عربي21:
2024-12-22@06:26:37 GMT

أمريكا أولا!

تاريخ النشر: 1st, November 2024 GMT

يتهرب المثقفون الأمريكيون المعارضون للسياسة الأمريكية الخارجية دوما من مسؤوليتهم الرئيسة تجاه كوكبنا، لا سيما عندما لا يعيرون أي اهتمام للتأثير الذي سيخلفه تصويتهم في الانتخابات العامة لمرشحين سيكون لسياساتهم وقراراتهم أعظم الأثر على بقية الكرة الأرضية. وتبدو حقيقة أن الولايات المتحدة هي القوة القاهرة التي تسيطر على أغلب بلدان العالم منذ عام 1990، إن لم يكن قبل ذلك، غير ذات أهمية بالنسبة لهؤلاء الأمريكيين الذين يتظاهرون بالكوزموبوليتانية أو حتى بانتمائهم إلى العالم ككل وليس فقط إلى دولتهم.

فعادة عندما يدور الحديث عن كوكبنا بوصفه "قرية عالمية"، لا تتم الإشارة إلى أن الولايات المتحدة تهيمن على هذه "القرية". وفي ظل نظام الفصل العنصري العالمي الذي نعيش فيه، لا يحق سوى للأمريكيين بالتصويت للقوة التي تسيطر على بقية العالم، وهي حقيقة لا ينكرها إلا قلة من هؤلاء المثقفين والأكاديميين "العالميين"، ولكنهم عندما يقومون بالمشاركة في الانتخابات الأمريكية العامة فإنهم يهتمون في المقام الأول بالتأثير الذي قد تخلفه أصواتهم على الولايات المتحدة حصريا.

لقد ظللتُ لعقود من الزمان أُسائل هؤلاء المثقفين والأكاديميين الذين يتظاهرون بالعالمية؛ كيف يمكنهم عندما يشاركون بالانتخابات أن يأخذوا في الاعتبار فقط تأثير سياسات الحزب الديمقراطي أو الجمهوري على الشؤون الداخلية التي تؤثر على نحو 345 مليون أمريكي، مقارنة بسياسات الحزبين العالمية والتي تؤثر على 8 مليارات نسمة من سكان الأرض.

الواقع يكشف زيف "النزعة العالمية" التي يتظاهر بها هؤلاء المثقفون والأكاديميون، والذين يدّعون بأنهم "مواطنو الكرة الأرضية" وليسوا فقط أمريكيين، خاصة بعد تنامي اهتمامهم في العقدين الأخيرين بأزمة المناخ. إلا أن هذه النزعة العالمية تتلاشى في كل مرة يشاركون فيها في الانتخابات العامة، حيث يظهر بوضوح انحيازهم للمصالح المحلية القومية، ودعمهم المطلق لمبدأ "أمريكا أولا"
الجواب الجاهز دائما وأبدا هو أن كلا الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة يتبنيان سياسات إمبريالية على المستوى العالمي، بينما ينحصر الخلاف بينهما في القضايا الداخلية. من هنا، يظهر خيار التصويت لصالح "الشر الأقل" وكأنه استراتيجية مبررة، حيث يتم الدفاع عن هذا الخيار كخير مطلق بغية التغلب على "الشر الأكبر". غير أن هذا المنطق يغض الطرف عن مصير مليارات البشر حول العالم الذين تخضعهم الولايات المتحدة لهيمنتها وتقمعهم بشكل مباشر أو غير مباشر، مقابل تحقيق بعض الإصلاحات الداخلية التي تمسُّ فقط شريحة من الطبقة الوسطى في أمريكا، والتي تعد، إلى جانب الأثرياء الأمريكيين، المستفيد الرئيس من السياسات الإمبريالية التي تفرضها الولايات المتحدة عبر القمع والاستغلال على شعوب العالم الأخرى.

هذا الواقع يكشف زيف "النزعة العالمية" التي يتظاهر بها هؤلاء المثقفون والأكاديميون، والذين يدّعون بأنهم "مواطنو الكرة الأرضية" وليسوا فقط أمريكيين، خاصة بعد تنامي اهتمامهم في العقدين الأخيرين بأزمة المناخ. إلا أن هذه النزعة العالمية تتلاشى في كل مرة يشاركون فيها في الانتخابات العامة، حيث يظهر بوضوح انحيازهم للمصالح المحلية القومية، ودعمهم المطلق لمبدأ "أمريكا أولا".

كان المعارض الأمريكي المناوئ للإمبريالية نعوم تشومسكي قد زعم ذات مرة باستخفاف أنه لا يمكن لأي شعب تهيمن عليه الولايات المتحدة في عالمنا أن يهزم الإمبراطورية الأمريكية ومندوبيها الاستعماريين في أوروبا، وأن المعارضة الناجحة للسياسات الإمبريالية لا يمكن أن تأتي إلا من الأمريكيين ومن شعوب أوروبا الغربية: "ليس هنالك سوى بعض الخيارات الواقعية القليلة في العالم كما هو قائم، ما لم تصل شعوب القوى الكبرى إلى مستوى من الحضارة يتجاوز أي شيء نراه الآن وتكبح جماح عنف الدول التي تهيمن على النظام الدولي". وأضاف بقدر كبير من الثقة: "أما بالنسبة لحركات التحرير في العالم الثالث في فترة الستينيات، فلم أكن أعتقد أبدا أن بمقدورها أن تقدم أي دروس مفيدة للاشتراكيين الغربيين".

ورغم أن تشومسكي أعلن هذا الكلام في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، فإن كلامه هذا جزء من نقاش مهم يعود تاريخه على الأقل إلى العقد الأول من القرن العشرين حول أهمية حق تقرير المصير للشعوب المستعمَرة، وما إذا كان نضالها ضد الاستعمار والإمبريالية هو النضال الأساسي الذي من شأنه أن يساعد في هزيمة الإمبراطوريات الاستعمارية. وكان الجزء الأكثر إثارة للاهتمام في هذا النقاش حول المسألة الاستعمارية قد جرى في أوائل عشرينيات القرن العشرين داخل الأممية الشيوعية، وتركز النقاش حينها حول مسألة "أرستقراطية العمل"، أي الطبقة العاملة في الدول الإمبريالية والاستعمارية، والتي، كما زعم الناشط الشيوعي الهندي مانابيندرا ن. روي، لن تكون أبدا حليفة للعمال والفلاحين في البلدان المستعمَرة، حيث كانت القوى الإمبريالية ترشو طبقاتها العاملة بالأرباح التي تجنيها في المستعمرات.

ففي حين اعتمدت السياسة السوفييتية في هذه الفترة على توقعها بانتصار الثورات الاشتراكية وسيطرتها على الدول الاستعمارية الأوروبية، والتي من المفترض أنها بعد نجاح ثوراتها ستساعد في تحرير المستعمَرات (وهو الموقف الذي أعاد السوفييت النظر فيه في عام 1921 بعد هزيمة الثورات الأوروبية واندلاع الانتفاضات المناهضة للاستعمار في جميع أنحاء العالم المستعمَر)، زعم روي أن تحرير العالم المستعمَر هو في الواقع الشرط المسبق والضروري لتحرير العالم المستعمِر، وهو الموقف الذي كان متسقا مع موقف فلاديمير لينين بشأن هذه المسألة، لكن الأخير لم يضعه كشرط مسبق.

وقد تبنى هذا الموقف أيضا المفكر المناهض للاستعمار فرانز فانون الذي أدرك في أوائل ستينيات القرن العشرين أن المستعمَرين (بفتح الميم) وحدهم هم القادرون على هزيمة النهب الإمبريالي المستمر الذي يمارس على طول وعرض الكرة الأرضية، وخاصة في ظل تواطؤ الليبراليين والاشتراكيين البيض في البلدان المستعمِرة، والذين هم، مثل أرستقراطية العمال البيض، مستفيدون مباشرون من النظام الإمبريالي: "ابتعدوا عن أوروبا هذه التي لا تتوقف أبدا عن الحديث عن الإنسان، في حين تقتل البشر أينما وُجدوا، في كل زاوية من من شوارعها، وفي كل بقعة من بقاع الأرض". وأضاف فانون: "قد تجد بعض الأوروبيين الذين يحثون العمال الأوروبيين على تحطيم هذه النرجسية والانفصال عن هذا الوضع غير الواقعي، ولكن بشكل عام، لم يستجب عمال أوروبا لهذه الدعوات؛ لأن العمال يعتقدون أيضا أنهم جزء من المغامرة الهائلة للروح الأوروبية".

أستشهد بهذا التاريخ لإظهار أن العديد من الشيوعيين في عشرينيات القرن العشرين، مثل معظم الليبراليين والاشتراكيين البيض حينئذ كما اليوم، كانوا يضمرون مثل هذه المركزية الأوروبية؛ وكانوا دائما على استعداد للتضحية بمصير بقية العالم في سبيل انتصار الثورات الأوروبية في حالة الشيوعيين، أو الإصلاح المحلي في حالة الليبراليين، أو حتى الأناركيين مثل تشومسكي، في الولايات المتحدة.

كيف يمكن للمرء أن يفسر التعاون المستمر بين المثقفين الليبراليين واليساريين، وخاصة الأكاديميين منهم، في الغرب، مع النظام الإمبريالي واحتقارهم لبقية العالم أو إهمالهم وتجاهلهم له على الأقل؟ لماذا ما يحركهم اليوم هي مسألة المناخ، وليس الإبادة الجماعية والمجاعات والفقر والحروب الإمبريالية الهمجية حول العالم؟
كيف يمكن للمرء أن يفسر التعاون المستمر بين المثقفين الليبراليين واليساريين، وخاصة الأكاديميين منهم، في الغرب، مع النظام الإمبريالي واحتقارهم لبقية العالم أو إهمالهم وتجاهلهم له على الأقل؟ لماذا ما يحركهم اليوم هي مسألة المناخ، وليس الإبادة الجماعية والمجاعات والفقر والحروب الإمبريالية الهمجية حول العالم؟

الإجابة بسيطة، إن تأثير أزمة المناخ التي ورثناها كنتيجة مباشرة لأفعال وسياسات الولايات المتحدة وأوروبا، محسوس الآن أيضا في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وهاتان المنطقتان هما الشغل الشاغل الرئيس للأكاديميين، والمثقفين الليبراليين، واليساريين الأمريكيين والأوروبيين. أما حيلتهم التي تدعي بأن اهتمامهم بقضية المناخ يجعل منهم "مواطني الكرة الأرضية" فليست أكثر من أحدث زعم من مزاعمهم الكاذبة بالعالمية، في حين أنها ليست أكثر من دليل إضافي على ضيق أفقهم وقوميتهم العنصرية.

قد يتصور البعض أن الامتيازات العرقية والقومية التي تمنح الناخبين الأمريكيين القدرة على تقرير مصير العالم وسكانه البالغ عددهم 8 مليارات نسمة قد تكون محط اهتمام لدى الأمريكيين الذين يعتبرون أنفسهم مناهضين للقومية والإمبريالية، أو يعرّفون أنفسهم ببساطة كمواطنين عالميين. لكن الواقع بعيد كل البعد عن هذا التصور؛ فما يجمع الناخبين الليبراليين واليساريين في الولايات المتحدة مع نظرائهم من اليمين في انتخابات هذا العام، هو نفس ما وحّدهم دائما: "أمريكا أولا، ومن بعدنا الطوفان!"

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الانتخابات إمبريالية اليمين امريكا انتخابات اليسار اليمين إمبريالية مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة مقالات سياسة رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی الولایات المتحدة القرن العشرین الکرة الأرضیة فی الانتخابات أمریکا أولا

إقرأ أيضاً:

الإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة: أزمة سياسية أم ورقة ضغط؟

ديسمبر 21, 2024آخر تحديث: ديسمبر 21, 2024

المستقلة/- في مشهد متكرر يعكس التوترات السياسية داخل الولايات المتحدة، أُعلنت الحكومة الفيدرالية الإغلاق رسميًا بعد فشل التوصل إلى اتفاق على قانون تمويل مؤقت في الوقت المناسب. ويأتي هذا الإغلاق، الذي بدأ في منتصف الليل بتوقيت واشنطن، ليضيف حلقة جديدة إلى سلسلة الأزمات التي هزت الإدارة الفيدرالية الأمريكية منذ عام 1976.

الإغلاق الحالي يُعد نتيجة مباشرة للخلافات السياسية الحادة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، حيث يشترط الرئيس السابق دونالد ترامب على الديمقراطيين إلغاء سقف الدين الوطني أو زيادته بشكل كبير مقابل تمرير قانون الميزانية المؤقتة. هذه المطالب، التي وصفتها الإدارة الحالية بأنها محاولة من الجمهوريين لفرض الإغلاق الحكومي، تعكس عمق الانقسام السياسي في البلاد.

الإغلاق الحكومي له تأثيرات واسعة النطاق على المواطنين الأمريكيين، حيث يتوقف العمل في العديد من المؤسسات الفيدرالية، مما يعطل الخدمات الأساسية ويؤثر على ملايين الموظفين الفيدراليين الذين قد يُجبرون على العمل دون أجر أو يأخذون إجازات غير مدفوعة.

ومن اللافت أن الإغلاق الحالي ليس الأول من نوعه، فقد شهدت الولايات المتحدة 21 حالة إغلاق حكومي منذ عام 1976. أطول هذه الإغلاقات كان في عهد دونالد ترامب خلال عامي 2018 و2019، واستمر 35 يومًا، مما تسبب في شلل كبير في القطاعات الحكومية وأثار جدلًا واسعًا حول فعالية هذا النوع من الضغوط السياسية.

السؤال المطروح الآن: هل سيوقع الرئيس جو بايدن على مشروع قانون الميزانية المؤقتة لإنهاء الإغلاق قبل يوم الاثنين؟ أم أن الأزمة ستستمر، مما يزيد من معاناة المواطنين الأمريكيين؟

في خضم هذه الأزمة، يبقى الإغلاق الحكومي رمزًا للتجاذبات السياسية التي غالبًا ما تكون تكلفتها باهظة على الشعب الأمريكي، سواء من حيث الاقتصاد أو الثقة في أداء الحكومة.

مقالات مشابهة

  • الحرب بين الولايات المتحدة والصين تتجه نحو التوسع
  • QNB: التضخم في الولايات المتحدة الأميركية يتباطأ في عام 2025
  • العالم يتغير بعد الحرب الأوكرانية: أوروبا قد تخسر أمريكا.. والصين تربح روسيا
  • الولايات المتحدة تعقد صفقة مع الشركة المصنعة للطائرة التي رصدت السنوار
  • الإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة: أزمة سياسية أم ورقة ضغط؟
  • استخدموا مواردكم لتخفيف معاناة السودان وليس تعميقها.. بلينكن يعلن هذا الإجراء الذي ستتخذه الولايات المتحدة حيال الأمر
  • الولايات المتحدة تفرض عقوبات على كيانات إيرانية والحوثيين في تصاعد للتوترات.. العقوبات تهدف إلى تعطيل تدفق الإيرادات التي يستخدمها النظام الإيراني لتمويل الإرهاب في الخارج وللقمع الداخلي لشعبه
  • أمريكا: باكستان تطور صاروخا يستطيع ضرب الولايات المتحدة
  • سيارتو يوضح سبب استثناء الولايات المتحدة لـ "غازبروم بنك" من العقوبات
  • باحث: الغارات الإسرائيلية في اليمن جاءت بعد التنسيق مع أمريكا| فيديو