سودانايل:
2025-01-30@11:08:33 GMT

سودنة الخدمة العامة: تحليل نقدي (1 -3)

تاريخ النشر: 2nd, November 2024 GMT

سودنة الخدمة العامة: تحليل نقدي (1 -3)
Sudanization of the Public Service. A Critical Analysis (1 -3)
العجب أ. الطريفي Al - Agab A. Al -Teraifi
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لما جاء في الجزء الأول من مقال عن "السودنة" بقلم الدكتور العجب الطريفي نُشِرَ في العدد الثامن والخمسين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR" الصادرة عام 1977م، في صفحات 117 – 134.

والكاتب من خريجي جامعة الخرطوم في ستينيات القرن الماضي، ولعل ب/ عبد الله علي إبراهيم أتى ذات مرة على ذكره في إحدى مقالاته عن ثورة أكتوبر 1964م، بحسبانه واحداً من زملائه بجامعة الخرطوم في تلك الأيام. وذكر لي أحد الأصدقاء بأن الرجل كان يعمل بمعهد الإدارة العامة. واِستَشهَدَ الكاتب في مراجع مقاله برسالته للدكتوراه من جامعة بيتسبرغ الأميركية التي نالها عام 1978م، وكانت بعنوان: Administrative Reform in the Sudan with Special Reference to Personnel Aspects الإصلاح الإداري في السودان مع التركيز بشكل خاص على الجوانب المتعلقة بشؤون الموظفين (1).
ومن المقالات التي نشرت عن "السودنة" مقال بعنوان "السودنة في إطار كلي" تجده في هذا الرابط: https://shorturl.at/pDa2a
المترجم
******** ******** ********
مقدمة
تهدف هذه الدراسة إلى تقييم تطور التوطين، أو على وجه التحديد، سياسات وبرامج السودنة إبان الفترة الكولونيالية وفترة الحكم الذاتي وما بعدها. والمقصود بـ "السودنة" هو إحلال السودانيين محل الأجانب (أي البريطانيين والمصرين) في الخدمة العامة. وكان السلطات الكلولونيالية البريطانية قد اخترعت كلمة "localization توطين" لوصف تلك العملية التي يحل فيها مواطنو الدول الواقعة تحت سلطتهم مكان الموظفين البريطانيين العاملين في الخدمة العامة. وكانت السلطات الكلولونيالية الفرنسية تسميها "إنهاء الكلولونيالية decolonization".
وفي هذا الصدد يمكن تحديد مرحلتين لعملية السودنة. كانت المرحلة الأولى هي مرحلة توظيف السودانيين بالتدرج في مجال الخدمة العامة السودانية. وهذا ما يُعرف عموماً بالنهج "الكولونيالي" الذي تضمن ربط التوطين بمخرجات المدارس والجامعات، وبالمدة التي يستغرقها المواطن لإثبات نفسه داخل الخدمة. وقد رفض الوطنيون في الدول الواقعة تحت الكلولونيالية ذلك النهج على أساس أن الأمر سيستغرق جيلاً كاملاً قبل أن يُحْدِث أي تأثير ملموس على المشكلة. أما المرحلة الثانية من برنامج السودنة فقد بدأت قبل تحقيق الاستقلال السياسي في عام 1956م، عندما كانت الحركة السياسية تطالب بإلحاح بضرورة أن يحل السودانيون على الفور محل الخبراء الأجانب وغير السودانيين عموماً الذين أدوا أدواراً في الاقتصاد والمجتمع والكيان السياسي polity. وعرف بيرك وفرنيش في الكتاب المعنون "Bureaucracy and Africanization" كلمة "توطين" بأنها تشير إلى "نوع معين من توظيف وتحديد الأدوار يتم في دولة جديدة. وهو يتضمن الاستبدال المتعمد لفئة من الأشخاص في مناصب السلطة والنفوذ والمكانة بفئة أخرى". وفي هذا المقال سندرس تأثير برنامج السودنة المُعَجَّل (accelerated Sudanization programme) الذي بدأ في عام 1954م على الخدمة المدنية.
توظيف السودانيين في الخدمة العامة
كانت الإدارة البريطانية الكلولونيالية تهدف منذ البداية إلى تعيين السودانيين بصورة متدرجة في وظائف الخدمة المدنية الدُّنْيا. فقد كان اللورد كرومر قد أعلن وهو في زيارة للخرطوم في يناير من عام 1903م بأنه: "من العسير جداً حكم أي بلد بشكل صحيح من دون الحصول على بعض المساعدة من سكانه. وكل السلطات الحاكمة الآن في السودان هي عملياً في أيادي أجنبية؛ إذ ينبغي ألا ننسى أن المصريين هم – بالنسبة للسودانيين – أجانب، مثلهم مثل الإنجليز. وليس عندي من شك في أن السير ريجيلاند ونجت سوف سيفعل كل ما في وسعه ويستخدم سلطاته لخلق طبقة من السودانيين سيكون بمقدورها في وقت ليس بالطويل أن تشغل بعض الوظائف الدُّنْيا". ومضى في القول بأن: "التعليم العالي في هذه المرحلة هو بالطبع أمر غير وارد. ولكن إن اقتصر طِمَاحنا على تعليم القراءة والكتابة والحساب فحسب، فسوف نحصل على نتائج مرضية".
ولتنفيذ الأهداف التي أعلنها اللورد كرومر شرعت حكومة السودان في وضع لبنات نظام تعليمي كانت غايته هي تخريج موظفين سودانيين للعمل في الدرجات الإدارية (الكتابية) الأدنى. وكانت الحكومة تركز على التعليم الفني والمهني، ليس فقط بسبب الحاجة لعمال مهرة، ولكن أيضاً لأسباب سياسية، فقد قال كرومر في إحدى رسائله للسير البريطاني المحافظ غورست Gorst عام 1908م بأن: "كل نجار أو بناء أو عامل ماهر تخرجونه سيُكَوِّن وحدةً منفصلةً عن صفوف الطبقة الساخطة الذين يتحولون بالضرورة إلى وطنيين وديماغوجيين".
ومن أجل تطبيق تلك الأهداف التعليمية على أرض الواقع، ناشد اللورد كتشنر البريطانيين وغيرهم التبرع لإقامة كلية بالخرطوم تخلد ذكرى الجنرال غوردون باشا. وسرعان ما تَهَاطَلَتِ عليه تبرعات كافية مكنته من افتتاح الكلية (كمدرسة أولية وفنية) في عام 1902م. وكانت الكلية في البدء تركز على تخريج كتبة وعمال مهرة للعمل في الحكومة والشركات التجارية. وفي عام 1903م اُفْتُتِحَتْ أيضاً أربع مدارس أولية. وفي عام 1905م أضافت كلية غوردون مدرسة أولية (عليا)، وصارت كلية غوردون في عام 1913م مدرسة ثانوية (عامة)، تُدْرَسُ فيها العلوم والقوانين الإسلامية من أجل تخريج قضاة شرعيين، إضافة لتخريج مدرسين ومهندسين. وفي عام 1924م أُنْشِئَتْ "مدرسة كتشنر الطبية"، وتلتها فيما أقبل من سنوات مدارس للآداب والعلوم والهندسة والعلوم البيطرية والزراعة والقانون، التي تطورت وصارت في عام 1951 "كلية الخرطوم الجامعية"، التي غدت في عام 1965م "جامعة الخرطوم".
وبدأ تعيين السودانيين في وظائف إدارية مساعدة للمآمير المصريين للمرة الأولى في عام 1915م. واُفْتُتِحَتْ في عام 1919م مدرسة للإدارة تقوم بتدريب من يختارون للعمل في السلك الإداري الحكومي. وبلغ عدد المتدربين في تلك المدرسة عام 1924م 26 ضابطاً سودانيا و16 من المدنيين. وأُغْلِقَتْ تلك المدرسة في الفترة ما بين عامي 1926 و1936م، ولم تعد تلك المدرسة تستقبل متدربين سودانيين مجدداً إلا في عام 1937م. وكان اختيار المتدربين لدخول تلك المدرسة يعتمد على شَخْصِيَّة المتقدم وصِفاتِه الفَرْدِية الذَّاتِيَّةِ المُمَيِّزَة، غير أن التأهيل التعليمي للمتقدم وانتماءه لعائلة معروفة كانتا أيضاً من العوامل التي تُؤْخَذ في الاعتبار.
ولكن نتيجة للثورة القومية المصرية في مارس 1919م عينت الحكومة البريطانية لجنة برئاسة الفيكونت ميلنر للتحقيق في الأوضاع بمصر وتقديم التوصيات بشأنها. وقام اثنان من أعضاء اللجنة بزيارة الخرطوم وقدما تقريراً إلى حكومة السودان. وكان ذلك التقرير هو الذي أعطى زمام المبادرة لحكومة السودان لبدأ الخطوات الرسمية الأولى نحو تحقيق اللامركزية في الحكم، وربط السودانيين بالإدارة. وأعربت لجنة ميلنر عن وجهة نظر مفادها أنه على الرغم من أنه من الضروري تماماً الحفاظ على سلطة عليا صغيرة على السودان بأكمله، إلا أنه ليس من المرغوب فيه أن تظل الحكومة مفرطة المركزية. وجاء في ذلك التقرير أيضاً ما يفيد بأنه "بالنظر إلى أن السودان بلد شاسع الأرجاء وتقطنه مجموعات سكانية عديدة وشديدة التنوع، فينبغي أن تُتُرِّكَ إدارة شؤون سكانه – بقدر الإمكان - في أيدي سلطات أهلية محلية تكون خاضعة للإشراف البريطاني". وبالإضافة لترامي أطراف السودان وتنوع سكانه، ذكر تقرير لجنة ميلر سبباً آخر يعضد اقتراح إسناد إدارة (أقاليم) البلاد لسلطات أهلية وهو أن "لامركزية الحكم وتَوْظِيف الإدارات الأهلية لتلبية احتياجات البلاد الإدارية البسيطة سيزيد من الكفاءة وينشط الاقتصاد".
وعقب نشر تقرير ملنر شرعت حكومة السودان في اتباع سياسة جديدة كانت اللامركزية عمادها. وطبقت الحكومة تلك السياسة بطريقتين كانت لهما نفس الهدف. وكتب حاكم عام السودان السير لي استاك في تقريره السنوي (لعام 1921م) ما يلي:
"لقد اتخذنا عددا من الخطوات التجريبية الأوَّلِيّة منذ بداية عام 1921م لتنفيذ سياسة تقضي بمشاركة الأهالي natives في إدارة شؤونهم، ومساعدتهم في الاستعداد للمسؤوليات المتزايدة المترتبة عليهم. ونُفِذَتْ تلك السياسة بطريقتين تقودان لذات الغاية. ففي الطريقة الأولى اِخْتَرْنَا بعض أهالي السودان وعيناهم في بعض الوظائف الحكومية ذات المهام الإدارية المباشرة. وقمنا في الطريقة الثانية بسن تشريعات ولوائح تنظم كيفية ممارسة شيوخ القبائل للسلطات الممنوحة لهم لإدارة شؤون أفراد قبائلهم".
وبهذا تتضح ملامح السياسة الإدارية لحكومة السودان في غضون تلك الفترة تجاه تعيين السودانيين بالوظائف الدُّنْيا في مجال الخدمات الحكومية، والاعتراف بشيوخ وزعماء القبائل بحسبانهم وكلاء (من المستوى الأدنى) للحكومة. وتنفيذا لتلك السياسة، تواصل تعيين شباب السودانيين في وظيفة "مساعد / نائب مأمور sub- mamur "، وظلت أعدادهم تزيد عاماً بعد عام.
تأثير ثورة 1924م
لقد تخلت الحكومة عن تلك السياسة (المذكورة أعلاه) عقب قيام ثورة 1924م التي قادها خريجو كلية غوردون وطلاب المدرسة الحربية والمدارس الأخرى. وكان هدف تلك الثورة هو إنهاء الحكم البريطاني، ووحدة وادي النيل (السودان ومصر).
لقد كانت لثورة 1924م آثاراً بعيدة المدى على تطور الخدمة المدنية والبرامج التعليمية التي كان لها ارتباط وثيق بالمتطلبات الإدارية. وبحسب ما ذكره إيدوارد عطية في كتابه "عربي يروي قصته" فقد كانت أحداث عام 1924م " قد هزت ثقة الحكومة في المتعلمين السودانيين، وأثارت مخاوفها حول نتائج التعليم السياسية بصورة عامة؛ وهو الأمر الذي جعل الحكومة تبطئ أو تتوقف عن المضي في سياستها الليبرالية التقدمية، هذا إذا لم تكن قد تراجعت عنها نهائياً". وذكر بيتر هولت في كتابه المعنون "تاريخ السودان الحديث" أن الحكومة قد شرعت في التصرف وكأن كل فرد من أفراد الطبقة السودانية التي تلقت تعليماً غربياً هو عدو لدود لها يجب مراقبته وتطويقه من أجل استدامة الاستقرار السياسي. وأفضت تلك السياسة لحالة من الركود في كلية غوردون (التي تمثل قمة النظام التعليمي بالبلاد)، وصارت الحكومة تنظر إليها بعين الريبة والشك باعتبارها أرضاً خصبة للشباب الساخط الناقم. وذكر نصر الحاج علي في تقرير قدمه لمعهد التربية بجامعة لندن عام 1951م أن غالب المسؤولين البريطانيين كانوا يعترضون بشدة على تعليم السودانيين، خاصة على التعليم بكلية غوردون، وكان المتعلمون السودانيون – في المقابل - يرتابون كثيراً ويتخوفون من أن تصر الحكومة على تخفيض وظائفهم لتغدو (مجرد) وظائف فنية، وأن تحول بينهم وبين الحصول على أي قوة حقيقية في البلاد".
غير أن ما نصح به تقرير ملنر (1922م) عن توظيف السودانيين في الخدمة العامة، وسعى ستاك وآرشر لتطبيقه، لم يعد عملياً جزءاً مهماً من السياسة الإدارية للحكومة. وتوافقاً مع تلك السياسة أُغْلِقَتْ "مدرسة الإدارة" في عام 1927م، التي كانت قد أُنْشِئَتْ عام 1918م لتدريب صغار الإداريين السودانيين. وأُغْلِقَتْ كذلك المدرسة الحربية، وأُوقِفَتْ أيضاً البعثات الدراسية إلى الجامعة الأمريكية ببيروت. وكان لتك السياسة الحكومية جانب آخر ألا وهو تقوية وتدعيم الإدارة الأهلية (أي الحكم المحلي عبر زعماء القبائل)، والتقليل من دور العناصر المتعلمة في الإدارة بقدر الإمكان.
وذكر مدثر عبد الرحيم في كتابه "الامبريالية والقومية في السودان دراسة للتطور الدستوري والسياسي 1899- 1956م" ما يفيد بأنه كان يُنْظَرُ لـ "الإدارة الأهلية" حتى عام 1924م بحسبانها متمِّمةً لسياسة تدريب السودانيين المتعلمين للخدمة في تَسَلْسُل الحكومة المركزية الهَرَميّ. وبالتأكيد كان الحاكم العام السير لي استاك يعتبر أن هذين الشكلين من أشكال "السودنة" يكملان بعضهما البعض. وجاء تقرير لجنة ميلنر موافقاً لتلك النظرة، رغم ما ذُكِرَ بالتقرير عن أن البيروقراطية المركزية لا تصلح في (حكم) السودان، إلا أن تلك اللجنة لم تفرقْ بصورة كافية بين شكلي "السودنة". وكان الاعتبار الأهم في الحالتين بالنسبة لحكومة السودان هو إخراج المصريين وإحلال السودانيين محلهم.
*********** *********** *********
إحالات مرجعية
1/ يمكن الاطلاع على رسالة الدكتوراه كاملةً في هذا الرابط: https://digitallibrary.usc.edu/archive/Administrative-reform-in-Sudan--A-human-resource-perspective-2A3408CLIB.html

alibadreldin@hotmail.com

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: فی الخدمة العامة السودانیین فی تلک المدرسة تلک السیاسة السودان فی التی ت فی عام فی هذا

إقرأ أيضاً:

في متاهة السياسة: مسؤولية الكتابة في عالم منقسم

 

 

 

محمد أنور البلوشي

"لا أرى لك أي كتابة سياسية"، قال لي أحد أصدقائي. "إنِّه مجال جيِّد للكتابة عن السياسة العالمية وما يحدث في العالم على الصعيد السياسي"، أضاف. ظلت كلماته عالقة في ذهني، وأثارت نقاشًا داخليًا هادئًا. هل يجب أن أخوض غمار هذا المجال المليء بالتحديات؟ هل يمكنني فك تعقيدات الأيديولوجيات وصراعات القوى والتحولات المجتمعية باستخدام الكلمات فقط؟

الكتابة عن السياسة وإبداء الآراء فيها هي مُهمة معقدة. من أين يجب أن أبدأ؟ هل أبدأ بالحرب العالمية الأولى عام 1914، التي يُشار إليها غالبًا بأنَّها "الحرب لإنهاء كل الحروب"، مستعرضًا الخسائر المأساوية لملايين الأرواح؟ أم ربما يجب أن أتحدث عن الحرب العالمية الثانية التي انتهت عام 1945، وأعادت تشكيل النظام العالمي في أعقابها؟ كلا النزاعين تركا آثارًا لا تُمحى في التاريخ، وساهما في تشكيل الأنظمة السياسية التي نتعامل معها اليوم. ومع ذلك، فإنَّ الكتابة عن هذه الأحداث الضخمة تتطلب ليس فقط دقة تاريخية، بل فهمًا عميقًا لآثارها طويلة المدى.

السياسة تؤثر في كل جانب من جوانب الحياة البشرية، من الحكم إلى القيم المجتمعية وتوزيع الموارد بشكل عادل (أو غير عادل). عندما تُترك السياسة في أيدي سياسيين غير ناضجين أو قصيري النظر، تكون العواقب وخيمة. التاريخ مليء بأمثلة على سوء الإدارة السياسية الذي أدى إلى الحروب والأزمات الاقتصادية والمُعاناة الواسعة.

توماس هوبز، في كتابه الكلاسيكي "الليفياثان" (1651)، جادل بأن السلطة المركزية القوية هي الوحيدة القادرة على منع الفوضى والاضطراب، وهي حالة سماها "حرب الجميع ضد الجميع". في المقابل، دافع جون لوك عن الحرية الفردية والحكم من خلال الاتفاق المتبادل، مشددًا على أهمية تحقيق التوازن بين السلطة والحرية. عندما يختل هذا التوازن، تكون النتائج كارثية.

السياسة لا يمكنها ولا ينبغي لها أن تعمل فقط على أساس عاطفي. القادة الذين يستغلون مشاعر العامة لحشد الدعم غالبًا ما يتجاهلون الإصلاحات الهيكلية اللازمة للتقدم الحقيقي. نيكولو مكيافيلي، في كتابه "الأمير" (1513)، أشار بشكل مُثير للجدل إلى أنَّ النجاح في الحكم يتطلب في كثير من الأحيان البراغماتية بدلًا من الأخلاق.

وبينما تعتبر وجهة نظره مثيرة للانقسام، فإنها تسلط الضوء على مخاطر القيادة التي تركز على العواطف فقط. الكتابة عن السياسة تتطلب تمييزًا مشابهًا؛ يجب على الكاتب أن يتعامل مع الموضوع بوضوح بعيدًا عن التحيز الشخصي، وأن يركز على تعزيز الحوار البناء.

واحدة من أكبر التحديات في الكتابة السياسية هي ضمان دقة المعلومات. على سبيل المثال، انظر إلى النزاع الحالي بين روسيا وأوكرانيا الذي بدأ في فبراير 2022. تغطية وسائل الإعلام، المتأثرة بالتحيزات الوطنية والأيديولوجية، غالبًا ما تقدم روايات متضاربة. ككاتب، يجب أن يتصارع المرء مع هذه التناقضات، وأن يشكك في موثوقية المصادر، وأن يسعى لتقديم رؤية متوازنة.

وبالمثل، فإن حرب الخليج 1990-1991، التي بدأت بغزو العراق للكويت، تظل موضوعًا مثيرًا للجدل. وبينما تم تأطيرها كدفاع عن السيادة والنظام الدولي، أشار نقاد مثل نعوم تشومسكي إلى الدوافع الجيوسياسية والاقتصادية الكامنة، وخاصة حماية مصالح النفط. الكتابة عن مثل هذه الأحداث تتطلب ليس فقط معرفة تاريخية، بل أيضًا فهمًا لديناميكيات القوة المعقدة.

تقديم رأي سياسي يحمل مسؤولية كبيرة. الأمر لا يقتصر على مشاركة الأفكار، بل يشمل التفكير في تأثيرها المحتمل. الكلمات لديها القدرة على إلهام التغيير أو إشعال الصراع. يجب على الكاتب أن يتوقع تداعيات عمله، وأن يضمن أن يُسهم في حل القضايا بدلًا من تفاقمها.

نظرية العمل التواصلي ليورغن هابرماس تؤكد على أهمية الحوار الذي يهدف إلى الفهم المتبادل. هذا المبدأ ذو أهمية خاصة للكتاب السياسيين، الذين يجب أن يضمنوا أن عملهم يبني جسورًا بدلًا من توسيع الفجوات.

الكتابة عن السياسة تتطلب المُساءلة. يجب على الكاتب أن يرتفع فوق الإثارة، ويرفض إغراء تبسيط القضايا المعقدة. بدلًا من ذلك، يجب التركيز على تقديم تحليلات متوازنة تشجع القراء على التفكير النقدي. الهدف لا ينبغي أن يكون الإقناع، بل الإضاءة، وتزويد القراء بالأدوات اللازمة لتشكيل آرائهم المستنيرة.

السياسة العالمية هي موضوع واسع وصعب؛ سواء كنَّا نتحدث عن أحداث تاريخية مثل الحروب العالمية أو قضايا معاصرة مثل الصراع الروسي الأوكراني، فإنَّ الكاتب يتحمل عبء المسؤولية الثقيلة. الهدف يجب ألا يكون مجرد سرد الأحداث، بل الغوص في الأسباب والنتائج الكامنة، واستخلاص الدروس التي يمكن أن توجه العمل في المستقبل.

الفلاسفة السياسيون مثل هوبز ولوك ومكيافيلي وهابرماس يقدمون أطرًا قيمة لفهم الحكم والقيادة. أفكارهم تذكرنا بتعقيد السياسة والحاجة إلى مناهج متوازنة ومدروسة. الكتابة عن السياسة، إذن، ليست مجرد تفاعل مع الأحداث الجارية؛ إنها تتعلق بفهم الحالة الإنسانية والأنظمة التي ننشئها لحكم أنفسنا. إنها تتعلق بالسعي وراء الحقيقة، وتعزيز الحوار، والبحث عن حلول تؤدي إلى عالم أكثر عدلًا وإنصافًا.

في النهاية، الكتابة عن السياسة هي فعل مسؤولية وشجاعة. إنها التزام بالتنقل في المياه المظلمة للحكم والأيديولوجيا والسلوك البشري. إنها تتعلق بطرح الأسئلة، والبحث عن الإجابات، واستخدام قوة الكلمات للمُساهمة في مجتمع أفضل وأكثر وعيًا.

مقالات مشابهة

  • مخزومي: لضرورة تعاون الجميع لإزالة العوائق التي تعترض تشكيل الحكومة
  • رئيس الهيئة العامة للكتاب: أعمال مصطفى ناصف تعلمنا كيفية التفكير بشكل نقدي
  • النيابة العامة تقرر تحليل عينات من الرنجة ببورسعيد للتأكد من سلامتها| صور
  • ضربة جديدة لنتنياهو .. رئيس حزب “شاس” يهدد بحل الحكومة الإسرائيلية حال عدم إعفاء “الحريديم” من الخدمة العسكرية
  • القاعدة الأولى في السياسة: لا تعبث مع غزة
  • سان جيرمان يتخلى عن «السياسة المتسرعة»!
  • الصول: مزاعم وجود قوات ليبية في السودان “افتراءات لا أساس لها”
  • في متاهة السياسة: مسؤولية الكتابة في عالم منقسم
  • محطة الرئيس تعود للعمل في هذا الموعد المحدد
  • مدير المخابرات السوداني يحدد موعد وشروط إنتهاء الحرب