ويبقى «التفاؤل والأمل».. مصطلحًا «فَضفاضًا» حدَّثنا عنه علماء النفس والاجتماع، رغم أن الواقع يثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن من طبائع البشر دائمًا وجود حالة من «اليأس» باعتبارها جزءًا من قوانين الحياة.
لذلك، عندما نقول إن كان من حق الإنسان الوصول إلى مرحلة الإحباط القصوى، فإنه من العار أن يتحول ذلك إلى حالة عامة، من اليأس، الذي يعتبر بمثابة انتهاء للحياة وانتحار للقلب والروح.
إذن، يظل «التفاؤل والأمل» سلاحًا ناجعًا لمواجهة أوجاعنا ومراراتنا ومعاناتنا، رغم أن الكتابة عن الأمنيات في بعض الأحايين تعد ضربًا من الخيال أو الجنون، خصوصًا عندما يكون التشاؤم هو الوجه الآخر في حياتنا، وبالتالي تكون المحصلة انهزامًا وانكسارًا.
ربما نعيش الآن أكثر اللحظات الحرجة والحسَّاسة في تاريخنا المعاصر على الإطلاق، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بأحوالنا الاقتصادية والمعيشية، التي تعد في أسوأ حالاتها، أو يمكن القول إنها الأسوأ على الإطلاق، لكن هذا الوضع «المؤقت» يجب أن يدفعنا جميعًا إلى التفكير الجَدِّي في البحث عن المخارج والحلول.
عندما نحاول التفكير بعمق وهدوء عن الحلول المناسبة، المقرونة بالأمل والتفاؤل، يجب أن تنتهي وتتوقف معها محاولات الكثيرين عند إلقاء المسؤوليات على هذه المؤسسة أو ذلك الشخص أو المسؤول، كنوع من تبرئة الذمم، وهروب من المسؤولية.
إذن، المطلوب هو إطفاء الحريق الآن، وليس البحث في أسباب نشوبه، وما عدا ذلك يبدو لي أقرب إلى التفكير العقيم الذي لن يُنتج حلولًا لأحد، في وقت يعتقد فيه الكثيرون أننا نسير إلى الهاوية، خصوصًا عندما نستسهل إلقاء التُّهم جُزافًا على بعضنا بعضًا، دون البدء في تقديم رؤىً جديدة.
نتصور أنه إذا كان البعض يريد حلولًا، فالحل مجتمعي ومشترك، وليس بيد طرفٍ واحد، حيث يظل لدى جميع المؤسسات التنفيذية والتشريعية والنقابات المهنية والأحزاب وجمعيات المجتمع المدني، وصولًا إلى المبادرات الفردية.
إذن، المطلوب الآن جهود جماعية من دون إفراط أو تفريط، أو التنصّل من المسؤولية، أو البحث عن كبش فداء، وذلك بالطبع يجب أن يكون مقترنًا بمحاسبة صارمة لكل متواطئ أو فاسد، أو حتى مهمل، وكذلك حُسن انتقاء الكوادر التي تتمتع بالنزاهة والكفاءة.
إننا بالفعل نمر بظروف بالغة القسوة، ولا أعتقد أن اليأس والقنوط هما طريق للحل، بل يجب تكاتف الإرادات للخروج الآمن الذي لا مكان فيه للخلاص الفردي، لأننا ببساطة في أمسِّ الحاجة لإرادة صلبة وعمل مستمر وتفكير جديد خارج صندوقنا المعتاد!
أخيرًا.. يبقى التمسك بالأمل والتفاؤل فرض عَيْن على الجميع، فليس أسوأ من الشر عندما تضيق معايش الناس، وهنا لا أريد زراعة التفاؤل، ربما ليس وَلَعًا به، لكن كُرْهًا بالإحباط واليأس.
فصل الخطاب:
يقول «وليام شكسبير»: «الإصرار على التفاؤل قد يصنع ما كان مستحيلًا».
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: المسؤولية المجتمعية محمود زاهر الفساد الاوضاع الاقتصادية
إقرأ أيضاً:
أمنية رجل مريض (2)
د. إبراهيم بن سالم السيابي
أعود هذه المرة إلى المستشفى وأنا مثقل الخُطى، حتى جدران المستشفى وممراته اكتست رأيتها مكتسية بلون قاتم السواد، وأنا الذي كنت أظنها طول هذه السنين مطلية بطلاء شديد البياض، حتى الجدران في الممرات بدت خالية لا توجد عليها تلك الأوراق المعلقة في الحائط؛ بما فيها من تعليمات وإرشادات، وكأنَّ الريح قد اقتلعت تلك الأورق في يوم عاصف.
في ذلك الهدوء، الحراس كأنهم تركوا أماكنهم عند أبواب الحراسة، رغم أن وقت الزيارة لم يحن بعد، والأطباء والكوادر المساعدة من ممرضين وفنيين ومساعدين بدوا وكأنهم يتهامسون على غير العادة وهم بتلك المعاطف، التي بدت هذه المرة أكثر قتامة عن أيام كثيرة، بالرغم مما علق بها من رائحة المحاليل والأدوية التي تزكم الأنوف.
عندما وصلت إلى غرفته لم تكن نفس الغرفة التي تركته فيها في آخر زيارة؛ فالصمت يُخيِّم على المكان، وكأن من في هذه الغرفة لا يعرف الليل من النهار، وكأن عقارب الساعة قد توقفت منذ مدة، أو أن حركة دوران الأرض حول الشمس قد تغيّرت. في الطريق كنت أُمنِّي النفس بمثل تلك الزيارة، وضحكاته تملأ المكان، بأن يعود ليُحدِّثُني عن الذكريات، عن المواقف، عن تلك السنين التي مرّت في اللعب والجد والهزل، لكن مع الأسف هذه المرة قد كان غارقًا في نوم عميق، ولم يعد قادرًا ليُحدِّثُني عن الأحلام وعن الذكريات وعن الطفولة أو عن أيام الصبا والشباب وعن البيت والأسرة والأصدقاء وعن المواقف التي جمعتنا في السفر ولا حتى عن رحلته إلى المدينة وإلى زمزم وإلى البيت العتيق.
توجَّهت إلى أصحاب المعطف الأبيض، عرِف ما أريد وأخذ يبحث في حاسوبه في كل صفحة لعله يجد شيئًا بين السطور، قرأت من وجهه العابس فأشفقت عليه من عبء الاعتذار؛ فلسان حاله يقول إنه لم تعد تجدي مع صاحبك المسجى على السرير تلك العقاقير التي تملأ مخازن الأدوية، ولا تلك المحاليل بمختلف الألون أو حتى مشارط الجراحين ذات الأحجام المختلفة؛ فالشمس قد قاربت على المغيب.. شكرته وانصرفت. ثم عُدتُ مرة أخرى إلى الغرفة، لم أقوْ على البقاء، فنظرت إليه في السرير المسجى عليه، نظرة أخيرة، وكانت كافية، وقفلت راجعًا من حيث أتيت.
وأنا أهمُّ بالخروج من القسم، سمعتُ صرخة أحدهم قد فقد عزيزًا وفي الجانب الآخر في قسم قريب من المكان سمعت صرخة أخرى لطفل يأتي إلى هذه الدنيا؛ فسبحان الله عندما يُولد الإنسان في هذه الدنيا تسمع صراخه يبعث الأمل والفرح، وعندما يودع هذه الدنيا تسمع صراخ أحدهم عليه من الألم والفقد.
وعند خروجي من المستشفى هائمًا لكي أعود من حيث أتيت مثقلًا بالحزن هذه المرة، وأنا الذي قضيت في هذا المستشفى عدة سنين لم يعكر صفوها إلّا الرحيل إلى درب آخر وحلم آخر. عندما خرجت من المبنى كنت أتأمل الشمس وأتوسل إليها، لكي لا تغيب؛ فالليل أخاف أن يكون مُظلمًا عندما يغيب عنه القمر!
وأخذت أحدِّث نفسي، أترحلُ عنَّا دون حتى وداعٍ وتتركني مع قراطيسي وأقلامي وصوري ورسائلي وذكريات لا تحصى ولا تعد.. أترحلُ وتترك كل هذا الأحلام والجري والركض نحو الأمل، فكيف تستسلم وأنت دائمًا من علَّمنا بألا نعرف الياس أو الاستسلام، أم أن ذلك الذي يشغلك ويثقل صدرك والذي لم تشارك فيه أحدًا حتى أنفاسك، قد غلبك، فقررت الرحيل عن أحبتك ورفاقك؟ كيف لهذا القلب العامر بالحب والفرح، والروح العامرة بالألفة بالطيب والتسامح أن يتعطل في تلك الغرفة مع بعض الأجهزة والمحاليل؟
وماذا عن حبيبتك؟ ألم تطلب مني في آخر زيارة أن أكتب لها؟ ماذا عساني أن أكتب لها هذه المرة، فأنا أعرف أنك تريدني أن أكتب لها لكي تقرأ أنك أحببتها حتى قبل أن يُعرف الحب في هذه البسيطة وقبل أن يكتب الشعراء قصائد الحب والغزل أو تُلقى في سوق عكاظ! وأنك قد شغفتها حبًا خالصًا من داخل أعماقك، وكان حبها يزيد مع الأيام طول هذه السنين رغم البُعد والاستحالة، وأنك وُلِدَت في هذه الدنيا فقط لكي تحبها وأن هذا الحب لا يعرف المكان ولا الزمان؛ فهو حبٌ وُلِدَ ليبقى، حتى لو فارقت الروح الجسد.
أتذكر عندما قلت لي إن من تحبها هي نبضات قلبك الذي يتسارع بمجرد أن تذكر اسمها بينك وبين نفسك، وإن كنت ترى الأشياء في هذا العالم بشكل مختلف ويصبح كل شيء أجمل من خلال عينيها، وأن حبها هو الذي يضيء قلبك وسط عتمة الحياة، تمامًا كما يضيء القمر ليل السماء.
كيف لك أن تترك وتُوَدِّعُ كل هذا؟ من سيلهمني الشعر ونظم القصائد؟ من سيعلمني الكتابة عن الحب، فأنت من يقول إن قلمي وحده من يقرأ الخبر في قلبك قبل أن تتحدث؟! أم أن الألمَ دليلُ الحياة، وذوو المعاطف البيضاء قد يعودون ويُغيِّرُون آراءهم وأن المعجزات من الله لن تغيب، حتى لو غَيَّب الموت الرسل!