المطلوبة ويقدم الحلول والمخارج للأزمة.

وعلى الرغم من الإختلاف السياسي، فان الكنيسة كما تقول مصادر مسيحية، لم تقف على الحياد في موضوع الحرب الدائرة لإبادة طائفة ومكون أساسي، وقد وضعت التباين جانبا وانخرطت في معركة مساندة المهجرين من أتون الحرب، فكانت من المبادرين في ترتيبات التهحير لمساعدتهم، التزاما بالرسالة المسيحية. وكان لافتا ان مجلس المطارنة الموارنة اعلن وقوف الكنيسة الى جانب «الشعب الجريح في الأبرشيات والرعايا»، منطلقا من الحس الإنساني، فتم تفعيل عمل الابرشيات والمؤسسات المسيحية في لبنان والخارج للمساهمة في الإنقاذ.

الى جانب الموقف المسيحي، برز التضامن من قبل سياسيين من خارج التوافق مع حزب الله في موضوع الحرب، النائب السابق وليد جنبلاط كان أول الداعمين لحزب الله باستقبال النازحين وفتح مراكز الإيواء في الجبل، والأمور لم تختلف كثيرا عن حرب تموز ٢٠٠٦ لدى بيئة وجمهور «التيار الوطني الحر» ، فالاختلاف مع حزب الله في ملف الرئاسة والانخراط بالحرب لم يمنع التيار من مؤازرة الحزب وجمهوره .
لا يختلف الوضع على الساحة السنية، فمناطق الشمال تحتضن المهجرين، ومن الواضح ان ثمة تغييرا كبيرا أصاب الشارع السني بعد حرب غزة، التي أرست معادلات مختلفة على صعيد العلاقة بين الجمهور السني والبيئة الشيعية.

التضامن بكل وجوهه أفشل المخطط «الإسرائيلي» للفتنة والحرب الأهلية، من خلال اللعب على التباين بين الحزب والمكونات السياسية والطائفية، فحزب الله أكثر الرافضين للفتنة.  
 

مقالات مشابهة

  • الخارجية تعرب عن قلق المملكة إزاء استمرار القتال في السودان
  • «18» شهراً على استمرار الحرب السودانية .. لماذا فشلت القوى المدنية في الجهر بأصوات السلام 
  • محادثات وقف إطلاق النار في السودان: ما الذي كان مفقودًا حتى الآن؟ بقلم السفير دونالد إي بوث والسفير نور الدين ساتي
  • العدل والمساواة السودانية وتجمع تحرير السودان ترفضان تقسيم البلاد وإثارة الكراهية
  • الكنيسة المارونيّة وضعت الخلاف السياسي جانباً... الأولويّة للتضامن الوطني
  • «حماس» ترفض «وقفاً مؤقتاً لإطلاق النار» وتؤيد أي مقترح لإنهاء الحرب
  • العكاري: التغيير الذي حدث في البنك المركزي يجب أن يُستثمر من الجميع
  • أمسية موسيقية بعنوان «فلنغني للسلام» دعمًا لضحايا الحرب في السودان
  • حمدوك يؤكد ضرورة توحيد المبادرات في مظلة وعملية سياسية واحدة