تنسيقية تقدم السودانية: تأسيس منصة شاملة لإيقاف الحرب خلال أسابيع
تاريخ النشر: 1st, November 2024 GMT
كشف الناطق الرسمي باسم حزب التحالف الوطني السوداني وعضو تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية "تقدم"، شهاب إبراهيم الطيب، عن أن القوى المدنية تسعى لتأسيس منصة شاملة لإيقاف الحرب الدائرة في بلاده، لافتا إلى أنه ربما يتم الإعلان عن تلك المنصة بشكل رسمي خلال شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري أو كانون الأول/ ديسمبر المقبل.
وقال، في مقابلة خاصة مع "عربي21": "نحن نقوم بجهود وتحركات حثيثة من أجل تأسيس هذه المنصة الشاملة، وينبغي على المجتمع الدولي والإقليمي دعم هذه الجهود، وإلا فإننا قد نواجه سيناريوهات تقسيم محتملة إذا لم تُمارَس ضغوط كافية على الأطراف المعنية".
وأكد عضو تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية "تقدم"، أن "المشهد السوداني اليوم يشهد تحولات داخلية وخارجية كبيرة، والمواقف الإقليمية والدولية تشير إلى أن هذه الأزمة تتجه من حرب تفاهمات إلى حرب تحالفات، في ظل تحولات إقليمية متسارعة."
ونوّه الطيب إلى أن "استمرار الحرب لأكثر من 18 شهرا خلق تحوّلات هامة لا يمكن تجاهلها عند وضع أي خطة للسلام، ولا يمكن لأي اتفاق سلام أن ينجح دون اتخاذ إجراءات وضغط حقيقي على الجيش وقوات الدعم السريع."
كما أضاف الطيب: "نحن كقوى مدنية نعمل لتحقيق مصالح الشعب بأدوات سلمية ومدنية، لكن في أجواء الحرب يتراجع دور المدنيين لصالح خطاب الحرب"، لافتا إلى أن "التنسيقية تحاول إقناع الجيش والدعم السريع بضرورة إيجاد حلول تفاوضية لإيقاف الحرب، من خلال نقاشات مستمرة حول مخاوفهم وطموحاتهم لإعادة الحياة الطبيعية للسودانيين".
وأكد أن الحلول الدبلوماسية "لن تنجح ما لم تستند إلى أولويات الشعب السوداني وتمنح القوى المدنية دورا واضحا"، مُحذّرا من أن "الاعتراف بشرعية الأطراف العسكرية سيُعقّد الأزمة، ويجعل أي اتفاق مجرد وقف مؤقت للقتال دون تحقيق سلام دائم".
وتاليا نص المقابلة الخاصة مع "عربي21":
كيف ترون واقع المشهد العام في السودان اليوم؟
الحرب في السودان تشهد تحولات داخلية وخارجية عديدة وكبيرة ابتداءً من ظهور قيادات النظام الساقط وتصعيده لخطاب يدعو إلى التقسيم واستعادة تحالفاته الراديكالية في الإقليم، وكذلك من الواضح أن الحرب حسب المواقف الدولية والإقليمية تتجه من حرب تفاهمات إلى حرب تحالفات على ضوء التحولات والقضايا الإقليمية المتفاقمة.
في الواقع، هناك طرف أشعل الحرب ويسعى بكل السبل لاستمرارها، وهناك اختطاف لقرار الجيش السوداني من قِبل النظام البائد، والصراع ليس صراعا حول الشرعية؛ لأننا نعتقد أن شرعية الجيش و"الدعم السريع" قد سقطت تماما منذ الانقلاب الذي قاما به معا في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، وليس هناك مَن يُمثل الدولة في الوقت الراهن، وإذا كان هناك تمثيل حقيقي للدولة فهو يصب في صالح الحكومة المدنية التي جرى الانقلاب عليها عام 2021.
البعض يرى أن استمرار الحرب في السودان مرهون فقط بالطموحات السياسية للبرهان وحميدتي.. ما تعقيبكم؟
من المؤكد أن طموحات الجنرالات أحد الأسباب الثانوية، ولكن هذه الحرب هي امتداد لمحاولة القضاء على مشروع التغيير، وهذا يُعبّر عن عدم رغبة النظام القديم في أي مشروع للإصلاح البنيوي للدولة عطفا على ذلك رغبة المؤسسة العسكرية الدائمة في التأثير على الحياة المدنية والسياسية، بالإضافة إلى رفض بعض دول الإقليم لمشروع التغيير في السودان نتيجة للمصالح الاقتصادية باستغلال الموارد في بلادنا والسيطرة على الإرادة الوطنية للسودانيين، وهو ما قادنا في نهاية المطاف إلى الحرب الحالية.
ما هي طبيعة العلاقة الراهنة بينكم وبين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع؟
نحن كقوى مدنية نسعى لتحقيق مصالحنا بأدواتنا السلمية. ومن المعروف أن الحروب تحد من دور المدنيين وتُسيطر فيها لغة الحرب. نحاول إقناع الجيش وقوات الدعم السريع بضرورة إيجاد حلول تفاوضية توقف الحرب وتعيد للسودانيين حياتهم الطبيعية وتمنح القوى المدنية دورها. نتواصل بشكل مستمر مع قيادات الجيش والدعم السريع، ونتحاور معهم حول مخاوفهم وطموحاتهم.
وفي الوقت ذاته نرى أنه لا بد من ممارسة ضغوط كبيرة على الجيش وقوات الدعم السريع، مع الأخذ بعين الاعتبار أن استمرار الحرب لأكثر من 18 شهرا أدى إلى تحولات لا يمكن إغفالها عند صياغة أي خطة للسلام.
ما رأيكم، فيما يتردد عن حدوث انشقاق في صفوف قوات الدعم السريع وانضمام بعضهم للجيش السوداني؟
أي جهة تتابع تطورات هذه الحرب ستتوقع تصدعات في صفوف القوى المتحاربة نتيجة تضارب المصالح أو انحيازات مناطقية وإثنية، وهذا يضيق من الخيارات المدنية ويقود إلى انقسامات جغرافية وقبلية، مما يُمهّد الطريق لحرب أهلية شاملة.
هل يمكن أن تنجح المحاولات الدبلوماسية الجديدة في تحقيق تقدم نحو وقف الأعمال العدائية؟
لن تنجح أي جهود دبلوماسية أو سياسية لأن أغلبها لا تستند إلى أولويات الشعب السوداني. إذا لم تتضمن دورا واضحا للقوى المدنية ولم تمارس الضغوط اللازمة على أطراف الحرب، فإن أي اتفاق قد يوقف الحرب مؤقتا، لكنه لن يحقق سلاما مستداما.
كيف ترون تعدد المنابر والتدخلات الخارجية لحل الأزمة السودانية؟
تعدد المنابر قد يعطي الأطراف المتحاربة فرصة للمراوغة وتخفيف الضغوط، لذلك يجب توحيد الجهود الإقليمية والدولية في إطار موحد يدعم السلام وإيقاف الحرب وفقا لرغبات الشعب السوداني.
هل يحتاج الأمر إلى ضغوط أقوى من القوى الدولية على الأطراف المتحاربة لوقف الحرب؟
نعم، السلام يتطلب ضغوطا كبيرة على أطراف النزاع، إضافة إلى تفاهمات إقليمية ودولية. كما يجب عزل النظام السابق عن التأثير على قرار قيادة الجيش، والضغط على قيادة الدعم السريع.
ويجب على الطرفين (الجيش والدعم السريع) أن يتجاوزا فكرة شرعية تمثيل سلطة الدولة، والذهاب نحو انتخابات حقيقية، لأنهما بلا أي شرعية من الأساس، ولا بد من جلوس الجيش مع "الدعم السريع" من أجل الوصول إلى حلول تفاوضية تنهي الحرب اليوم قبل الغد، لأن معاناة الشعب السوداني تتفاقم كثيرا مع استمرار تلك الحرب الوحشية.
لماذا لا يقوم مجلس الأمن بتحديد الدول التي يتهمها بالتدخل في السودان وإدانتها؟ وكيف ترون الاتهامات الموجهة للإمارات ومصر؟
يجب على المجتمع الدولي والإقليمي تحمل مسؤولية عزل التأثيرات التي تدفع نحو استمرار الحرب أو عودة "المؤتمر الوطني".
هل يبدو هناك تناقض واضح بين توالي المؤتمرات الخاصة بسلام السودان واستمرار المعارك على الأرض؟
تعدد قنوات التدخل لا يحقق السلام، بل يُعقّد الأمور نظرا لتضارب الأجندات. معظم هذه المؤتمرات لا تتناول جذور الأزمة ولا تحدد الأطراف الحقيقية، مما يعرقل أي جهود جادة لتحقيق اتفاق سلام.
إلى أي مدى نسي العالم مأساة السودانيين في ظل العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان؟
الأزمة السودانية تتطلب اهتماما دوليا جادا، حيث إن السودان مُحاط بدول تعاني من أوضاع هشة، والحرب في السودان ستؤثر على هذه الدول بشكل مباشر.
هل يمكن أن تشكل أزمة اللاجئين السودانيين هاجسا إقليميا ودوليا إذا تفاقمت الأوضاع؟
الأزمة تشكل الآن عبئا على المجتمع الدولي ودول الجوار، إلى جانب تدهور أوضاع النازحين داخليا وانتشار الأمراض ونقص الغذاء والخدمات. يجب التدخل سريعا في المجال الإنساني بعيدا عن مسار الحرب.
ما هو تقييمكم للدور الأمريكي والسعودي في إنهاء الصراع في السودان؟
نحاول تعزيز الدور السعودي الأمريكي، إلا أننا نرى أن هناك حاجة لنهج أعمق وأكثر توافقا مع دعوات استعادة دور المدنيين بعد وقف الحرب، وهذا يتطلب التشاور المتزايد مع القوى المدنية.
متى تتوقعون أن تنتهي الحرب في السودان؟ وكيف؟
يمكن إنهاء الحرب بمحاولة القوى المدنية تأسيس منصة شاملة لإيقافها، وهو ما نسعى إليه بالفعل، ونحن نقوم بجهود وتحركات حثيثة في هذا الصدد، وينبغي على المجتمع الدولي والإقليمي دعم هذه الجهود، وإلا فإننا قد نواجه سيناريوهات تقسيم محتملة إذا لم تُمارَس ضغوط كافية على الأطراف المعنية، ونحن نؤكد أن هذه الحرب -التي لن يخرج أحدا منها منتصرا- ربما تفتح الباب للتدخلات الدولية والإقليمية ويصبح السودان منطقة صراع نفوذ دولي وإقليمي حال تفاقم الأوضاع وتدهورها بشكل أوسع.
ما تفاصيل التحركات الرامية لتأسيس منصة شاملة لإيقاف الحرب؟ ومتى سيتم الإعلان عن تأسيسها؟
حسب الرؤية السياسية المُجازة في المؤتمر التأسيسي لتنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية (تقدم)، أُجيزت الدعوة لعقد مؤتمر يُسمى "المائدة المستديرة"، يُفتح فيه حوار حول قضايا البناء الوطني، بما يُعد تأسيسا ثانيا للدولة بعد الاستقلال في عام 1956. يهدف هذا الحوار إلى توسيع النقاش ليشمل قوى مدنية وحركات كفاح مسلح ليست جزءا من "تقدم"، وقد بدأت "تقدم" بالفعل في فتح حوار مع حزب البعث العربي الاشتراكي، والمؤتمر الشعبي، والحزب الاتحادي الأصل، والحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال بقيادة عبد العزيز الحلو، وحركة جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور، إضافة إلى شخصيات ومجموعات مدنية رافضة للحرب.
وبناءً على هذه الحوارات، التي تؤسس لقيام "المائدة المستديرة"، تم تشكيل منصة للحوار بين القوى المدنية، ومن المتوقع أن يتم التنسيق والحوار عبر هذه المنصة لتحضير الأطراف التي يمكن أن تشارك في المائدة المستديرة، وكذلك لتحديد أجندة الحوار ومراحله، على أن تُعقد خلال شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري أو كانون الأول/ ديسمبر المقبل.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات سياسة دولية مقابلات السوداني الشعب السوداني السودان حميدتي البرهان الشعب السوداني تنسيقية تقدم المزيد في سياسة مقابلات مقابلات مقابلات مقابلات مقابلات مقابلات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة على المجتمع الدولی وقوات الدعم السریع الحرب فی السودان الشعب السودانی استمرار الحرب القوى المدنیة لإیقاف الحرب إلى أن
إقرأ أيضاً:
قراءة في نص “تأسيس” نيروبي: الأصولية العلمانية (2-2)
عبد الله علي إبراهيم
علمانية الدولة
بدا أن جائزة عبدالعزيز الحلو التي أغرته بـ"تأسيس" هو قبولها بغير شيء من ضرب الأخماس في الأسداس أن تنص وثيقتها صريحاً على مطلب "علمانية الدولة" (في الديباجة) كما لم يفعل عهد سوداني من قبل. وعلمانية الدولة عقيدة مؤثلة للحلو اضطر أحياناً إلى استبدالها بـ"فصل الدين عن الدولة" في وثائق وقعها مع طيف واسع من الأحزاب السودانية وحتى مع الفريق ركن عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة عام 2021. وطالما هبت الريح علمانية ناحيته جاء الحلو إلى الوثيقة بمطلب أذاعته حركته وهو أن ينص الدستور القادم على "مبادئ فوق دستورية" مثل العلمانية وهي التي لا تخضع للتعديل مثل غيرها التي ينص الدستور على إجراءات تعديلها. فهذه المبادئ فوق الدستورية في الحفظ والصون ومتى أراد أحد تغييرها صار من حق الجماعات السودانية المتضررة نفض يدها عن البلد بممارسة حق تقرير المصير (الباب الأول المادتان 3 و7).
ومع اقتناع كثر بأن فصل الدين عن الدولة بصورة أو أخرى أزف بدليل أنه ورد مكرراً تكراراً مزعجاً في وثيقة "اتفاق سلام جوبا" إلا أن إصرار الحلو على "توثين" علمانية الدولة، توثيناً يعتزل بها الصراع السياسي الذي قد ينال من العلمانية وحتى الديمقراطية، فهو حال استثنائية في عبادة مبدأ سياسي خلت منه المبادئ. وبدا من الحلو من فرط هذا التوثين أنه مصاب بـ"الأصولية العلمانية" التي حذرنا منها جون إسبسيتو الأستاذ بجامعة "جورج تاون"، تحذيره من الأصولية الدينية. فمعرفتنا الراهنة بالدين في رأيه هي "بنت ضغينة علمانية تمكنت من الصفوة الحديثة". فغالباً ما جرى التعامل مع الدين بلا مبالاة أو بعداء صريح. ويقع تحذير "إسبسيتو" من الأصولية العلمانية في سياق مراجعة لعلاقة الدين بالعلمانية انعقدت منذ عقود. فالأكاديمي الأميركي كريق كالهون من المراجعين، صرف من اعتقد أن العلمانية حال خالصة خلت من الدين بالكلية. فقال "غالباً ما أخذنا العلمانية كحالة غياب عما عداها. فهي في اعتقادنا ما يتبقى لنا متى تلاشى الدين لا من السياسة فحسب، بل من الوجود" كما كان مطلب الثورة الفرنسية وممارستها في أول عهدها حتى بدلت الفرنسيين، وإلى حين، ديناً أحسن من دينهم في رأيها.
ونبه نيكلوس كريستوف الصحافي في "نيويورك تايمز" في أعقاب ذيوع العبارة الدينية في عهد الرئيس جورج بوش الابن إلى القطيعة القائمة بين الصحافة الليبرالية و"المهتدين الجدد" من الأميركيين. فيؤمن، إحصائياً، 48 في المئة من الأميركيين، في قوله، بخلق الله للعالم في سبعة أيام بينما يؤمن 28 في المئة منهم بمبدأ داروين. ويعتقد الأميركيون بنسبة الثلثين أو يزيد بوجود الشيطان بأكثر من صدقية نظرية داروين. وتعيش هذه الجماعة المهتدية بمعزل عن الليبراليين في ثقافتها المستقلة. فمن بين أكثر الكتب مبيعاً سلسلة كتب مسيحية عن نهاية الكون وزعت 50 مليون كتاب. ومن بين أكثر مقدمي برامج التلفزيون شهرة داعية إنجيلي يشاهده الناس داخل 190 قطراً في العالم. ومن يرى ليومنا طي خيام الليبرالية بيد إدارة الرئيس ترمب صدق قول من سمى تدين الدولة في عهد بوش بـ"الصحوة الدينية الرابعة" خلال الـ300 عام من عمر أميركا. فاللدين طرائق قدداً في الأوبة بعد الغيبة.
إعادة تأسيس
اتفق لـ"تأسيس" إعادة تأسيس كل القوى العسكرية والأمنية والخدمية المدنية من أول وجديد. فسينشأ بمقتضى وثيقتها جيش جديد مهني وقومي يمثل الطيف السوداني وتحت قيادة مدنية. وهو جيش خلا من الولاءات السياسية والجهوية والإثنية ولا تداخل له في السياسة والاقتصاد. وستكون إعادة الـتأسيس هذه حين يغلب حلف "تأسيس" ويمسك بزمام الدولة (الباب الأول 14). وحتى ذلك اليوم ستحتفظ الجماعات المسلحة الموقعة على "تأسيس" بقواتها العسكرية، أو ما وصفته الوثيقة بالاستمرار في "الكفاح المسلح كوسيلة من الوسائل المشروعة للمقاومة والنضال من أجل التغيير وبناء السودان (الباب الأول 20). فصاروا في حال بخلاء الجاحظ. جلسوا حول قدر ماء يغلي رمى فيه كل واحد منهم بقطعة لحمه مشدودة إلى الخيط لتنضج، فتفرق طعامهم بينما القدر واحد.
وبدا من نص "تأسيس" أن رهاب الإسلاميين "الكيزان" هو ما أوحى حصرياً به. فلم تكتف "تأسيس" بحل حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية وتفكيكهما (الباب الأول 32) بل نصت على تحريم قيام أي حزب أو تنظيم سياسي على أساس ديني. وربما أبعدت الوثيقة النجعة هنا لاعتقادها أن "الكيزان"، الذين أقاموا بالحق نظاماً سياسياً كئيباً، هم آخر من يرغب أن تؤوب الدولة للدين. فلا استنفاد لرغائب أمة من المسلمين ولا لعزائمهم في أن يحكموا دينهم فيهم هم، لا في غيرهم، مما ساحته التشريع المنتظر، أي القنطرة البعيدة لا تزال. وهي القنطرة التي جاءت في الوثيقة بدعوتها الالتزام بمبدأ العمل السياسي السلمي في السودان الجديد على "أسس وقواعد ومبادئ النظام الديمقراطي والشرعية الدستورية" (الباب الأول 19). وبالطبع سارعت الوثيقة في نصها هنا لتجريم "استغلال الدين لأغراض سياسية". وهذا بلا مراء خرق للديمقراطية التي جاءت في النص والتي تقوم على المنافسة من فوق برامج سياسية على مرأى من ناخبين ومسمع. فجذم آصرة الدين عن السياسة هو ما أوقعتنا فيه عبارة "الإسلام السياسي" التي ناسبت خصوم المشروع الإسلامي ليقولوا إن ثمة إسلام آخر غير سياسي، وكفى به.
وساق هذا الرهاب من الإسلام إلى نوع هوس، فلم تكتف "تأسيس" بتحصين العلمانية كمبدأ فوق دستوري يأذن للجماعة المتضررة كما رأينا بالطلاق من الأمة متى جرى انتهاكه، بل سارعت بتجريم حتى قيام الحزب الذي يدعو لغير العلمانية. ولو صح أن تكون المظالم من "نظام الإنقاذ" هي مبلغ علمنا في تدبير شأننا السياسي لجرمت "تأسيس" قيام الأحزاب على أساس إثني. فهول الإثنية والسلالية على السودان ليس أقل من هول الحزب الديني عليه. ولكن لم يطرأ لواضعي "تأسيس" منع قيام الحزبية على الإثنية والقبائلية لأنه ما اجتمع في نيروبي إلا كل ذي عصبية منهما. ويكفي أن بين الموقعين على "تأسيس" ممثل لـ"مؤتمر البجا" وهو شعب في شرق السودان.
تَطَيُر الصفوة من حلف نيروبي وشفقتهم من أن يؤدي إلى تقسيم السودان وظيفة لاكتفائها من الواقعة دون نصها. فمن قرأ "تأسيس" في سياقاته التاريخية وملابساته المعاصرة أشفق على أهله قبل السودان لأنهم صدروا فيه عن غبائن من "الكيزان" كأن نجاة السودان في إلغائهم. فرهنوا بذلك أنفسهم لعادة معارضة الكيزان أو اللوثة بهم، لا يزال، بينما استحق السودان جرأة في تخيله تضع "دولة الإنقاذ" حيث هي في ذمة التاريخ مهما بدا من انتفاش منها يحاكي صولة الأسد. فمن شأن قراءة مثل "تأسيس" أن تزيل في قول أحدهم "المحق الدارج والمفازع المبالغ فيها".
ibrahima@missouri.edu