قسمًا سيجبر الله خاطركم يا أهل غزة
تاريخ النشر: 1st, November 2024 GMT
قسمًا سيجبر الله خاطركم يا #أهل #غزة
#الشيخ_كمال_الخطيب
ما أكثرها المواقف والظروف التي مرّ بها #النبي_ﷺ والتي كانت تُدمع العين وتُدمي القلب لعظيم أثرها ووقعها على الحبيب محمد ﷺ. إنها المواقف، فيها اختلط الحزن مع الألم والهمّ والظلم، فكانت لعظيم هولها تهدّ الجبال هدًا، فكيف يكون أثرها على نفس بشرية،إنها المواقف التي كان فيها النبي صلى الله عليه وسلم مكسور الخاطر مهيض الجناح، ولكن الله تعالى ما كان ليذر حبيبه ومصطفاه يكابد هذا الوجع وخاطره مكسور، فكان يُنزل عليه السكينة عليه ويجبر خاطره.
لقد عيّره كبراء قريش بأنه لم يرزق بالأولاد الذكور وأن كل ذريته من الإناث، وهذا في عرف العرب يومها أنه ضعيف ولا عزوة له ولا ظهر ولا سند يدافع عنه وينصره، وكانت هذه محاولة خسيسة منهم لكسر خاطره، لكن الله سبحانه سرعان ما جبر خاطره وردّ على طواغيت قريش وأنعم على رسول الله ﷺ بما لم ينعم به على رسول ولا نبي من قبله، وأنزل سبحانه: {إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ*فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ*إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ} سورة الكوثر. فكان كارهوه ومبغضوه هم المبتورون المقطوعون بينما أعلى الله ذكر حبيبه محمد ﷺ.
مقالات ذات صلة «يديعوت أحرونوت»: 50 ألف جندي لم يحتلّوا قرية واحدة! 2024/11/01مكث النبي ﷺ ومعه المسلمون يتوجهون في صلاتهم إلى المسجد الأقصى المبارك وبيت المقدس سبعة عشر شهرًا، لكن النبي ﷺ كان يقلّب وجهه في السماء ويتمنى ويودّ لو أن الله سبحانه يختار له الكعبة المشرفة في مكة المكرمة قبلة، فجبر الله خاطر رسوله ﷺ وحقق له ما كان يشتهيه ويتمناه، وأنزل الوحي موافقًا لهواه ﷺ {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ} آية 144 سورة البقرة.
ولقد كان موقف ومشهد فيه النبي ﷺ مكسور الخاطر يبكي، فجبر الله خاطره كما ورد في صحيح مسلم: “إن النبي ﷺ تلا قول الله عز وجل في سورة إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ ۖ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}آية 36 سورة إبراهيم. وقال عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} آية 18 سورة المائدة، فرفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل إذهب إلى محمد وربك أعلم، فسَله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله، فأخبره رسول الله ﷺ بما قال وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل إذهب إلى محمد فقل إنّا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك”.
من جبروا خاطر الإسلام سيجبر الله خاطرهم
إذا حدث وجاء إليك أحد من الناس يطرق عليك بابك ففتحت له الباب وأنت لا تعرفه من قبل، وقد ظهرت على تقاسيم وجهه بصمات الهمّ والكرب، وكادت تخنقه العبرات لا يكاد يُفهمك ما حاجته وهو يغالب دموعه، ثم في النهاية يطلب منك مساعدته والوقوف إلى جانبه في الكرب الذي يمر به ويختم حديثه لك بالقول: “أجبر خاطري الله يجبر خاطرك”. فإذا ألهمك الله فعل الخير ولامست كلماته شغاف قلبك وكنت مطمئنًا لصدقه فقمت بأداء الواجب والوقوف إلى جانبه ومد يد العون له وتفريج كربه وجبرت خاطره، فإنه لن ينسى لك ذلك الموقف أبد الدهر ولعلّه سيوصي أولاده وأحفاده إذا دارت الأيام أن يكافئوك على معروفك ويصنعوا لك جميلًا مثل الذي صنعته أنت لأبيهم.
تخيّل هذا الرجل مكسور الخاطر الذي يقف على بابك بأنه الإسلام دينك بما هو عليه من البلاء، وكيد الأعداء، وخذلان الأشقاء، وتطاول السفهاء، مكسور الخاطر مهيض الجناح.
أنّى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصًا جناحاه
وإذا بك تتفجر فيك معاني الشهامة والرجولة فتقول له: “لبيك يا إسلام”، وتبذل من أجله مالك ووقتك وروحك وكل ما تملك، ولسان حالك يقول: “أيُكسر خاطر الإسلام وأنا حيّ؟” وإذا كان ذلك الرجل مكسور الخاطر لم ولن ينسى لمن وقف إلى جانبه ذلك الصنيع، فهل سينسى لك الله جل جلاله ثم رسوله ﷺ أنك جبرت خاطر الإسلام ونصرته وأنفقت وبذلت في وقت أدار كثيرون الظهر للإسلام، حاشا الله أن ينسى لك ذلك، وحاشا رسوله ﷺ ألا يذكرك في يوم تحب أن تُذكر فيه. قال رسول الله ﷺ: “إن من ورائكم أيامًا الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عملكم. قيل: يا رسول الله أجر خمسين منا أو منهم، قال: بل أجر خمسين منكم”.
نعم في هذا الزمن الأغبر، زمن تطاول الأقزام، وخيانة الحكام، وسطوة الظلّام، الزمن الذي تُوجه فيه السهام الصدئة إلى صدر الإسلام، وإذا بك أيها الشاب المسلم المبارك القابض على الجمر تنحاز إلى دينك وتجعل من نفسك سهمًا في جعبة الإسلام، وتظلّ ليلك ونهارك مشغولًا في نصرته وخدمته ساعيًا لجبر خاطره المكسور، فكيف سينسى لك ذلك رسول الله ﷺ يوم القيامة ولا يبشّرك أنك بهذا العطاء منك والبرّ بالإسلام سيجعل الله لك أجر خمسين من أصحاب رسول الله ﷺ؟!
ومن كسروا خاطر الإسلام سيكسر الله خاطرهم
فإذا كان هذا إكرام الله تعالى ورسوله ﷺ لمن جبر خاطر الإسلام بأن يجبر الله خاطره، فإن على النقيض من ذلك ستكون المعاملة لمن عقّوا الإسلام وأداروا له الظهر ولم يجبروا خاطره لمّا كان مكسور الخاطر، لا بل إنهم زادوا من لوعته وحزنه لما انحازوا إلى أعدائه، ولما طعنوه في الظهر، ولما تآمروا عليه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ أتى المقبرة، فقال: “السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت لو أنّا قد رأينا إخواننا. قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد. فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ قال: أرأيت لو أن رجلًا له خيل غرّ محجّلة بين ظهري خيل دُهم بُهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فإنهم يأتون غرًا محجّلين من الوضوء وأنا فَرطهمَ على الحوض، ألا ليذودّن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضالّ، أناديهم: ألا هلمّ، فيقال: إنهم قد بدّلوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا” وفي رواية أحمد: “إنك لا تدري ما عملوا بعدك، ما زالوا يرجعون على أعقابهم”. وفي رواية: “إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك”.
ما أشقاهم وما أتعسهم وما أعظم خسارتهم أولئك الذين سيُطردون يوم القيامة عن حوض رسول الله ﷺ. وإذا كانت أنظار كل الخلائق يومها معلقة إلى رسول الله ﷺ، فإن هؤلاء الأشقياء التعساء سيُطردون عن حوضه أذلّاء منكّسي الرؤوس مكسوري الخاطر. وكيف لا يُكسر خاطرهم وهم الذين كسروا خاطر الإسلام وزادوه وجعًا على وجع وألمًا على ألم يوم أداروا له الظهر، بل ويوم تعاملوا معه أنه لم يعد صالحًا لزمانهم أو أنه سبب ذلّهم وجهلهم. ولعلّ منهم من قال عن الإسلام أنه دين رجعي وظلامي ودين القرون الوسطى، وأنه دين الإرهاب والتطرف. قالوها ورددوها مثل الببغاء كما كان يقولها أعداء الإسلام، فأي كسر لخاطر الإسلام أعظم من أن تناله سهام أبنائه بأشد مما نالته سهام أعدائه، وأن يتآمر عليه مسلمون يصطفون إلى جانب الأعداء ويسخّرون أموالهم وجيوشهم وإعلامهم لكسر خاطر الإسلام، فكيف لا تكون العاقبة يوم القيامة على من كسروا خاطر الإسلام أن يكسر الله خاطرهم وأن يُطردوا عن حوض رسول الله ﷺ، وأن يقال لهم: سحقًا سحقًا. فيُبعدون ويُطردون كما يُطرد الجمل الغريب من بين الجمال، وكما يُقصى الجمل الأجرب عن الجمال السليمة؟
النبي يجبر خاطر إخوته الأنبياء
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ: إقرأ عليّ. قلت: يا رسول الله أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: نعم، فقرأت سورة النساء حتى إذا أتيت هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا} آية 41 سورة النساء، قال حسبك الآن، فالتفتّ إليه فإذا عيناه تذرفان”.
وليس أنه مشهد يوم القيامة فجمع الله فيه الأولين والآخرين في صعيد واحد وما في ذلك من الرهبة، وليس أنه مشهد أمة محمد ﷺ وقد جيء بها مجتمعة وجيء برسول الله ﷺ ليشهد عليهم أنه قد بلّغهم رسالة الله، بل إنه مشهد كل أمة من أمم الخليقة يؤتى بها ويؤتى بنبي كل أمة يشهد عليها بما عملت، ثم يُؤتى برسول الله ﷺ ليشهد على كل هؤلاء الأنبياء بأنهم قد بلّغوا أممهم رسالة الله تعالى.
أي كسر خاطر لنبي كريم كان الله تعالى قد بعثه إلى قومه ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وينقذهم من النار وقد أفنى عمره وهو على ذلك، ولقي منهم ما لاقى من الأذى والتكذيب والسخرية، ولعل منهم من قُتل، ويزيد الألم والوجع وكسر الخاطر يوم القيامة لما يأتي الله بتلك الأمة ويسألها هل بلّغها نبيها الرسالة، وإذا بهم يكذبون ويمكرون ويقولون: لا يا ربّ لم يبلغنا. إنه التكذيب وإنها الوقاحة وإنه كسر الخاطر لذلك النبي نوح ولوط وغيرهما عليهم السلام، فلا يكون منهم إلا البكاء، فيقول الله لذلك النبي وهو أعلم سبحانه، من يشهد معك أنك قد بلّغت قومك؟ فيقول: يا رب يشهد معي محمد وأمة محمد. فيُجاء برسول الله ﷺ ليشهد شهادة الحق مع ذلك النبي أنه قد بلغ قومه ولكنهم كذبوه وعادوه، فهل جبر خاطر أعظم من جبر خاطر رسول الله ﷺ لإخوته الأنبياء في موقف كذلك الموقف ومشهد كذلك المشهد.
قسمًا سيجبر الله خاطركم يا أهل غـ،غ،ـزة
بينما رسول الله ﷺ يغادر مكة هائمًا على وجهه مهاجرًا بعد كل الذي لاقاه من قومه ومن ذوي القربى منهم. خرج رسول الله ﷺ مهاجرًا إلى المدينة وقد ترك خلفه البيت وبنات له قد تزوجنّ، ترك خلفه أرضًا ولد فيها وبيتًا ترعرع فيه، فنظر إلى مكة حزينًا دامعًا يقول: “والله إنك أحب بلاد الله إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت”.
إنه رسول الله ﷺ في ظرف وحالة لا ينطبق عليها إلا وصف أنه كان مكسور الخاطر ﷺ. وإذا بالجبار جابر الخواطر سبحانه يُنزل عليه قوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} آية 85 سورة القصص. إنه الوعد من الله سبحانه والبشارة له ﷺ وجبر الخاطر له أنه حتمًا ويقينًا سيرجع إلى مكة، ويجبر الله خاطره.
وإنهم أهلنا وأبناء شعبنا في قـ،،ـطاع غـ،غ،ـزة الذين قُتل منهم أكثر من خمسين ألفًا خلال سنة واحدة، وجُرح منهم أكثر من مائة ألف، وكلهم مليونان وثلاثمائة قد شُرّدوا وهُجّروا من بيوتهم ومدنهم ومخيماتهم التي دمرت ونسفت وكأن زلزالًا قد ضربها أو عشرات القنابل الذرية قد أسقطت عليها.
ها هم أهلنا وإخوتنا في قطاع غـ،غ،ـزة وقد شرّدوا المرة تلو المرة، ونزحوا المرة تلو الأخرى، واجتمع عليهم التقتيل والتشريد والتجويع، اجتمع عليهم منع الغذاء والماء والدواء، اجتمع عليهم صواريخ الطائرات وقذائف الدبابات ورصاص الجنود والمسيّرات. وأصعب من هذا كله فإنه الخذلان والصمت من الإخوة والأشقاء العرب والمسلمين.
أليس هذا هو كسر الخاطر يا ترى؟ وإذا لم يكن هذا كسر الخاطر فماذا يكون؟ كيف ومتى يا ترى؟
ولكن ومع عمق الجرح وهول النكبة، ومع الجوع والفقدان والتهجير، ومع الدموع والخذلان، فإننا نقول لأهلنا وأبناء شعبنا في غـ،غ،ـزة إنكم يومًا سترجعون إلى بيوتكم التي أخرجتم منها، وإلى مدنكم التي طُردتم منها. ومثلما ردّ الله رسوله ﷺ إلى مكة، فإنكم ستعودون إلى دياركم. ومثلما جبر الله سبحانه خاطر رسوله ﷺ فإنه سيجبر خاطركم. وقسمًا أن الله سيجبر خاطركم يا أهلنا في غـ،غ ،ـزة، وإن غدًا لناظره قريب.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: أهل غزة الشيخ كمال الخطيب النبي ﷺ رسول الله الله سبحانه یوم القیامة رسول الله ﷺ الله تعالى الله خاطر جبر خاطر جبر الله النبی ﷺ رسوله ﷺ غـ غ ـزة
إقرأ أيضاً:
الإماء في الإسلام: مرآة الصراع بين الحرية والتقاليد وموروث الجاهلية الذي يثقل كاهل الإسلام
إبراهيم برسي – 26 ديسمبر 2024
عندما نتأمل تاريخ الإماء في الإسلام، نواجه تناقضًا عميقًا بين المبادئ الداعية إلى العدالة والحرية، وبين واقع اجتماعي يقنن العبودية.
الإماء، وهن جمع “أمَة”، لم يكنّ مجرد نساء مستعبدات تحت وطأة الحاجة والقهر، بل كُنّ انعكاسًا لأنظمة فكرية واقتصادية تُشرعن السيطرة والهيمنة، محوّلات الإنسان إلى سلعة تُباع وتُشترى.
الإسلام، وفق النصوص الدينية، لم يبتكر نظام العبودية، بل وجده متجذرًا في البنى الاجتماعية الجاهلية. ومع ذلك، فإنني لا أحب استخدام مصطلح “الجاهلية” لوصف تلك الحقبة، إذ أراه اختزالًا وتبسيطًا لعصر كان، رغم جوانبه السلبية، زاخرًا بالثقافة والشعر والنظم الاجتماعية. تلك الفترة التي وُصفت بالجاهلية، كانت غنية بنظم وقيم أثرت حتى في الثقافة الإسلامية اللاحقة، مثل نظام الدية وقوانين حماية الضيف.
واستغرابي يكمن في الإقصاء الكلي لهذه الحقبة، وكأنها كانت ظلامًا مطلقًا، بينما هي في الحقيقة تحمل ملامح من النور الذي ساهم في تشكيل الحضارة العربية.
أقرّ الإسلام العبودية ضمن نظام “ملك اليمين”، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى تحرير الرقاب كقربة إلى الله. قال تعالى: “فَكُّ رَقَبَةٍ” (البلد: 13)، وقال النبي: “من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوًا من النار” (رواه البخاري).
هذه الدعوات لتحرير العبيد تعكس تناقضًا واضحًا. فمن جهة، الإسلام يدعو إلى إنهاء العبودية، لكنه في الوقت ذاته يقننها ضمن أطر اجتماعية واقتصادية لم يتم تفكيكها جذريًا.
لماذا أقر الإسلام العبودية؟
هذا السؤال يتطلب تفسيرًا فلسفيًا واجتماعيًا عميقًا. النظام الذي أقره الإسلام كان جزءًا من توازن اجتماعي واقتصادي معقد.
تحرير العبيد بشكل كامل في ذلك العصر كان سيؤدي إلى انهيار اقتصادي واجتماعي، ما جعل الإسلام يقدم حلاً تدريجيًا: تقنين العبودية من جهة، وتشجيع العتق من جهة أخرى.
لكن هذا الحل التدريجي يعكس تنازلاً أمام الواقع الذي يخدم مصالح طبقة معينة، أصحاب النفوذ والمصلحة الذين استفادوا من استمرار هذا النظام.
لكن، كيف يمكن تبرير القهر باسم الضرورة؟
الفلسفة تعلّمنا أن العدالة لا تقبل التقسيط. كما قال جون ستيوارت ميل: “القمع باسم العدالة هو أقسى أنواع القمع، لأنه يحمل قناع الفضيلة.”
إن تبرير استمرار العبودية بحجج اقتصادية هو خيانة للقيم المثلى، لأن العدالة الحقيقية هي التي تُحقق بغض النظر عن تكلفة تحقيقها.
“الإنسان محكوم عليه أن يكون حرًا”، كما قال سارتر. ومع ذلك، فإن الإماء في الإسلام لم يُمنحن حتى فرصة الحلم بهذه الحرية.
أدوارهن كانت محصورة بين الخضوع كخادمات، والإذعان كمحظيات، أو استغلالهن كأدوات للإنجاب. لم يُمنحن الاعتراف الكامل بإنسانيتهن.
وكانت قيمتهن مرهونة بما يقدمنه من خدمة للأسياد أو بإنجابهن لأبناء يعيدون إنتاج النظام نفسه.
الأبناء الذين وُلدوا من الإماء عاشوا واقعًا معقدًا ومزدوجًا. فهم أبناء لأسيادهم، لكنهم في الوقت نفسه لم يُعاملوا معاملة الأبناء الشرعيين.
فالبنت المولودة من أمة، على سبيل المثال، كانت تعيش ازدواجية طبقية تجعلها أقل شأنًا من أبناء الزوجة الحرة.
هؤلاء الأبناء كانوا يحملون عبء هويتهم المزدوجة، كأنهم يعيشون بين عالمين لا ينتمون لأي منهما بشكل كامل.
هذا التناقض الطبقي يعكس فجوة اجتماعية عميقة، وهي جزء من نظام أعمق يعيد تشكيل الوعي.
ويمكن ربط هذه الفجوة بحالة “التكيف القهري” التي تعيشها الإماء.
علم النفس يفسر هذا الخضوع كآلية دفاعية.
الإماء كنّ يرين في خنوعهن وسيلة للبقاء، حيث أقنعن أنفسهن بأن ما يقمن به هو طاعة لله أو امتحان إلهي.
غسيل المخ الجماعي الذي تعرضن له جعلهن يعتقدن أن دورهن في خدمة الأسياد هو جزء من مشيئة الله.
هذه الحالة النفسية هي مثال على ما وصفه فروم بـ”الهروب من الحرية”، حيث يختار الفرد القبول بالقيود لأنه يخشى مواجهة العبء الذي تحمله الحرية.
أما الأبناء، رغم الفوارق الطبقية، فقد ظلوا يدورون في فلك الأسياد.
فقد كبر هؤلاء الأطفال وهم يرون أنفسهم جزءًا من نظام يستحيل كسره.
هذه الحالة النفسية تُفسر كحالة اغتراب، حيث يشعر الفرد بأنه غريب عن نفسه وعن محيطه، لكنه مضطر للتعايش مع هذا الاغتراب.
وفي نظام الميراث الإسلامي، كان أبناء الإماء يرثون فقط إذا اعترف بهم آباؤهم.
وهذا الاعتراف لم يكن دائمًا سهل المنال. بل وحتى إذا أراد الأب أن يمنحهم حقوقًا أثناء حياته، فإن قواعد الشريعة تقيّده.
قال النبي: “لا وصية لوارث” (رواه الترمذي)، مما يضع الأب في معضلة أخلاقية عميقة.
وهذا التمييز يظهر جليًا في نظام “أم الولد”. الأمَة التي تنجب من سيدها تصبح “أم ولد”، وتنال حريتها تلقائيًا عند وفاته.
لكن هذه الحرية كانت حرية مؤجلة ومشروطة، تأتي في وقت تكون فيه حياتها قد استُنزفت بالكامل في خدمة النظام الاجتماعي.
مارية القبطية، التي أهداها المقوقس إلى النبي، تقدم مثالًا بارزًا على هذا التمييز.
رغم حب النبي لها وإنجابها لابنه إبراهيم، ظل وضعها أدنى مقارنة بزوجاته الحرائر.
ورِيحَانة بنت زيد، التي رفضت الزواج بالنبي واختارت البقاء على دينها اليهودي، تمثل حالة أخرى من التعقيد، حيث تداخلت الحرية الفردية مع قيود النظام الاجتماعي.
فرج فودة يرى أن استمرار نظام العبودية في الإسلام كان نتيجة لتوازنات اجتماعية فرضت نفسها على النصوص الدينية، بينما يرى سيد القمني أن “ملك اليمين” كان ضرورة تاريخية لا يمكن اعتبارها جزءًا من الشريعة الدائمة.
لكن ورغم ريادتهم في تناول هذه القضايا، إلا أنهم لم ينتقدوا هذه الظاهرة بالشجاعة الكافية. ربما لأنهما، مثل غيرهم من المفكرين، كانا محاصرين بحدود الخطاب الديني والاجتماعي السائد، الذي لا يزال يرى في النقد الجذري تهديدًا للاستقرار الفكري والاجتماعي.
الإماء لم يكنّ مجرد نساء مستعبدات، بل كنّ انعكاسًا لعجز الإنسان عن تحقيق العدالة التي يدعيها.
العبودية لم تكن نظامًا اقتصاديًا فقط، بل كانت نظامًا فكريًا يعيد تشكيل الوعي ليجعل من القهر شيئًا مقبولًا ومبررًا.
في النهاية، الإماء لسن مجرد شخصيات من الماضي، بل فكرة تعيش في كل نظام يفرق بين الناس بناءً على الطبقة أو الجنس.
ربما نعتقد أننا تحررنا من العبودية، لكننا في الحقيقة نعيد إنتاجها بأشكال جديدة.
لننظر إلى الأنظمة الاقتصادية الحالية التي تسخر الإنسان لخدمة رأس المال، إلى الطبقية التي تفرق بين الناس بناءً على الثروة، وإلى التمييز الذي يجعل من البعض أحرارًا ومن الآخرين عبيدًا لأشكال جديدة من السلطة.
الحرية ليست مجرد كلمة تُقال، بل هي صراع أبدي بين الطموح والواقع.
الحرية التي ندّعيها، ما تزال حبيسة أغلال الماضي، تنتظر لحظة تحرر حقيقية لم تأتِ بعد.
zoolsaay@yahoo.com