ثورة أكتوبر وتوق الشعب السوداني إلى حركة حقوق مدنية (4-6)
تاريخ النشر: 2nd, November 2024 GMT
مجتزأ من ورقة: عبد الله الفكي البشير، "ثورة أكتوبر ومناخ الستينيات: الانجاز والكبوات (قراءة أولية)"، نُشرت ضمن كتاب: حيدر إبراهيم وآخرون (تحرير)، *خمسون عاماً على ثورة أكتوبر السودانية (1964- 2014): نهوض السودان المبكر*، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 2014.
عبد الله الفكي البشير
abdallaelbashir@gmail.
قيام حركة الأنيانيا في جنوب السودان
شهد العام 1963 ميلاد التنظيم العسكري للأنيانيا القائم على فكرة المعارضة المسلحة. مع قيام حركة الأنيانيا في جنوب السودان واندلاع الكفاح المسلح للشعب الأريتري بدأ التوتر والتأزم في العلاقات السودانية- الإثيوبية. يضاف إلى ذلك أن أقاليم دارفور والبجة وجبال النوبة طالبت، بعضها منذ الخمسينات، بالتعبير عن ذاتها وتطلعاتها في اطار نظام إقليمي. فقد أفضى التخلف والإهمال والتوزيع غير المتوازن للسلطة والثروة إلى قيام جبهة تنمية دار فور واتحاد جبال النوبة ومؤتمر البجة. مع تطور الأوضاع في هذه الأقاليم وبلوغ مشكلة الجنوب بحلول عام 1964 أبعادا خطيرة وجديدة، غدت وحدة القطر في خطر. كما اخذت القضية بعدا اقليميا، وقدرا كبيرا من التدويل. ساهمت كل هذه المعطيات في تغذية مناخ الثورة وخروج الجماهير.
كانت بداية الثورة في مساء 21 أكتوبر، حيث أقام طلاب جامعة الخرطوم ندوة لمناقشة تطورات الحرب الأهلية، فواجهت السلطات ندوة الطلاب بقوات شرطة الطوارئ بهدف إيقافها، ولكن الطلاب رفضوا وواصلوا ندوتهم. هاجمت الشرطة الندوة، ووقع صدام أدى إلى مقتل الطالب أحمد قرشي طه وجرح كثيرين وإصابة آخر بجروح خطيرة. كان استشهاد القرشي الشرارة. وتحول تشييع جثمانه في صباح اليوم التالي إلى مظاهرة سياسية قادها أساتذة الجامعة وطلابها وانضمت إليهم المنظمات الأخرى. تطورت الأحداث حتى جاء اعلان الإضراب السياسي العام. وتكونت في الحال جبهة الهيئات من المحامين والقضاة وأساتذة الجامعة والنقابات المهنية والعمالية. وشهدت الفترة من 24 حتى 26 أكتوبر اتساع الاضراب السياسي الذي بلغ قمته بدخول عمال السكة الحديد. وتحرك الضباط الأحرار ورفضهم نزول الجيش للشارع لضرب المتظاهرين، وضغطهم على الرئيس عبود ليحل المجلس الأعلى، وكانت تلك نقطة حاسمة في مسار الثورة. وفي مساء 26 أكتوبر أعلن حلّ المجلس العسكري. وهكذا سقط الحكم العسكري بعد ستة أيام من الصراع الضاري.
تولت جبهة الهيئات مع الجبهة الوطنية التي كونتها الأحزاب، قيادة الأحداث والتفاوض مع القيادات العسكرية لتسليم السلطة للمدنيين. ووضعت "ميثاق أكتوبر". وتشكلت حكومة انتقالية برئاسة سر الختم الخليفة. وفي أول خطاب له في 10 نوفمبر 1964 عن قضية الجنوب، أعلن سر الختم الخليفة رئيس الوزراء أن حكومته تعتقد اعتقادا راسخا أن القوة ليست حلا لمشكلة الجنوب، وتشعر بأن استعمال القوة قد زادها تعقيداً. ثم قال إن حكومته "تعترف بكل شجاعة ووعي بفشل الماضي وتواجه صعوباته، كما أنها تعترف بالفوارق الجنسية والثقافية بين الشمال والجنوب التي تسببت فيها العوامل الجغرافية والتاريخية". وعلى أساس الاعتراف بمثل هذه العناصر في المشكلة، أعلن رئيس الوزراء أن حكومته تنوي اتخاذ سياسة تهدف إلى إعادة الثقة في الجنوب، وستأخذ بعين الاعتبار آراء المثقفين من أبناء الجنوب. ومن ثم فتحت حكومة أكتوبر الانتقالية قنوات اتصال مع القيادات الجنوبية بالخارج وأعلنت في 10 ديسمبر 1964 العفو عن جميع السودانيين الذين هاجروا للخارج من أول يناير 1955. وتبنت الحكومة اقتراح حزب سانو بالدعوة إلى مؤتمر المائدة مستديرة للنظر في موضوع العلاقة الدستورية بين الشمال والجنوب.
عُقد مؤتمر المائدة المستديرة حول جنوب السودان من السادس عشر إلى التاسع والعشرين من شهر مارس عام 1965، وهو بمثابة "أول محاولة سودانية جادة للبحث عن السلام"، برئاسة مدير جامعة الخرطوم، الدكتور النذير دفع الله، وثمانية عشر ممثلاً عن الأحزاب السياسية الشمالية، وأربعة وعشرين من السياسيين الجنوبيين. وبحضور مراقبين من الأحزاب الحاكمة في الأقطار التالية: يوغندا، كينيا، تنزانيا، غانا، الجمهورية العربية المتحدة، نيجيريا والجزائر. إلى جانب حضور ممثلي حكومة يوغندا للمؤتمر كمراقبين. وحددت أهداف المؤتمر فيما يلي: "بحث مسألة الجنوب بغرض الوصول إلى اتفاق يكفل المصالح الإقليمية للجنوب كما يكفل المصالح القومية للسودان". لم يتمكن مؤتمر المائدة المستديرة من الوصول إلى قرار إجماعي حول المسائل الإدارية والدستورية. كتب يوسف محمد علي، عضو سكرتارية المؤتمر ورئيس لجنة الاثنى عشر، قائلا: "وتكشف وقائع جلسات المؤتمر أن البداية لم تكن مشجعة بل كانت على العكس تنذر بالفشل. وأمكن بعد جهد الاتفاق على تكوين لجنة للمتابعة- هي لجنة الاثني عشر" التي أسندت إليها مهمة البحث عن حل في ذلك الخصوص. وفي البيان الختامي الذي أصدره المؤتمر، أكد ممثلو الأحزاب والهيئات على حتمية المصالحة الوطنية. وجاء في البيان أن المؤتمر نجح في تهيئة الفرصة للزعماء السياسيين للالتقاء لأول مرة منذ سنوات في جو ودي لتبادل وجهات النظر حول قضية جنوب السودان. وتبنى المؤتمر بالإجماع سياسات تهدف إلى تطوير الجنوب وتطبيع الأحوال فيه. لاحقاً رفعت لجنة الاثنى عشر التي كلفها المؤتمر بدراسة الهيكل الدستوري والإداري الذي يكفل المصلحة الخاصة للجنوب وكذلك المصلحة العامة للسودان، رفعت تقريرها إلى رئيس الوزراء الصادق المهدي في 26 يونيو 1966 وقد وقعت على التقرير جبهة الجنوب، وحزب سانو، وحزب الأمة، والحزب الوطني الاتحادي، وجبهة الميثاق الإسلامي، وجبهة الهيئات. وكان حزب الشعب الديمقراطي والحزب الشيوعي قد انسحبا من اللجنة بحجة استمرار أعمال العنف في الجنوب. ومثلما أخفق المؤتمر كذلك كان مصير لجنة الاثني عشر. تبع ذلك أن عُقد في أكتوبر 1966 وبمبادرة من رئيس الوزراء آنذاك الصادق المهدي مؤتمر الأحزاب السودانية برئاسة محمد صالح الشنقيطي. كان من المفروض بمقتضى البيان الختامي لمؤتمر المائة المستديرة دعوة المؤتمر للانعقاد مرة ثانية، ولكن الأحزاب الشمالية والجنوبية اتفقت على أنه لا ضرورة لذلك وقررت رفع تقرير لجنة الاثني عشر ونتائج أعمال مؤتمر الأحزاب إلى اللجنة القومية للدستور التي بدأت أعمالها في فبراير 1967 فوضعت مشروع دستور السودان الدائم أمام الجمعية التشريعية في 15 يناير 1968. وكان ذلك الدستور أحد الكبوات الكبرى التي قادت إلى نسف السلام والاستقرار ووحدة البلاد.
القادة والعبث بإرادة الجماهير والفوضى الدستورية
إن ثورة أكتوبر دشنت صراعاً مكشوفاً بين قوى الحداثة والتجديد مقابل القوى الرجعية التقليدية المحافظة. وحملت شعارات أكتوبر مبادئ ومطالب لدولة ديمقراطية حديثة بدءاً من قانون انتخابات جديد وممثل للتطلعات مروراً بالوحدة الوطنية وحل مشكلة الجنوب ثم إلغاء الإدارة الأهلية، نهاية بالتنمية المستقلة. لقد ثارت الجماهير من أجل استعادة الديمقراطية، وضد سياسة الحسم العسكري في جنوب السودان، وهي تتشوق لتحقيق التسوية الوطنية وبناء الوحدة. كان مؤتمر المائدة المستديرة فرصة عظيمة للانحياز لمبادئ ثورة أكتوبر وأشواق الجماهير في تحقيق التسوية الوطنية وبناء الوحدة، غير أن حكومة الأحزاب التقليدية نكصت بعهدها في تطبيق توصيات المؤتمر، وعاد قادة الكفاح المسلح لممارسة القتال، وتفاقمت حالة الحرب الأهلية بعد المجازر الجماعية للجنوبيين في واو وجوبا. أكثر من ذلك أن الأحزاب التقليدية كلها لم تكن تعمل على تحقيق مبادئ أكتوبر، بل أنها جلها عملت على اجهاض ثورة أكتوبر". فقد تآمرت على سر الختم الخليفة رئيس مجلس الوزراء، فقدم في يوم 18 ديسمبر 1965 استقالته بعد أن وجد نفسه عاجزا عن إيجاد الحلول للمسائل المتنازع عليها.
نلتقي مع الحلقة الخامسة.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: مؤتمر المائدة جنوب السودان رئیس الوزراء ثورة أکتوبر
إقرأ أيضاً:
دور كاميرون هدسون في الشأن السوداني: بين الدبلوماسية والمعلومات الاستخباراتية
زهير عثمان
أثار كشف المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأمريكية كاميرون هدسون عن زيارته الأخيرة إلى بورتسودان، العاصمة الإدارية المؤقتة للسودان، تساؤلات عديدة حول دوره في الشأن السوداني. هدسون، المعروف كزميل بارز في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن، لطالما ركز على الأوضاع السياسية في السودان، إلا أن نشاطه وتحليلاته تُلقي بظلال من الشك حول طبيعة علاقته بالمشهد السوداني، خاصةً أنه يتمتع بخلفية استخباراتية ودبلوماسية.
تصريحات هدسون وإشاراته للتسوية
في منشور على منصة "X" (تويتر سابقًا)، كشف هدسون عن زيارته للسودان التي قضاها لمدة أسبوع في بورتسودان، وأشار إلى وجود رغبة ملحة لإنهاء الحرب من جانب القوات المسلحة السودانية. كما أكد أن الحرب ستنتهي دون منتصر واضح، مما يمهد الطريق أمام تفاوض محتمل مع قوات الدعم السريع.
تزامنت هذه التصريحات مع تسريبات عن محادثات سرية قد تكون جارية بين الأطراف المتصارعة، وهو ما أكده مصدر دبلوماسي تحدث لـ"راديو دبنقا". وذكر المصدر أن إشارات هدسون يجب أن تؤخذ بجدية، خاصة في ظل الغموض الذي يكتنف المفاوضات والتسويات.
هدسون: مراقب أم مؤثر؟
يتطلب تقييم دور هدسون في السودان تحليل خلفيته ومواقفه:
خبرته في الشؤون الاستخباراتية والدبلوماسية: شغل هدسون مناصب حساسة في وزارة الخارجية الأمريكية، مما يجعله مطلعًا على ديناميات الصراعات العالمية، بما فيها السودان. كما أن عمله في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية يمنحه منصة لتقديم رؤى تحليلية قد تكون مستندة إلى معلومات استخباراتية.
تركيزه على السودان: هدسون من الشخصيات التي تتابع الأوضاع السودانية عن كثب، سواء عبر التحليلات الأكاديمية أو التصريحات الإعلامية. وهذا يُظهر اهتمامًا استثنائيًا بالسودان، قد يعكس دورًا استراتيجيًا أو استشاريًا وراء الكواليس.
شكوك حول فهمه للواقع السوداني: رغم خبرته، تُثار شكوك حول مدى إدراكه للتعقيدات الثقافية والاجتماعية في السودان. تُتهم بعض تحليلاته بأنها مبنية على وجهات نظر غربية قد لا تأخذ في الاعتبار خصوصية السياق السوداني.
ارتباطاته مع حكومة بورتسودان؟ هناك من يرى أن هدسون قد يكون مناصرًا للمسار الذي تتبناه الحكومة المؤقتة في بورتسودان، خاصةً إذا كان يسعى لتسوية تُرضي الأطراف الدولية أكثر من الشعب السوداني.
انتقادات للرجل
عدم التعمق في الواقع السوداني: تشير بعض الأصوات إلى أن هدسون، كشخصية غربية، قد لا يعكس واقع السودان بدقة، بل يعبر عن مصالح دولية تسعى لاحتواء الصراع.
التركيز على التفاوض دون عدالة: يرى بعض المراقبين أن حديثه عن تسوية بين القوات المسلحة والدعم السريع يغفل عن المساءلة والعدالة، مما قد يؤدي إلى حل مؤقت دون معالجة جذور الأزمة.
تأثيراته الدبلوماسية: قد يكون لزيارته تأثير على دفع أطراف النزاع للتفاوض، لكنه يظل في نظر البعض جزءًا من لعبة دولية تُدير الأزمة السودانية دون الاهتمام بمعاناة السودانيين.
احتمالات المستقبل
تُظهر تصريحات هدسون وتكتم الحكومة على زيارته أن هناك تحركات سرية قد تُفضي إلى مفاجآت سياسية. ومع ذلك، يجب أن يظل الشعب السوداني يقظًا لضمان أن أي تسوية تُراعي مصالحه، وليس فقط مصالح القوى الدولية أو أطراف النزاع. الحل السوداني الخالص هو ما يمكن أن يحقق سلامًا مستدامًا يُنهي مأساة الحرب ويعزز الديمقراطية والتنمية.
ويبقى دور كاميرون هدسون في السودان مثيرًا للجدل؛ فهو مراقب بارز وربما مؤثر في الكواليس، لكنه يواجه تحديًا في إثبات فهمه للواقع السوداني وتعقيداته. وعلى السودانيين أن يتعاملوا مع هذه التحركات الدولية بحذر، مؤكدين على حقهم في صياغة مستقبلهم بأنفسهم.
zuhair.osman@aol.com