صناعة الالتباس وحلقة الكذب..إحدى إستراتيجيات الحرب النفسية
تاريخ النشر: 2nd, November 2024 GMT
زهراء الحسيني
مما لا شك فيه أن الحرب النفسية تشكل جزءًا رئيسًا من أي حرب، بل هي الحرب في الواقع، فكل ضربات الميدان العسكري وغيره تهدف في نهايتها لضرب نفسية الخصم ومعنوياته، ولا يخفى أن من تنهار معنوياته أولًا ينهزم أولًا بمعزل عن الإمكانات المادية المتوفرة للطرفين.
ومن الجلي اليوم، أن الساحة الرقمية باتت الميدان الأبرز للحرب النفسية، كسياق بديهي، تستفيد منه المقاومة وأنصارها، ويستثمره العدو وأدواته بطرق شتى قد يبدو بعضها واضحًا، ومعروفًا، وبعضها الآخر له تكتيكاته التي تنطوي على خبث وأساليب غير مباشرة.
أحد الأساليب التي كررها العدو مؤخرًا كان صناعة الالتباس، وهو أسلوب يعتمِدُ كأرضية له حدثًا حقيقيًا وينطلق منه لبناء سردية مختلقة، مستثمرًا في غالب الأحيان فترة من الفراغ أو الغموض البناء الذي تعتمده المقاومة ومحورها خلال أحداث معينة، لأسباب متعددة.
من أبرز الشواهد في الحرب الأخيرة كان حادثة “مجدل شمس” التي حصلت قبل مدة والبروباغندا التي أثارها العدو حينها، وهي حادثة حقيقية موثقة استثمرها العدو ليبني رواية كاذبة حولها فيصنع حالة من الالتباس تجاه المقاومة على عدة صعد.
ولتدعيم الرواية الملتبسة ومحاولة إطالة فترة حياتها، يعتمد العدو أسلوب حلقة الكذب المفرغة ويعول على حلقة الغباء التي تمنحها جرعات أوكسجين دورية ما يمنح الرواية عمرًا أطول قبل أن تلفظ أنفاسها مع ظهور الحقيقة وتفنيدها.
أحد الشواهد أيضًا كان صباح عملية “يوم الأربعين” التي ردت فيها المقاومة بقصف مقر “الوحدة 8200” أحد أهم الرؤوس المدبرة لهذه الأساليب. فجر ذاك اليوم قام العدو بقصف واسع ومكثّف في عدة مناطق في جنوب لبنان. وهو حدث حقيقي، لكنه دُعم برواية ملتبسة مفادها أن العدو قام بضربة استباقية أحبط فيها الهجوم وضرب آلاف منصات الصواريخ المعدة للإطلاق.
وهو الأمر نفسه الذي يتكرر بعد قصف العدو لأماكن معينة. كما ظهر جليًا مؤخرًا في الروايات المختلقة حول الجنرال إسماعيل قاآني قائد فيلق القدس قبل أسبوعين بسبب غيابه عن الظهور في الإعلام.
سرعان ما تدخل هكذا رواية إلى حلقة الكذب: حسابات صحف وقنوات أجنبية تنشرها، حسابات صهيونية ناطقة بالأجنبية والعبرية تروج الرواية، قنوات صهيو- عربية معروفة تنشر الخبر عبر حساباتها، وتستضيف شخصيات معادية للمقاومة تتناول الموضوع ثم تنتشر لهم على وسائل التواصل مقاطع فيديو مقتطعة تدعم السردية الكاذبة، منصات صناعة محتوى تنتج بسرعة مجموعة من مقاطع الفيديو Reels تجتر نفس السردية، مؤثرون وإعلاميون صهيو عرب -وعدد منهم يعمل في القنوات الصهيو عربية- ينشرونها ويعلقون عليها، ثم تعيد حسابات إعلامية “إسرائيلية” نشر الخبر نقلًا عن مصادر عربية ثم تقوم قنوات وحسابات مشبوهة عربية بنشر الخبر نقلًا عن مصادر “إسرائيلية” (قد تكون هي نفسها التي حصلت على الخبر أساسًا من مصادر أجنبية أو عربية).
وأما عن دائرة الغباء التي تدعم دائرة الكذب: فعلى طول الخط تبدأ حسابات ومجموعات الدكاكين الإخبارية التي تهتم بالسكوب على حساب المصداقية، فضلًا عن عدد من المؤثرين والناشطين بتناقل الرواية والمساهمة في نشرها.. على قاعدة اشهدوا لي أنني أول من نشر وعلق.. هذا إن أحسنا الظن. علمًا أن هناك عددًا من الحسابات الإخبارية والحسابات الناشطة هي في الأساس حسابات مشبوهة مختلقة عبر غرف سوداء لخدمة العدو وروايته وأهدافه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
ما ينبغي الالتفات إليه هو أن هذا التحدي بات الآن مضاعفًا، لا سيما بعد رفع المقاومة مستوى الاحتياطات الأمنية لحدودها القصوى، وتقنين المعلومات حول شخصيات وظروف ميدانية معينة، وتجنب تقديم الروايات الكاملة بشكل فوري في حالات معينة ما يخلق دوائر فراغ تستثمرها الجهات المشبوهة سواء للتشكيك، أو التشويه، أو زرع الفتن، أو إشاعة الإحباط، أو حتى لأهداف استخباراتية عبر الضغط لاستدراج الحصول على معلومات حول الشخصية أو الحدث موضوع الرواية الكاذبة.
ولمواجهة صناعة الالتباس ثمة إستراتيجيات ثلاث تبدو ناجعة:
أولها، السرعة في تقديم الرواية الصحيحة من قبل المصادر الرسمية الموثوقة متى ما يكون الأمر متاحًا.
وإلى جانبها جهود الناشطين وصناع المحتوى على اختلاف مستوياتهم في تفنيد الرواية الكاذبة بالأدلة الدامغة وفضح الأكاذيب.
هذا فضلًا عن تقليص دائرة السطحية التي تدعم دائرة الكذب، من خلال رفع مستوى الوعي في التعامل مع الأخبار وعدم نشر أي خبر دون التأكد من صحته ومن وجود مصلحة في نشره.
وبالتالي إذا سلمنا بحقيقة أن الحرب النفسية هي محور النصر والهزيمة، فإن الوعي هو السلاح الدقيق والأقوى في مواجهتها وإعادة توجيهها باعتماد الأساليب المناسبة نحو العدو.
المصدر: يمانيون
إقرأ أيضاً:
المقاومة تستعيد عافيتها ووهمُ الحسم الصهيوني يتبخّر
الكيان الصهيوني المُدجَّج بالسلاح والمال، المتروك طليق اليد، يَعتدي كيفما أراد على الأبرياء العُزَّل في غزة، يَحتل أرضهم، ويقتل أطفالهم ونساءهم، هذا المُعتَدي ينتظر بفارغ الصّبر استلام “ترامب” مقاليد الحكم في الولايات المتحدة لِيمدَّه بمزيد من الدعم والقوة لعله يستعيد بعض الأمل في النصر الحاسم الذي رفعه شعارا للانتصار في معركة “طوفان الأقصى” دون جدوى…
رغم القتل الجماعي والتجويع والتدمير والتخريب، مازال هذا الكيان غير قادر على تحقيق هذا الانتصار “الحاسم” الذي وعَدَ به نفسه والغرب أجمع نكاية في العرب والمسلمين، وهاهو ينتظر التغيير القادم في البيت الأبيض لعله يَجِد مخرجا…
وكأنَّ “الديمقراطيين” الحاكمين اليوم في هذه القوة العظمى قَصَّروا في دعمه بشيء، إن كان سلاحا أو مالا أو “فيتو” على كافة قرارات مجلس الأمن التي تدينه.
في المقابل، هناك، في الطرف الآخر من معادلة الصراع، أصحاب الحق وأصحاب الأرض، بالحدّ الأدنى من القُدرات القتالية، وبِحياة معدومة من كافة المقاومات، وبِتضحياتٍ غير مسبوقة في التاريخ، ومن دون أي دعم خارجي، لا من قريب ولا من بعيد إذا استثنينا الجيش اليمني الذي مازال يُهدِّد العدو في عقر داره، وحزب الله الذي استطاع إشغال العدو في جبهة الشمال طيلة الأشهر الماضية وكَبَّده خسائر بشرية ومادية مُعتبرة…
بكل هذه الظروف مازالت المقاومة الفلسطينية تستطيع المواجهة والصمود، بل تتعافى يوما بعد يوم خاصة في وسط القطاع وجنوبه، وتضرب غلاف غزة بما لديها من صواريخ وقذائف الروكات والآر بي جي، وتقنص الجنود، وتُركِّب الكمائن، وتترك قوات الاحتلال بين قتيل وجريح.
عشية السنة الجديدة اشتبكت المقاومة في بيت حانون مع العدو الصهيوني في معارك وُصفت بـ”الضارية” من قبل وسائل
الإعلام الصهيونية ذاتها، وفي الوقت ذاته أعلنت هيئة البث الصهيونية رصد إطلاق صاروخين من قطاع غزة جرى اعتراض واحد منهما، أما كتائب القسام فأعلنت الإجهازَ عن 5 جنود صهاينة بمخيم جباليا.
واعترفت صحيفة “يديعوت أحرونوت” من جهتها أن “حماس نجحت أخيرا في استعادة معظم قُدراتها بالسيطرة المدنية على مناطق بغزة” كالمواصي والنصيرات وأنها تمكّنت من القضاء على جهات إجرامية كانت تتعاون مع العدو وتسرق قوافل المعونة… بكل ما يعني هذا من عبقرية لدى الشعب الفلسطيني، وبكل ما يعني ذلك بالنسبة للصهاينة من خوف من الهزيمة بعد الفشل في تحقيق الانتصار الحاسم المزعوم… يكفي أن الإرهابي (سموتريتش) بات يُمَنِّي نفسه بما اعتبره “فرصة تاريخية في حكومة يمينية يدعمها ترامب”…
بما يعني أنه رغم الدم والدموع والآلام، يبقى الفلسطيني صاحب الحق واثقا من النصر، ويبقى الصهيوني الظالم يُمنِّي النفس بالدعم الخارجي ليتمادى في ظلمه وهو يعلم يقينا أنَّه لن يحقق أيَّ حسم في معركة “طوفان الأقصى” بعد أن افتُكت منه المبادرة منذ اليوم الأول.
الشروق الجزائرية