تسليح المواطنين بالجزيرة.. مخاوف الانجراف نحو الحرب الأهلية
تاريخ النشر: 1st, November 2024 GMT
أثارت قضية تسليح المواطنين في السودان وولاية الجزيرة خصوصاً ردود فعل متباينة ووجهات نظر متعددة، لكنها تتفق حول تزايد المخاطر والكلفة البشرية.
الخرطوم: التغيير
لقي مئات المواطنين حتفهم في مجازر ولاية الجزيرة- وسط السودان بعد سيطرة قوات الدعم السريع على الإقليم في ديسمبر من العام الماضي عقب انسحاب الجيش من عاصمة الولاية “ود مدني”، تسارعت بعدها الأحداث حيث توغلت “الدعم السريع” في قرى الجزيرة والبطانة شرقاً وغرباً وارتكبت انتهاكات لا حصر لها وارتفعت معها الأصوات بضرورة تسليح المواطنين.
وقد تمت عملية تسليح المواطنين، لكن البعض رأى أنها اتخذت طابعاً قبلياً حيث تسلحت مجموعات كبيرة من قبائل الشكرية والبطاحين ورفاعة، البوادرة، الضباينة، والمسلمية في البطانة والجزيرة عموما، الأمر الذي اثار تساؤلات ومخاوف حول ما إذا كان ذلك بداية الانحراف نحو حرب أهلية؟ خاصة بعد ظهور جثث لمواطنين في الترع والنيل والشوارع؟ لا يعرف هل قتلوا بدافع الانتقام؟ أو تمت تصفيتهم على أساس عرقي في الحرب الطاحنة التي تدور منذ ابريل 2023م بين الجيش والدعم السريع؟..
كما توالت الاستفهامات بشأن حقيقة تصفية عناصر من المقاومة الشعبية لمواطنين من سكان الكنابي؟ وفي المقابل هل أسهم سكان الكنابي في قتل وتشريد المواطنين واستباحة وإخلاء قرى الولاية؟ كلها أسئلة تطرحها المخاوف من مآسي التسليح واتساع دائرة القتال التي سيكشف عنها بعد نهاية الحرب.
تحذير من فتنةوسخر القيادي بتنظيم كيان أهل الجزيرة علي عبد الله، من الدعوات لحمل السلاح وقال: “الجزيرة باعوها العسكر ثم يأتوا ليطالبوا المواطنين بالدفاع عن أنفسهم.. أين كان هؤلاء والجيش ينسحب نهاراً جهاراً من حاضرة ولاية الجزيرة ود مدني بدون أن يطلق ولا حتى طلقة واحدة؟.. طلائع الدعم السريع التي دخلت مدني 20 عربة فقط.. الجميع شاهد المنظر وهم يصورون اللايفات المباشرة والمدينة خاوية من أي كاكي أخضر”.
وأضاف لـ(التغيير)، بأن الدعم السريع أو “الجنجويد”- حسب تعبيره- لا يمكن لأي شخص أن يدافع عن أفعالهم القذرة وسلوكهم الجبان في قتل المواطنين والسرقة والاغتصاب، “ولكن الكيزان هم من صنعوا هذا الكيان ودافعوا عنه لدرجة أنه عندما كان البعض ينتقدهم يعرض نفسه للمساءلة القانونية.. الآن يريدون من البسطاء والضعفاء أن يقفوا أمام الآلة العسكرية الكبيرة للدعم السريع التي سلمها العسكر والكيزان لهم.. ماذا تعتقدون أن يفعل الدعم السريع بشخص يحمل السلاح حتى لو كان يلبس لبس مدني”.
وتابع عبد الله: “هؤلاء يكذبون ويتحرون الكذب.. قبيل هجوم الدعم السريع على الجزيرة رفضت قيادة الجيش تسليح المواطنين بحجة عدم قدرتهم على القتال والآن بعد السقوط يطالبونهم بالدفاع عن أنفسهم.. إلى الآن نحن لا نعرف كيف يفكر هؤلاء المتأسلمين وماذا يخططون ولكن الشئ الوحيد الذي ندركه أنهم طلاب سلطة متعطشون للدماء”.
وحذر علي عبد الله من دعاوى الفتنة بين مكونات الجزيرة وقال: “هؤلاء لم يكتفوا بالدعوة لتسليح وتجييش المدنيين بل يروجون للفتنة بأن سكان الكنابي هم من ساعدوا الدعم السريع.. كل أهل الجزيرة يدركون أن هنالك أفراد من سكان الكنابي انضموا للدعم السريع كما انضم آخرون للمقاومة والجيش.. ما حدث سلوك فردي وليس جماعي”. وأضاف: “بهذه الطريقة التي نراها ستشتعل حرب قبلية بين المجموعات السكانية في السودان”.
حرب بياناتوكانت القيادة المركزية العليا للمتقاعدين من الجيش والشرطة والأمن أصدرت بياناً في وقت سابق، حذرت فيه المواطنين بالجزيرة من الاستجابة لدعوات التجييش وحمل السلاح باعتبارهم مواطنين يجب أن يبتعدوا عن الحرب والاصطفاف مع الداعين لاستمرارها.
لكن الجناح الآخر للهيئة القومية لضباط وضباط صف وجنود القوات المسلحة المتقاعدين، هاجمت الطرف الآخر في بيان قالت فيه إن الفئة الضالة من أفراد يدعون أنهم ضباط قادة للمتقاعدين يحذرون المواطنين بعدم حمل السلاح في مواجهة المرتزقة للدفاع عن شرفهم وأرضهم وأموالهم ليصدوا عنهم إذلال التتار لشيوخنا ويتركوا نساؤهم فريسة لذئاب الدعم السريع.
ووصفت الهيئة خطاب رصفائهم بالمتخاذل من الدفاع عن أهلهم، وانتقد البيان الضباط الرافضين لحمل المواطنين للسلاح قائلاً: “وصل بكم الهوان أن تقولوا للرجال لا تحملوا السلاح لتدافعوا عن شرفكم ولو كنتم تعرفون الشرف والكرامة لما أصدرتم بيان العار والخزلان والاستسلام”.
وناشد البيان كل من يستطيع حمل السلاح ليحمي عرضه وماله وأرضه باعتباره أنه واجب شرعي وموقف رجولي يسجله التاريخ، وأدان عمليات الإبادة التي قام بها متمردو الدعم السريع.
مبررات التسليحوكان عضو المقاومة الشعبية وتحرير الجزيرة حسب الرسول طه قال في مداخلة على قروب دعم مشروع الجزيرة رداً على منتقدين لتسليح المواطنين: “هل نحن الذين ذهبنا للدعم السريع في مكانه أم أنه هو الذي جاء الينا في بيوتنا؟”.
وأضاف: “الذي يحدث تهجير متعمد لأهالي الجزيرة لإفراغها من سكانها وتوطين آخرين في محلهم من عرب الشتات هذا الأمر ندركه جيدا هؤلاء الجنجويد هذا سلوكهم يدخلون القرى يسرقون وينهبون ويغتصبون يقبضون البعض كرهائن ثم يحرقون المحاصيل ومؤخرا بدأوا بكسر الترع على الذين يرفضون الخروج من قراهم باختصار هم يحاولون القضاء على أسباب الحياة حتى يهرب المواطنون ويأتي أهلهم وذويهم من عربان الشتات للسكن في الجزيرة”.
وتابع طه: “إذا كان المقصود هو السرقة فقط لماذا يهجرون المواطنين ويطالبوهم صراحة بمغادرة القرى هل هذه هي الديمقراطية المزعومة التي يبحثون عنها في جيوب وممتلكات المواطنين”.
وزاد: “أي شخص يطالب بعدم تسليح المواطنين عليه أن يراجع وطنيته بل يراجع إيمانه هل قرأ القران والاحاديث؟”.
واستطرد طه: “استغرب للرافضين لتسليح المواطنين كيف يفكر هؤلاء هل القرى هذه فيها جيش حتى نتركه يدافع عننا”.
وأردف: “هل ترك الجنجويد المواطنين السلميين الذين لا يحملون السلاح الم يسرقوهم ويغتصبوا اهلهم؟ إذا كان هؤلاء الذين يطالبون بعدم تسليح المواطنين يخافون عليهم من الموت نقول لهم المقاومة الشعبية في الجزيرة مستمرة بقيادة اللواء عبد الله علي الطريفي والموت بكرامة أفضل من الموت بذلة ومهانة”.
تجربة فاشلةلكن الخبير الأكاديمي د. عثمان فتح الله، يؤكد أن تجربة تجييش المواطنين في السودان فاشلة وتمت تجربتها مراراً وتكراراً وتكلفتها عالية يدفعها المواطن.
وقال لـ(التغيير)، إنها ربما تحول الحرب الحالية إلى حرب أهلية يقتل المواطن جاره وصديقه وزميله، وهذا نتاج طبيعي لما يدور في السودان من احتكار السلطة لجهة واحدة “العسكر” ووأد التجارب الديمقراطية.
وأضاف فتح الله بأن الذين يقولون بسهولة جمع السلاح بعد الحرب لا يقرأون التاريخ جيداً وهم بعيدون عن الواقع، وأشار إلى أن آخر لجنة لجمع السلاح في دارفور كونها نائب البشير السابق حسبو محمد عبد الرحمن في العام 2017م فشلت فشلاً ذريعاً بل أن رئيسها نفسه انضم للدعم السريع وحمل السلاح.
ونبه إلى أن الغبن موجود دائماً في الحروب نتيجة للانتهاكات هنا وهناك، ولكن هل هذه الطريقة المثلى لحل النزاعات وأخذ الحقوق؟ وقال: “دول كثيرة جربت ذلك وعادت لصوابها رواندا، جنوب أفريقيا وفي النهاية سندور في ذات الحلقة ونعود للتفاوض باعتباره الطريقة الناجحة لحل النزاعات والصراعات”.
الوسومالأمن الجيش الدعم السريع السودان الشرطة الضباط تسليح المواطنين حمل السلاح مدني مشروع الجزيرة ولاية الجزيرةالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الأمن الجيش الدعم السريع السودان الشرطة الضباط تسليح المواطنين حمل السلاح مدني مشروع الجزيرة ولاية الجزيرة تسلیح المواطنین الدعم السریع للدعم السریع فی السودان عبد الله
إقرأ أيضاً:
مراسلو الجزيرة بقطاع غزة بين فاقد ومفقود ومولود
بلا درع ولا خوذة، يجلس الصحفي أنس الشريف هادئ الملامح، دون ملاحقةٍ لاستهداف أو هرولةٍ نحو مجزرة، في حجره طفلاه، وعلى جانبيه زوجه ووالدته، في مشهد عائلي حرمته الحرب منه مدة طويلة، يلقّن ابنه "صلاح" وهو وليد الحرب لفظ "بابا". يعيد صلاح من خلفه الكلمة، يبتسم أنس متنهداً "أخيرًا صار يعرفني، هذا هو الشعور الذي قد ينسيني آلام الحرب كلها".
لم ير الشريف ابنه خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلا ساعات معدودة، مما جعل الطفل غير متقبل لأبيه، باكياً كل مرة كانت أمه تصحبه فيه لرؤية والده خلال الحرب.
استعادة أجواء العائلةورغم انتهاء الحرب فإن الاعتياد على أجواء العائلة يبدو عسيرا للشريف خاصة بعد الفترة الطويلة التي قضاها بعيدا عنهم خلف الكاميرات وعلى خطوط النار، كما أن تصاعد الأحداث واستمراره في التغطية يحرمه من الاستقرار في منزله.
وبينما كان مراسل الجزيرة وما يزال منهمكاً في الميدان الصحفي، فإن زوجته بيان تمارس دور الأم والأب معاً، وتتولى رعاية طفليهما، وقد كان ذلك يبدد قلق الشريف خلال انخراطه في عمله، ويذكرها بحب وفخر "زوجتي لم تتركني، رفضت المغادرة رغم توفر الفرصة، وتحملت مسؤولية طفليَّ".
إعلانويستذكر الصحفي ظروف العمل الصعبة ودخوله في حالة من القلق الدائم خلال شهور من الانقطاع التام عن عائلته وانعدام أخبارهم بسبب انقطاع الاتصالات والإنترنت فقد "مرت علي أشهر لا أعرف فيها عن عائلتي شيئًا، لم أكن أعلم أماكن وجودهم أو حتى إن كانوا بخير".
الشهيد الصحفي إسماعيل الغول كان يتلهف للاجتماع بطفلته زينة التي لم يرها منذ بداية الحرب (الجزيرة) صوت أهليوبين أصواتٍ ترى مراسل الجزيرة متهورًا وأخرى تراه بطلاً، يختصر الرجل موقفه بجملة واحدة "من يبادون ويجوّعون ويهجرون هم أهلي وجيراني وأبناء شعبي، ومن واجبي أن أكون صوتهم، مهما كلفني الأمر".
فلم يبرح الشريف الميدان رغم التهديدات المتكررة، وبقي خلف الكاميرا حاملا الميكروفون، ولم يتراجع لحظة عن رسالته، مستمرًا في فضح جرائم الاحتلال طوال 470 يومًا بلا هوادة، فقد خلالها عددا كبيرا من عائلته وأكثر من 200 صديق.
حمل الأمانة رغم التهديدلم يمر شهر خلال الحرب بلا تهديد إسرائيلي أو اثنين للشريف، تهديد تعددت قنواته فقد كان الاحتلال يمرره إليه عبر منصاته الشخصية بشكل مباشر، أو عبر واتساب، وإما بالنشر على صفحات المتحدثين باسم الاحتلال الرسمية، وقد كانت باكورتها استهداف منزله دون سابق إنذار، وقد استشهد إثر ذلك الاستهداف والده.
ويبتلع الشريف دموعه وهو يتحدث عن فقد والده الذي مازال صدى وصيته، "استمر يا أنس" يُقرع في أذنيه، وسألته الجزيرة نت: هل أخافك استشهاد والدك واغتيال رفيق دربك إسماعيل الغول، فجاء رده حاسمًا "لم أخف، بل على العكس فقد زادني ذلك إصرارًا، وصية والدي أصبحت أمانة في عنقي، كما أنّي الآن أكمل رسالة إسماعيل، وأواصل نقل معاناة الناس التي حاول الاحتلال إسكاتها".
والحنين يملأ عينيه، يتحدث الشريف عن صديقه الراحل "لا يغيب طيفه عني خلال هذه الفترة لقد كان متلهفاً لانتهاء الحرب، ويسألني دوماً: متى تنتهي الحرب لنستقر في مأمن مع عوائلنا؟ ويبوح لي بشوقه للاجتماع بزوجته وابنته".
الشهيد الصحفي الغول في لقاء عائلي خاص (الجزيرة) الحلم المفقوداجتماع لم يُكتب له التمام، وقد توقف الزمن عنده في عيني ملك (زوجة الغول) فتقول وهي تتحشرج بدمعها "يوم العودة إلى غزة كان حلمنا الكبير، كل المكالمات بيننا كانت عن هذا اليوم، عن لحظة اللقاء على الحاجز" لقد كانت وابنتها زينة تحلمان بعناق طويل تنقلها وطفلتها من ضنك الحرب إلى سعة حضنه، فكل ترتيبات لقائهما كانت تسير على ما يرام إلا أن يختفي الرجل من حياتها هذا أمر لم يخطر على البال ولم يكن في الحسبان.
إعلانوتسترجع ملك آخر أحاديثها مع زوجها للجزيرة نت، فتقول "سألتُه حين نلتقي من ستحتضن أولا؟ أنا أم زينة؟ أجابني ضاحكا: تغارين من ابنتك؟ قلت نعم، فردّ أنت قبل الكل يا أم زينة". وكل مرة يكتنفها الخوف وتشعر نفسها محاطة بالموت فتبوح له بقلقها فيطمئنها قائلًا "إحنا مش هنستشهد، هنظل عايشين ونشوف بعض وننسى كل الأيام الصعبة".
وتغلب أم زينة الدموع، وتضيف "كل العائدين إلى غزة سيلتقون بأحبابهم وأنصافهم إلا نحن زوجات الشهداء حين نعود سنزور قبورهم ويتحوّل يوم لقاء الحبيب إلى يوم زيارة قبره" وبينما توقف شلال الدم، لكن شلالا من الدموع لم يتوقف منذ إعلان الاتفاق، خاصة حين تفتح ابنتها عليها نيران أسئلتها "متى سنذهب مع بابا إلى البحر؟ متى سنعود إليه؟ متى سنصعد نحو الجنة؟".
سقوط نتساريم ولمّ الشمل
وبين صحفي مفقود وآخر فاقد، كان هناك صحفيون كثر يتلهفون لانتهاء الحرب لينتهي البُعد وتطوى المسافات وليجتمعوا بأطفالهم الذين أجبرتهم الحرب على الابتعاد عنهم، والانشطار في نصفي القطاع جنوبا وشمالا، فلم يكن الصحفي محمد قريقع بحاجة إلى أكثر من لحظة واحدة يحتضن فيها أطفاله ليشعر أن الحرب قد انتهت بالفعل.
فمع اندلاع الحرب، اتفق الصحفي مع زوجته على الانتقال جنوبا مع أطفاله، خاصة بعد أن وضعت زوجته مولودها صبيحة الحرب، بينما بقي هو في غزة مع والدته التي نزح معها داخل المدينة أكثر من 14 مرة، حتى استُشهدت في حصار مجمع الشفاء، حيث أُعدمت أمام بوابته، تاركةً خلفها وجعًا لا يندمل.
وكبر الأطفال بعيدًا عن عيني الأب، في حياة لا تشبه حياتهم القديمة، الأمر الذي جعلهم أكثر إدراكاً ومنحهم وعياً يسبق أعمارهم، وقد كان قريقع يتغلب على شوقه إليهم بتواصله الدائم معهم، يتفقد تفاصيلهم ويستمع إليهم وهم يرددون ما حفظوه من القرآن، لكنه كان يفتقد دفء وجودهم بجانبه، كما أن التوتر والقلق كانا يلازمانه الأيام الأخيرة قبل وقف إطلاق النار، فقد كانت المخاوف تتضاعف، فكل لحظة كانت تهدده بالخسارة.
إعلان رجوع الروحكان يوم عودة أطفال قريقع إليه بمثابة رجوع الروح "فقد ذهب ظمأ البُعد وابتلت العروق" يتحدث للجزيرة نت عن تفاصيل ذلك اليوم حيث كان العثور على أطفاله من بين مئات الآلاف تحديًا مرهقًا، ساروا 9 كيلومترات للوصول إليه، تشيح أعينهم بحثاً عن حضنه الذي افتقدوه طويلًا، عاد قريقع بأبنائه إلى ما تبقى من منزله في حي الشجاعية، محاولا استعادة جزء من الذاكرة.
لكن قريقع حتى اللحظة لم يجد إجابة لسؤال أطفاله عن جدتهم التي آثر البقاء معها ولم يعرفوا برحيلها بعد، فقد كان أول ما نطقت به ألسنتهم عند لقائه "أين جدتنا يا بابا؟".
عودة بلا أحضانوبينما كان مئات آلاف الغزيين يتدفقون عبر الحاجز الزائل للقاء أحبابهم، كان هناك آخرون يعودون بلا أحضان تنتظرهم، بلا وجوه مألوفة تلوح لهم من بعيد، وكان البحث عن الرفات وانتشال جثامين أحبتهم هو وجهتهم.
"عدت وحيدًا، لم أجد أحدًا من عائلتي ليستقبلني" يصف الصحفي مؤمن الشرافي للجزيرة نت شعوره عندما وطئت قدماه مدينته بعد 15 شهرًا من التهجير القسري، بصوت تختلط فيه الحسرة بالألم فقد "كان الهواء الذي أتنفسه مختلفًا، كأنه أول نفس لي منذ سنوات، هواء غزة هو هواء طفولتي وحياتي".
رجوع إلى العدملكن تلك اللحظة التي لطالما حلم بها تحولت إلى صدمة موجعة عند وصوله إلى مخيم جباليا، حيث كان منزله يوما ما، فلم يجد سوى فراغ مطلق، لا ملامح للمخيم ولا حتى أثر للبيوت حيث إن "جباليا لم تعد موجودة، المخيم ممسوح تمامًا عن وجه الأرض" كما يروي الشرافي، وقد استعان بجار له ليحاول التعرف على معالم المنطقة التي محاها الدمار.
وبينما اختطف الموت بعد شهرين من بداية الإبادة أكثر من 20 فردا من عائلة هذا الصحفي، فإن جثث 6 منهم بينهم والده وإخوته لا تزال تحت الأنقاض حتى اللحظة، وهم جزء من 10 آلاف غزي ما يزالون في عداد المفقودين بحسب إحصائيات الدفاع المدني.
إعلان"رغم كل ما رأيت، لا أستطيع التوقف عن التغطية، هذا الدمار الذي أفنى كل شيء يجب ألا يمر بصمت، هناك آلاف القصص التي لم تُروَ بعد، وآلاف الأرواح التي تحتاج أن يعرف العالم عنها" يقول الشرافي الذي أقصى ما يتمناه اليوم أن تعود غزة كما عرفها: ناسها، ضحكات أطفالها، معالمها التي كانت شاهدة على تاريخها.
وفي انتظار ذلك يتشبث الشرافي بالأمل الذي عاش فيه النازحون وتزودوا به طيلة فترة بُعدهم عن أحضان مدينتهم التي خُلقت لتبقى، كما يقول أبناؤها.