ثمة رحلة للعودة تتم عند كثيرين منا، طال غياب هذه العودة، أو أنجزها أحدنا في عمر مبكر، وهي عودة، يقينا، لن تكون إلى المربع الأول، حيث النشأة البكر، والبدايات الأولى لعمر التَكَوِّنْ، لمختلف مشاريعنا في الحياة، وإنما إلى مربعات أكثر نضجا، وأكثر تراكما لخبرات الحياة، فالعودة هنا، تعني تحقق قناعات جديدة، ومواقف أكثر عقلانية، وقرارات، ربما، أكثر جرأة، عودة – كما يفترض لها – أن تكون عن كثير من الممارسات والسلوكيات غير السوية، وغير المتوافقة مع تقدم العمر، والقناعات، عودة يفترض أن تفتح ملفات جديدة، فيها من الحكمة، والتعقل، والاتزان، ومحاسبة النفس، التي تتشيطن على طول الخط الأفقي للعمر، دون خجل، أو عتاب، أو أنه ضمير في كثير من جوانب هذا التشيطن، إنها عودة التائب، عودة المحتسب، عودة من تيقن «كمن لا ذنب له».
ولذلك أعيب كثيرا على من تقدم به العمر وتجربة الحياة، وهو لا يزال على سلوكيات طفولته الأولى، وقد قيل: «عمر الشبيبة يبدي عذر صاحبه، ما بال شيبة يستهويه شيطان» مع أن رحلة العودة، ليست شرطا أن يصل فيها الواحد منا إلى مرحلة الـ«شيبة» حتى يبدأ في احتساب خطوات عودته، نحو ما يراه صوابا، فهذا أمر مطالب فيه الفرد بأن يكون أكثر قربا من ذاته، ليعيش معها معركة تجلية الصواب من الخطأ، ومن ثم اتخاذ قرار العودة، صحيح، أن هذه المسألة ليست هينة، وليس من السهولة بمكان أن يتخذ أحدنا قرار العودة إلى حيث الصواب بمجرد خضوع لتفكير طارئ في لحظة ما، فكما أتصور أن المسألة تحتاج إلى مجادلة مع الذات، بل الدخول في معركة حامية الوطيس، فرحلة العودة هذه قد تفقدنا الكثير من مباهج الحياة ورونقها غير المنضبط بالقيم السامية، وفي مقدمتها قيم الدين، وقد تفقدنا بعض من نعز، أو بعض أصدقائنا، خاصة أولئك الذين يقيمون ملامح التغيير الطارئة على أن فيها شيئا من الكلفة غير الضرورية، فالعودة هنا تشتمل على تغيرات كثيرة في العلاقات، وفي السلوكيات، وفي المواقف، وفي القناعات، وهذه لها أثمان، وقد تكون باهظة، خاصة عندما يكون الفقد فيها لأشخاص زاملتهم زمنا، واصطحبتهم أزمانا. وهل لا بد من فقد من نعز في رحلة العودة؟ هو ليس شرطا، ولكن قد يكون أحد الأثمان، خاصة إذا كانت العودة منه غير متوافقة مع قناعات الآخرين، الذين يرون فيما يفعلون صوابا، لا خطأ، بينما أنت تراه خطأ لا صوابا، مع أن غالبية رحلات العودة هي تراجع عن خطأ، وتصويبا نحو مسارات آمنة، خاصة أيضا عندما يتوقع من هذه المسارات أنها نحو المآلات الأخروية لما بعد الحياة، حيث لا ينفع قريب أو صديق، والشاهد أكثر أن من يعانق خطأ ما، وتتأصل قناعته بأن ما يقوم به – في نظر نفسه – صحيحا، فهذا ليس من السهولة بمكان أن يخضع لقناعة شخص آخر يرى غير ذلك، فمن مثل هؤلاء من يسارعون في القطيعة عندما تبدأ رحلة عودتك نحو الصواب، كما تعتقد. تتخذ رهانات رحلة العودة، غالبا، قناعات أكيدة بصحة التوجه، وتوقظ في النفس همة المسارعة، وعدم التأخير، خوف تساقط حبات العقد «أيام العمر» بأكثر سرعة مما هو متوقع، فمتى انفرط العقد، تساقطت حباته واحدة تلوى الأخرى، تتجاوز الحسابات التي نعتقد أن هناك مهلة تتيح لنا المراجعة أكثر، فجملة: «العمر مجرد رقم» تظل مقولة حق، ومآلاتها باطلة، مهما استمات الناس في الدفاع بخلاف ذلك. |
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: رحلة العودة
إقرأ أيضاً:
عودة إلى الرماد.. مأساة النازحين في شمال غزة بعد أكثر من عام من الحرب
وسط أنقاض المنازل المدمرة والذكريات التي اختلطت بالغبار، عاد النازحون إلى شمال غزة بعد أكثر من عام من التهجير القسري، ليجدوا أن ما كان يومًا وطنًا لهم قد تحول إلى خراب، فالعودة إلى الديار لم تكن كما تمنوها، بل حملت معها صدمة الفقدان وألم الفراق، حيث لا مأوى ولا حياة، فقط بقايا ذكريات وأشلاء ماضٍ تحطمت تحت القصف.
رحلة البحث عن المفقودين
الدمار في الشمال كان هائلًا، حيث تشير إحصائيات المكتب الإعلامي في غزة إلى أن 500 ألف فلسطيني عادوا إلى مناطقهم خلال 72 ساعة من فتح ممر نتساريم، ليجدوا أن شمال القطاع أصبح شبه خالٍ من الحياة.
الطريق إلى الدمار
قطع النازحون مسافات طويلة سيرًا على الأقدام، في ظل انعدام وسائل النقل، وسط مشاهد مأساوية من جثث متحللة وطرق مدمرة.
لا ماء.. لا مأوى.. لا حياة
الوضع الإنساني في الشمال كارثي. مدير مستشفى العودة في تل الزعتر، محمد صالحة، أكد أنه لا توجد حتى الآن مخيمات لإيواء العائدين، وأن كثيرين يحاولون ترميم منازلهم المتضررة رغم الدمار الشامل.
من جانبها، أروى المصري، التي نزحت من بيت حانون، تحدثت عن رحلة أقاربها إلى الشمال، قائلة: "عندما عادوا، صُدموا بحجم الدمار.. لا ماء، لا طعام، لا حياة".
الحصار الإسرائيلي على القطاع عمّق الأزمة، خاصة مع منع الأونروا من العمل، مما يهدد آلاف النازحين بالجوع والتشرد في غياب أي بدائل للسكن أو الإغاثة.
لم يبقَ أحد مأساة عائلة عمارة
بينما كان خميس وأحمد يتفقدان ما تبقى من منزلهما، كانا يعيدان حسابات الفقدان، حيث نجا 11 فردًا فقط من أصل 60 من عائلتهم، وأجبرتهم الأوامر العسكرية الإسرائيلية على الفرار إلى جنوب غزة، وحين عادوا وجدوا أن كل شيء قد انتهى.
ويروي خميس اللحظات الأخيرة التي جمعته بزوجته وطفلته حديثة الولادة، قائلًا: "انتظرتُ طويلًا حتى أنجب طفلتي، لكنها اختفت مع والدتها في غارة جوية.. حتى القبور التي دفناهم فيها لم تسلم من التدمير".
عودة بطعم الخيبة
العودة إلى شمال غزة لم تكن نهاية رحلة العذاب، بل بداية فصل جديد من الألم، حيث وجد النازحون أنفسهم وسط مدينة أشباح، بلا مأوى، بلا ماء، بلا مستقبل واضح.