غيرت الثورة الصناعية الرابعة كيفية عمل العالم، وبالنسبة للعالم العربي، فإنها تقدم تحديات وفرصًا عديدة، من المدن الذكية التي تعمل بالذكاء الاصطناعي إلى الروبوتات المتقدمة، وتتبنى بلدان المنطقة الآن التقنيات التي من شأنها تنويع اقتصادياتها، وتحسين الخدمات العامة وأتمتة الصناعات المختلفة فيها.

وتتصدر بعض الدول العربية، وخاصة السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة، موجة الثورة الصناعية الرابعة في المنطقة العربية.

وتستثمر حكومات هذه الدول بشكل كبير في الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والروبوتات لدفع النمو الاقتصادي والحد من اعتمادها على النفط. وتُظهِر مبادرات المدن الذكية والشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا المالية وبرامج أبحاث الذكاء الاصطناعي كيف تعمل المنطقة على تحويل الاقتصاد والمجتمع.

 

نمو سريع

يشهد الإنفاق التكنولوجي في الشرق الأوسط نموا سريعا، مدفوعا بالمبادرات الحكومية، واستثمارات القطاع الخاص، والدفع نحو التحول الرقمي عبر مختلف القطاعات.

وتركز دول المنطقة بشكل أساسي على قطاعات مثل البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات، والخدمات الرقمية، والذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، والحوسبة السحابية، ومبادرات المدن الذكية.

ومن المتوقع أن يتسارع الإنفاق على تكنولوجيا المعلومات بالمنطقة في عام 2024، بزيادة قدرها 4% عن عام 2023 وفقًا لأحدث توقعات شركة جارتنر.

ومن المتوقع أن يبلغ إجمالي إنفاق منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على تكنولوجيا المعلومات 183.8 مليار دولار في عام 2024، ارتفاعا من 176.8 مليار دولار في عام 2023.

وبالمقارنة، من المتوقع أن يبلغ إجمالي الإنفاق العالمي على تكنولوجيا المعلومات 5.1 تريليونات دولار في عام 2024 .

من جهتها، توقعت شركة البيانات الدولية "آي دي سي" (IDC) أن يتجاوز الإنفاق على الذكاء الاصطناعي وحده في المنطقة 3 مليارات دولار هذا العام، بزيادة 32% عن عام 2023 حيث توجد رغبة واضحة في الاستثمار بالذكاء الاصطناعي بشكل عام والذكاء الاصطناعي التوليدي بشكل خاص.

أبرز الدول العربية استثمارا في القطاع التكنولوجي

1- السعودية تستثمر 100 مليار دولار بقطاع التكنولوجيا

في فبراير/شباط 2024، أنشأت المملكة العربية السعودية شركة "آلات" (Alat) وهي شركة متخصصة في التكنولوجيا المتقدمة مملوكة لصندوق الاستثمارات العامة السعودي وفق ما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز.

السعودية تعتزم استثمار ما يقرب من 100 مليار دولار في شركة آلات للتكنولوجيا المتقدمة بحلول عام 2030 (شترستوك)

ويعتزم السعوديون استثمار ما يقرب من 100 مليار دولار فيها بحلول عام 2030، مع التركيز على التقنيات المتقدمة مثل: الذكاء الاصطناعي، وأشباه الموصلات، والحد من الانبعاثات، والروبوتات، والمدن الذكية.

وتسعى السعودية لتصبح قوة عظمى في مجال الذكاء الاصطناعي كما ذكرت الصحيفة بعيدا عن كونها اقتصادا قائما على النفط فقط، مما من شأنه أن يؤثر بشكل كبير على السياسة الخارجية والداخلية للمملكة.

وسوف يؤدي ذلك إلى تكثيف المنافسة في منطقة الخليج العربي لجذب الاستثمارات من الصين والولايات المتحدة وغيرها من القوى التكنولوجية.

بالإضافة إلى ذلك، سوف يعزز القدرات التكنولوجية للبلاد، على الرغم من الشكوك حول النمو على المدى الطويل بسبب استمرار بروز دور الحكومة السعودية بشكل كبير في هذا القطاع، وهو ما قد يؤثر على التنمية الطويلة الأجل لهذه التقنيات الجديدة لأن القطاع الخاص أكثر فعالية في تخصيص الموارد واتخاذ القرارات الاقتصادية القائمة على السوق وفق ما ذكرت مجلة "ديبلوماتيك كورير".

من المتوقع أن يصل حجم سوق الذكاء الاصطناعي في قطر إلى 428.40 مليون دولار أميركي  (مايكروسوفت)

2- قطر تستثمر 2.5 مليار دولار في الذكاء الاصطناعي

وتبرز قطر بسرعة كدولة رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث تقود التغييرات التحويلية في جميع الصناعات وتحسن الحياة اليومية بشكل كبير، وفقا للخبراء.

ومن خلال الاستفادة من أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي، تتصدر الدولة التطورات الجديدة التي تضع معايير عالمية. ويضع هذا النهج الديناميكي قطر في طليعة الابتكار التكنولوجي، حيث تدفعها استثماراتها الإستراتيجية ومبادراتها إلى أن تصبح لاعبا رئيسيا في المشهد العالمي للذكاء الاصطناعي.

ومن المتوقع أن يصل حجم سوق الذكاء الاصطناعي في قطر إلى 428.40 مليون دولار أميركي في عام 2024، وأن يصل إلى 1.9 مليار دولار في عام 2030 بمعدل نمو سنوي مركب قدره 28.7% خلال هذه الفترة، وفق ما ذكرت منصة ستاتيستا.

وخصصت قطر 9 مليارات ريال (2.5 مليار دولار) كحوافز لتحقيق برامجها في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا والابتكار.

وستعمل قطر على تنويع اقتصادها بدعم من القطاع الخاص في البلاد والعالم، إلى جانب دوافع الاستثمار وحوافز مرحلة التنمية الوطنية لتصبح من بين أفضل عشر دول للأعمال"، وفق ما ذكرت منصة "بلومبيرغ".

 

وهذه الاستثمارات تعد جزءا من نهج قطر الأوسع لبناء اقتصاد ذكي، حيث من المتوقع أن تصل الاستثمارات الرقمية إلى 5.7 مليارات دولار (20.77 مليار ريال قطري) بحلول عام 2026، ارتفاعا من 1.65 مليار دولار (6.01 مليارات ريال قطري) في عام 2022 وفق ما ذكرت صحيفة "ذا بينينسولا" القطرية.

كما تتحول رؤية قطر للمدن الذكية إلى حقيقة بفضل الذكاء الاصطناعي. وتهدف هذه المدن إلى تحسين جودة الحياة من خلال أنظمة مترابطة تدير تدفق حركة المرور واستهلاك الطاقة وغير ذلك الكثير.

ويعد نهج قطر في التعامل مع المدن الذكية مثيرا للإعجاب. فالحلول التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي تعمل على تحسين إدارة حركة المرور، وتقليل استخدام الطاقة، والتنبؤ باحتياجات الصيانة للبنية الأساسية. ولا تقتصر هذه الابتكارات على الراحة فحسب، بل إنها تعزز الاستدامة والكفاءة. ومن الأمثلة البارزة على ذلك مدينة لوسيل، وهي مشروع تطويري مستقبلي يستخدم الذكاء الاصطناعي لإدارة المرافق، وضمان استخدام الموارد بكفاءة والحد من التأثير البيئي وفقا لصحيفة "قطر تربيون".

3- الإمارات تستثمر 3 مليارات دولار سنويا في الابتكار

وتستثمر دولة الإمارات العربية المتحدة 3 مليارات دولار كل عام في الابتكار، ومن المتوقع أن يسهم الذكاء الاصطناعي بنحو 98 مليار دولار أميركي في اقتصاد الإمارات بحلول عام 2030.

وتستهدف إستراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي 2031 دمج الذكاء الاصطناعي في كافة الخدمات والوزارات الحكومية، ومن المتوقع أيضا أن تعمل البيانات الضخمة والحلول المستندة إلى السحابة على تعزيز سوق الإمارات خلال السنوات القليلة المقبلة، وفق ما ذكرت دائرة التنمية الاقتصادية بدولة الإمارات.

إستراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي 2031 تستهدف دمج الذكاء الاصطناعي في كافة الخدمات والوزارات الحكومية (غيتي)

وتشير التوقعات إلى أن سوق مراكز البيانات في الإمارات العربية المتحدة سيتضاعف حجمه بأكثر من الضعف بحلول عام 2029 ليصل إلى 12.9 مليار دولار أميركي، وفق ما ذكر المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية (IISS).

كما تستثمر الإمارات العربية المتحدة بشكل كبير في الروبوتات لتطوير قطاعاتها الصناعية والخدمية. وتهدف مبادرات مثل برنامج دبي للروبوتات والأتمتة، الذي أُعلن عنه في عام 2022، إلى زيادة مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي لدبي إلى 9% خلال 10 سنوات، ويسعى إلى جعل دبي واحدة من أفضل 10 مدن في العالم في مجال الروبوتات والأتمتة من خلال تبني وتطوير تقنيات الروبوتات المتقدمة، وتمكين المواهب الوطنية، وتوليد حلول ومنتجات وخدمات جديدة ومبتكرة، كما ذكرت منصة "يورو نيوز" ومنصة "برق الإمارات".

4- الكويت: 39.8 مليار دولار قيمة سوق تكنولوجيا المعلومات خلال 5 سنوات

تركز رؤية الكويت 2035 على تنويع الاقتصاد بعيدا عن النفط، وتحويل البلاد إلى مركز مالي إقليمي. وتشكل خارطة طريق التحول الرقمي في الكويت جزءا أساسيا من رؤية 2035 وتشمل الاستثمار في البنية التحتية الرقمية وتعزيز الابتكار وإنشاء نظام بيئي رقمي يدعم الشركات الناشئة ورجال الأعمال.

وبلغت قيمة سوق تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الكويت 22.48 مليار دولار في عام 2023 ومن المتوقع أن تصل إلى 39.83 مليار دولار في السنوات الخمس المقبلة.

وتعتبر صناعة الاتصالات في الكويت متقدمة بخدمات الجيل الخامس والسادس، وكابلات الألياف الضوئية، والاتصال عبر الأقمار الصناعية، وإمكانية الوصول إلى شبكة "الواي فاي" في جميع أنحاء البلاد. كما أن 99.4% من السكان لديهم اتصال بالإنترنت في المنزل، وتصل شبكة الجيل الخامس إلى حوالي 97% من السكان وفق ما ذكرت منصة "إدارة التجارة الدولية".

5- مصر تسعى لوصول الصادرات الرقمية إلى 9 مليارات دولار

وأطلقت الحكومة المصرية في يناير/كانون الثاني الماضي إستراتيجية اقتصادية شاملة مكونة من 8 محاور للفترة 2024-2030، تتناول وثيقتها عدة جوانب تتعلق بالاقتصاد وجودة الحياة.

وتهدف هذه الإستراتيجية إلى خلق مليون فرصة عمل في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، بما في ذلك تصميم الإلكترونيات، والبرمجيات، وأشباه الموصلات، وزيادة صادرات الإلكترونيات بنسبة 20%على الأقل، ورفع عدد المتدربين في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات إلى مليون متدرب، وفق ما ذكرت منصة "الأهرام أونلاين".

إستراتيجية مصر للذكاء الاصطناعي إلى خلق مليون فرصة عمل في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (الأوروبية)

وتشمل الجهود المحددة في الفترة 2024-2030 التركيز على البنية التحتية للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.

وعلى سبيل المثال، تهدف الحكومة إلى توسيع نطاق تغطية النطاق العريض على مستوى البلاد، واستبدال شبكات النحاس بكابلات الألياف الضوئية، وزيادة عدد أبراج الهاتف المحمول إلى 50 ألف برج بحلول عام 2030.

ومن المتوقع أن يسهم قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في مصر بنسبة 8% في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بحلول عام 2030، وهي زيادة عن النسبة الحالية البالغة 5.8% المسجلة في السنة المالية 2023/2024، ومن المتوقع أيضا أن تصل الصادرات الرقمية إلى 9 مليارات دولار بحلول عام 2026، وفق ما ذكرت صحيفة "مصر اليوم".

6- المغرب.. سوق الذكاء الاصطناعي يصل لأكثر من مليار دولار عام 2030

من المتوقع أن يصل حجم سوق الذكاء الاصطناعي في المغرب إلى 256 مليون دولار أميركي في عام 2024، وأن يبلغ 1.151 مليار دولار بحلول عام 2030 بمعدل نمو سنوي مركب قدره 28.46% خلال هذه الفترة وفقا لمنصة ستاتيستا.

واستثمر المغرب بشكل إستراتيجي في الذكاء الاصطناعي والثورة الصناعية الرابعة كجزء من مبادرات التحول الرقمي الأوسع نطاقا.

وتتمثل إحدى النقاط المحورية لهذه الاستثمارات في "مبادرة حركة الذكاء الاصطناعي لجامعة محمد السادس متعددة التقنيات"، والتي أطلقت برامج بحث وتعليم الذكاء الاصطناعي لتعزيز تنمية المهارات والابتكار في تطبيقات الذكاء الاصطناعي.

ويسلط هذا البرنامج الضوء على تركيز المغرب على دمج الذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات لدفع التحديث الاقتصادي ومعالجة التحديات في الزراعة والصحة والطاقة.

وتؤكد سياسات المغرب بشأن الذكاء الاصطناعي، كما ذكرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، على بناء نظام بيئي صديق للذكاء الاصطناعي يشجع الشراكات مع القطاع الخاص والتعاون الدولي. وتهدف هذه السياسات إلى دعم طموح البلاد لتصبح رائدة إقليمية في مجال الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الإمارات العربیة المتحدة سوق الذکاء الاصطناعی تکنولوجیا المعلومات الذکاء الاصطناعی فی فی الذکاء الاصطناعی ملیار دولار فی عام للذکاء الاصطناعی ومن المتوقع أن ملیارات دولار من المتوقع أن القطاع الخاص دولار أمیرکی المدن الذکیة بحلول عام 2030 بشکل کبیر فی عام 2024 فی مجال عام 2023 أن یصل

إقرأ أيضاً:

يساعدك في اتخاذ القرار.. كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي صورة الإنسان عن نفسه؟

يشهد العالم المعاصر تحوّلًا غير مسبوق في تاريخ الوجود البشري، تقوده التكنولوجيا بصفتها القوة الأكثر تأثيرًا في تشكيل ملامح الحياة الحديثة.

لم تعد التكنولوجيا مجرد أدوات أو منصات مساعدة، بل أصبحت بحد ذاتها بيئةً كلية نعيش فيها، وعاملًا حيويًا يُعيد صياغة مفاهيم الإنسان عن ذاته، وعن العالم، وعن الآخرين من حوله. وفي قلب هذا التحول تقف الأجيال الجديدة لا كمتلقٍّ سلبي، بل كنتاجٍ حيّ لهذا العصر الرقمي بكل تعقيداته وتناقضاته.

نتحدث هنا تحديدًا عن جيل Z (المولود بين 1997 و2012)، وجيل ألفا (المولود بعد 2013)، وهما جيلان نشآ في ظل تحوّل تكنولوجي عميق بدأ مع الثورة الرقمية في نهاية القرن العشرين، وتفاقم مع دخول الذكاء الاصطناعي والواقع المعزز والميتافيرس والبيانات الضخمة إلى صلب الحياة اليومية.

جيل Z يمثل الجسر بين عالمين: عالم ما قبل الثورة الرقمية، وعالم أصبحت فيه الخوارزميات هي "العقل الجمعي" الجديد.

لقد عاش هذا الجيل مراحل الانتقال الكبرى: من الكتب الورقية إلى الشاشات، من الاتصالات الهاتفية إلى الرسائل الفورية، من الصفوف المدرسية إلى التعليم عن بُعد. أما جيل ألفا، فهو الجيل الذي لم يعرف سوى الرقمية منذ لحظة الميلاد، إذ تفتحت حواسه الأولى على شاشة، وتكوّنت مهاراته اللغوية من خلال مساعد صوتي، وتعلّم المفاهيم الأولى عن طريق تطبيقات ذكية وخوارزميات دقيقة تستجيب لسلوك المستخدم لحظيًا.

إعلان

إننا لا نتحدث عن تغيّر في أنماط الحياة فقط، بل عن إعادة تشكيل حقيقية للذات الإنسانية. ففي السابق، كانت الهوية تُبنى عبر التفاعل مع الأسرة، والمدرسة، والثقافة المحلية، وكانت تنشأ ضمن سياق اجتماعي واضح المعالم.

أما اليوم، فالأجيال الرقمية تبني صورها الذاتية في فضاءات افتراضية عالمية، تتخطى الحواجز اللغوية والثقافية والجغرافية. إنها هوية "مُفلترة"، تُنتجها الصور والمنشورات والتفاعلات المرسومة وفق خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي، وتُقاس بكمية "الإعجابات" والمشاهدات، لا بتجربة الذات العميقة.

هذا التحول لا يخلو من مفارقات. فعلى الرغم من الكمّ الهائل من التواصل الرقمي، تشير دراسات عديدة إلى تصاعد مشاعر الوحدة والعزلة، خصوصًا بين المراهقين والشباب.

وقد ربطت تقارير صحية بين الإفراط في استخدام التكنولوجيا وبين ارتفاع معدلات القلق، واضطرابات النوم، وضعف التركيز، وتراجع المهارات الاجتماعية.

جيل Z، برغم إتقانه المذهل للتكنولوجيا، يواجه صعوبة متزايدة في بناء علاقات واقعية مستقرة. أما جيل ألفا، فيُظهر مبكرًا قدرة رقمية خارقة، لكنها تقترن أحيانًا بضعف في التطور اللغوي والعاطفي، وكأن المهارات الإنسانية الكلاسيكية باتت تُستبدل تدريجيًا بكفاءات رقمية جديدة.

هذا لا يعني أن الأجيال الرقمية "أقل إنسانية"، بل إنها مختلفة في تركيبها المعرفي والعاطفي والاجتماعي. إنها أجيال تعيش فيما يمكن تسميته "الواقع الموسّع"، حيث تتداخل فيه الذات البيولوجية بالذات الرقمية، ويذوب فيه الخط الفاصل بين ما هو واقعي وما هو افتراضي.

وهذه الحالة تطرح سؤالًا وجوديًا جوهريًا: من أنا في عالم يُعاد فيه تشكيل الذات بواسطة أدوات لا أتحكم بها بالكامل؟ من يوجّهني فعلًا: أنا، أم البرمجية التي تختار لي ما أقرأ وأشاهد وأرغب؟

في هذا السياق، تتزايد الحاجة إلى تفكيك العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا من جديد. فنحن لم نعد فقط نستخدم التكنولوجيا، بل يُعاد تشكيلنا من خلالها، وقد أصبح الذكاء الاصطناعي شريكًا خفيًا في اتخاذ القرارات، وتوجيه السلوك، وحتى في تكوين القيم وتصورات العالم. منصات مثل تيك توك ويوتيوب وإنستغرام لم تعد وسائط ترفيهية فحسب، بل منصات لإنتاج الثقافة والهوية والسلوك الاستهلاكي.

إعلان

ولعل المفارقة الكبرى تكمن في أن هذه التكنولوجيا التي وُعدنا بها كوسيلة لتحرير الإنسان، باتت تخلق أشكالًا جديدة من التبعية. فمن جهة، تسهّل الحياة وتختصر الوقت، لكنها من جهة أخرى تُعيد تشكي إدراكنا بطريقة غير مرئية. إنها "القوة الناعمة" الأشد تأثيرًا في تاريخ البشرية.

في ظل هذا الواقع، لا يكفي أن نُحمّل الأفراد مسؤولية التكيف. المطلوب هو تفكير جماعي لإعادة توجيه العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا. المؤسسات التعليمية مطالبة بأن تراجع مناهجها، لا فقط لتُدخل التقنية، بل لتُعيد التوازن بين ما هو رقمي وما هو إنساني.

الأسرة، بدورها، لم تعد فقط مصدرًا للقيم، بل أصبحت "ساحة مقاومة" للحفاظ على الحميمية في وجه التمدد الرقمي. أما صانعو السياسات، فعليهم مسؤولية أخلاقية وتشريعية للحدّ من تغوّل التكنولوجيا في تفاصيل الحياة اليومية، ووضع ضوابط تحمي الأجيال من فقدان الجوهر الإنساني.

ينبغي ألا يكون السؤال: كيف نُقلل من استخدام التكنولوجيا؟ بل: كيف نستخدمها بطريقة تحافظ على إنسانيتنا؟ كيف نُدرّب أبناءنا على التفكير النقدي، والقدرة على التأمل، والانفتاح العاطفي، لا فقط على البرمجة والتصميم؟

نحن نعيش لحظة مفصلية، لحظة يُعاد فيها تعريف الإنسان، لا بالمعنى البيولوجي، بل بالمعنى الوجودي. وإذا لم نُحسن إدارة هذا التحوّل، فإننا قد نخسر القدرة على أن نكون ذاتًا فاعلة حرة في عالم تتزايد فيه السيطرة غير المرئية للأنظمة الذكية.

المستقبل لا تصنعه الآلات، بل الإنسان الذي يعرف كيف يتعامل معها. ولهذا، فإن المعركة الأهم ليست بين الأجيال والتكنولوجيا، بل بين الإنسان وإنسانيته.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • مايكروسوفت تطلق ميزة Recall والبحث بالذكاء الاصطناعي لأجهزة Copilot Plus الجديدة
  • الرئيس الصيني يحذر من مخاطر مرتبطة بالذكاء الاصطناعي
  • الرئيس الصيني: الذكاء الاصطناعي سيغير أسلوب الحياة البشرية بشكل جذري
  • الرئيس الصيني: الذكاء الاصطناعي فيه مخاطر وتحديات غير مسبوقة
  • يوتيوب تدعم ميزة البحث بالذكاء الاصطناعي
  • لطافتك تكلف الذكاء الاصطناعي الملايين!
  • بريطانيا تخاطر بفقدان 265 مليار دولار بسبب بطء تبني الذكاء الاصطناعي في العمل
  • ارتفاع أسعار النفط
  • مجموعة يانغو تستعرض أبرز حلولها وابتكاراتها المدعومة بالذكاء الاصطناعي في قمة Machines Can See”” ضمن فعاليات أسبوع دبي للذكاء الاصطناعي
  • يساعدك في اتخاذ القرار.. كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي صورة الإنسان عن نفسه؟