الشباب والطوفان: رأيت الدين في المقاومة
تاريخ النشر: 31st, October 2024 GMT
عالج الجزء الأول من هذا المقال ملامح ظاهرة التدين بين الشباب العربي في ضوء تحليل المادة الثرية التي قدمها الصحفي النابه عبد القدوس الهاشمي في موقع الجزيرة نت، واستغرقت منه 8 أشهر التقى خلالها بعشرات الشباب والشابات العرب حول العالم من الفئة العمرية بين 20 و40 عامًا لرصد تحولات كثير منهم بعد الطوفان – طوفان الأقصى – من "اللامبالاة" إلى حالة التدين الجارف، بل وأحيانًا التأهب للانخراط في الحالة الإسلاميّة الواسعة، ومناصرة المقاومة في فلسطين.
وتناول الجزء الأول النقاط التالية:
رصد الاتجاه المتصاعد لاستعادة التدين بين الشباب. رصد ملامح التدين الشبابي. دراسة عناصر الاستمرار والتغير في تدين الشباب العربي.ونقدم في هذا الجزء من المقال قراءة في مقابلات الهاشمي للبحث عن ملامح الاستمرار أو التغير في تدين الشباب، وكيف تشكل ذلك في ضوء الطوفان، ومن أبرز هذه الملامح:
1- الفردية في مقابل الجماعيةبرغم محاولة خلق هوية جماعية لهؤلاء الشباب لتلعب دورًا كمحضن آمن لهم في ظل ضغوط مجتمعية متعددة، فإن هذه الهوية يرسم ملامحها الفرد من جهة القبول بها، أو الانسحاب منها.
فردية التدين لا تتأتى فقط من اختفاء الإطار التنظيمي الذي يربط الفرد به لسنوات طويلة ويلعب دورًا محوريًا في تشكيل عقليته ووجدانه، ورسم ملامح علاقاته بمجتمعه الخاص والعالم من حوله؛ ولكن الفردية تتمثل في تعدد مصادر التلقي وتنوعها وتجاورها برغم ما بينها من تمايز واختلاف وأحيانًا تضاد.
ترسم العلاقة مع مصادر التلقي باختيار الفرد أولًا واستشعاره بالراحة لها فيستمر، ويغذي ذلك ما أطلق عليه أحد الباحثين ظاهرة "إسلاميي الإنفلونسرز" التي يُعاد تشكيلها بشكل دائم لارتباطها بطبيعة السوشيال ميديا كما قدَّمنا.
زادت مؤخرًا البرامج العلمية الشرعية الافتراضية، وجذبت عددًا كبيرًا من الشباب، وكانت بمثابة خطوة على طريق محو الأمية التعليمية لديهم، وإن لم تكن هذه البرامج محصورة في بلد بعينه.
وبرغم تأكيد عديد الدراسات على فردية التدين الشبابي في المرحلة الراهنة؛ فإن هذه الحقيقة لا تسعفنا في فهم تعقيد الظواهر وتركيبها، ولا تفتحنا على أسئلة متعددة تتطلب جهدًا مكافئًا يستهدف استكشاف مساحات التقاطع بين الديني لدى الشباب والشابات العرب وبين المجال: المعرفي، والاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، والتنظيمي في العقد الأخير.
مساحات التقاطع هذه تطرح علينا أسئلة كثيرة يجب أن نهتم بها، إذا أردنا تحليل وفهم ظاهرة التدين الشبابي الآن ومآلاته المستقبلية.
أبرزت المقابلات تطورًا مهمًا في علاقة الفردي بالجماعي لدى هؤلاء الشباب. ربما يجد هذا تفسيره في الطوفان، الذي هو بحكم طبيعته فعل جماعي يستند إلى فاعلية الفرد الذي يظهر في كثير من أحداثه ووقائعه، وتمتد تأثيراته لتطال قطاعًا عريضًا من الناس.
برز من خلال المقابلات اتجاه واضح لدى هؤلاء الشباب والشابات للتوازن بين الذاتي والجماعي: الذات حاضرة لا يمكن تجاوزها أو القفز عليها، بحكم مراكمة الخبرات الحياتية والفكرية والعملية، والخوض في تجارب متعددة. برغم هذا الحضور للذات وعدم تماهيها في الجماعي؛ فإنه يتم رؤيتها – أيضًا – في إطار فاعليتها الجماعية.
يبرز في المقابلات جميعًا أصوات أصحابها، ويتحدثون بالإحالة إلى ذواتهم، ولا يتبرؤُون من تجاربهم أو حيواتهم السابقة، وإن بدت موغلة في الكفر أو المعصية والذنوب، وهو ما يمثل درجة عالية من التصالح مع الذات، وقدرة على النقد الذاتي، ورغبة في الانتقال لحال أفضل، مع إدراك للعناصر التي يجب الاحتفاظ بها من تجربتهم السابقة.
تتأسس العلاقة الجديدة مع الدين على الحرية والاختيار والقناعة؛ لا سلطة الشيخ أو المذهب أو التنظيم أو التعاليم والتقاليد الاجتماعية.
مثّل التلقي المباشر من القرآن خبرة مشتركة بين الجميع. تتباين الإجابات والمقاربات والطرق التي أخذها كلٌّ منهم في إعادة تصوره للدين والإيمان، وتجمعهم مركزية العودة إلى القرآن في كل تجربة من هذه التجارب، لكنها مقاربة عملية لا نظرية، بما يذكرك بخطاب سيد قطب (1906-1966) لا مفاهيمه عن الحاكمية والجاهلية.
سلمى التي تنتمي لجيل زد، عندما أرادت أن تصلي ولم تعرف كيف؛ لجأت لأدوات التواصل الاجتماعي: "لقد صليت أول صلاة في حياتي، أنا لا أحفظ الفاتحة! لكني صليت.. فتحت اليوتيوب وقلَّدت ما رأيت! لو تمنيت شعورًا يعم الناس ليعيشوا في سلام فسيكون شعوري بعد أول صلاة!"
سمير – الروائي ذو الـ27 عامًا، لا يزعجه وصف المثلية. يقول: "لا يزعجني أن يمارس الناس حريتهم!"، وإذا وصف بالشذوذ؛ يجيب: "دعني أجيبك بصراحة، أنا مؤمن بحرية الناس في تجاربهم الجنسية".
اتخذت الجماعية أشكالًا عدة لدى الشباب والشابات: نوال مصممة الأزياء ذات الـ38 ربيعًا – التي هاجرت من أميركا وليس إليها – عادت إلى الإيمان، الذي لم ينقذها شيء سواه، على حد قولها، لكنها عاشت حياة تقشف قاسية. لماذا التقشُّف؟ – يسألها الهاشمي، فتجيب: "مشاركة لأهلي وإحساسًا بهم أولًا، ثم لأن أموالي تذهب لاقتصاد يدعم إبادتنا، شعرتُ بالاختناق، أميركا جزء من الحرب علينا، قررنا المغادرة، لا يستحقون دولارًا واحدًا منا".
هذان مجرد مثالين من أمثلة عديدة تمتلئ بها المقابلات، يبحث فيها أصحابها عن دور مستقبلي لمواجهة تداعيات الطوفان، ولكن مع تأكيد للذات لا إنكار لها.
2- اللاأيديولوجياتتبدى اللاأيديولوجيا في جميع المقابلات تقريبًا، سواء بإدراك خطأ مساواة الإسلام بالأيديولوجيا، أو برفض الأيديولوجيات السياسية والفكرية التي لم تستطع أن تقدم إجابة عن تحديات الواقع، في حين نجح الطوفان في التعامل مع أسئلة هذا الجيل وإحباطاته، وكأنه صُمم للإجابة عن أسئلة هذا الجيل، كما ورد في إحدى المقابلات.
جرى إعادة اكتشاف معاني الدين من خلال الممارسة الواقعية لا التجربة النظرية. استعادة التدين جاءت بفعلٍ لا بخطاب ديني جديد أو اكتشاف للقديم، فلا حديث عن أطروحات الدعاة الجدد أو المجتهدين العظام ولا مقولات الإسلام السياسي العامة الفضفاضة، بل عن فعل حماس وصمود المقاومة.
يجري البحث عن خطة عمل، لا تحليل وتنظير لفهم الواقع.
يقول نديم الذي ترك حماس منذ سنوات مخاصمًا: "عاد عليّ سؤال السياسة بالاكتئاب، كل ما يقوله لنا مفكرونا في تفسير الواقع وإيجاد حلول لا أثر له، وكأن خلاصاتهم معطوبة". يضيف: "إلى أين أنتمي؟ سألتُ نفسي، إلى مشروع فكري لا يستطيع أن يؤثر في الواقع ولا تبدو له جدوى. كنت أرى نفسي جنديًا، ليس هناك مكان لهذا الجندي. المشروع القومي وأدبيات التحول الديمقراطي ليس لهما أفق!".
ديمة – إقطاعية غزة ذات الـ32 عامًا – تعيد اكتشاف الدين من مداخل عديدة: "رأيت وجهًا آخر من التدين أو الدين في المقاومة، كما رأيته في خُطة العمل كما رأيته في المقاومين أو التربية ومحاضنها التي أنشأت المقاومين أو في ذاتي".
توقفت العقائد والأطروحات السياسية والأيديولوجية عن العمل، وقدَّم الطوفان – في تقدير هؤلاء الشباب – خطة العمل، ولكن لا أدري إن قدَّم الأطروحة السياسية والفكرية التي استند إليها أم لا؟
تقول سلمى التي تنتمي لعرب الداخل وفلسطينيي 48: "على المستوى النفسي، كل ما كنت مسلحة به فكريًا خذلني، تربية مخيمات التجمع الوطني الديمقراطي، وهو حزب يعرّف نفسه كحزب فلسطيني، ويعرف فلسطين بحدودها التاريخية، ويدعي أن ثمة طريقًا في المواءمة بين المواطنة الفلسطينية والديمقراطية الليبرالية والقومية العربية.
كان من المفروض أن الترسانة الفكرية للحزب تجيبك عن كل ما يحصل. بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول توقفت هذه العقيدة عن العمل، رأينا الديمقراطيات كيف تعمل، والليبراليين كيف يتحدثون وكيف تعالج الليبرالية هذه المسائل".
ينتفي الإسلام كأيديولوجية، لا تسمع عنه في المقابلات، هو ذو أبعاد غيبية لها تأثير في عالم الشهادة، أو من طبيعة روحانية، أو نموذج عملي يمكن استعادته، أو له حضارته المتميزة عن الحضارة الغربية.
تقول سلمي التي لم تتعلم شيئًا عن الإسلام من قبل: "أكبر خطأ وقعنا فيه، أننا قدمنا الإسلام على السويّة مع الأيديولوجيات الأخرى، الإسلام أكبر! لم ينقذني أي مفهوم للإله سوى الإله بالمفهوم الإسلامي".
تضيف: "بعد الأحداث دخلت في حالة تشبه الاكتئاب؛ وكنت بين خيار الانتحار، أو أن أصبح أسوأ شخص في العالم" [ أي بعدم اكتراثها لما يحصل لأهلها ] "، الإله بالمعنى الإسلامي، هو الذي منحني الراحة!". تضيف: "لقد تغيرت قناعاتي؛ أصبحت أعالج الأمور "بسوفت وير" مسلم، لا الليبرالية ولا الاشتراكية، دينكم هذا فيه كل شيء، لا تَستشكل شيئًا إلا ووجدتَ له جوابًا".
أخيرًا؛ فإن المقابلات خلت تمامًا من ذكر الشريعة، وإن احتوت مفاهيم غامضة حول الكفر والإيمان والولاء والبراء والأمة.
"لماذا لهم وزن وليس لدينا وزن؟ ما الذي ينبغي أن نعمله للأمة؟ لقد طفا سؤال الأمة في ذهني، أول شيء فكرت به مسألة الولاء التجاري، لا بد أن يفيد بعضنا بعضًا، هم يدعمون بعضهم، حتى لو كانت سلعته أقل جودة، لا بد من أن نوالي بعضًا تجاريًّا، والجودة ستأتي لاحقًا، ليش "محدّش" عمل لنا حسابًا، لازم نعمل مشاريعنا، برجر، وأحذية، كنا معتمدين عليهم، فاتحين لهم بيوتهم. آن الأوان أن نتحمل مسؤوليتنا كأمة" – هكذا تحدثت نوال التي تعمل في البيزنس وهاجرت من أميركا وأسرتها لتحقيق معنى الولاء والبراء عمليًا.
تعني اللاأيديولوجيا غياب الحديث في الشريعة وسط هؤلاء الشباب والشابات، وبرغم إشارة دراسات سابقة لحضورها بين متديني ما بعد الانتفاضات من الشباب والشابات فإنه غير واضح ما الذي يعنيه حضور الشريعة بينهم: فهل لا تزال مرجعيتهم الأساسية، وكيف يفهمونها؟ وما علاقتها بالواقع الذي يعيشون فيه؟
يظل الانطلاق من مرجعية الشريعة أساس التمييز بين إسلامي وغير إسلامي. فهل لم يستطع هؤلاء الشباب تجاوزها وإلا فقدوا معنى الانتماء للإسلامية، أم أعادوا اكتشافها وتعريفها متحررين من الأيديولوجيا التي يقدمها البعض نحو النفع والعملية فيأخذون ما يفيدهم منها في حياتهم؟ – أسئلة تستحق المتابعة.
3- منزع هُوياتي واضحبرغم غياب الأيديولوجيا فإن المتأمل في المقابلات يلحظ أن "ثمة حالة هُوياتية ظاهرة، وهو يشبه ما رصدته دراسات سابقة واستطلاعات للرأي أكدت أن الدين محدد أساسي من محددات الهُوية عند الشباب العربي".
تتبلور الهوية بالممارسة الحياتية اليومية وليس بالتلقين الأيديولوجي، لذا كان الطوفان مهمًا باعتباره عملًا واقعيًا من أمة محاصرة.
يبدو أن التشابه في الانتماء أو هذه الحالة الهوياتية بين هؤلاء الشباب والشابات يتمثل بصورة أساسية في أنه يتم بناؤها عبر الممارسات اليومية، وليس نتاج عملية التلقين التي تقوم بها التنظيمات أو بين طلاب العلم الشرعي، بالإضافة إلى السوشيال ميديا، وما توفره من سهولة التواصل اللحظي، وما تتيحه كذلك من تواصل مع المرجعيات أو الرموز المختلفة؛ وكل ذلك ربما يؤدي بدوره إلى تحويل هذه الظاهرة والعشرات من أتباعها إلى ما يمكن اعتباره "تيارًا عامًا"، يمكن تتبع سماته وأشكال الانتماء إليه.
يتم تفسير الإيمان بطريقة عملية لا فكرية، تبرز وظيفته الشخصية الواقعية، والكفاحية في مواجهة الواقع.
سمير، الذي يحمل المصحف بين ذراعين موشومين، وكان ذا ميول مثلية، يرى فائدة الإيمان الذي زاد لديه بعد الطوفان: "يشعرك بدرع رباني عندما تخرج في المظاهرات، يعطيك الإيمان حصانة ويلغي [مِن] أمامك الخوف من النهاية".
هذا المنزع الهوياتي يؤدي إلى إعادة اكتشاف الذات والآخر الغربي، وتمتد تأثيراته لفهم التجربة التاريخية للمسلمين في مواجهة الخبرة الحضارية الغربية، كما يساعد في تقديم إجابات عن الأسئلة العملية. يملك الدين عند هؤلاء الشباب والشابات قوة تفسيرية لما يعايشونه من واقع وأسئلة وتحديات.
وفاء – التي كانت تنفر من المتدينين وكانت على أعتاب الإلحاد – تكره سورة الأحزاب لما فيها من تقييد للنساء على حد قولها؛ عندما تعرضت لسؤال تربية أبنائها كانت الإجابة: "هزّني سؤال التربية؟ على أي قيم سأربي ابني؟ حينها سافرت إلى إسبانيا للسياحة، ورأيت وجهًا من حضارتنا المشرقة؛ نحن ابن صغير لأب ضخم، هكذا شعرت وأنا أتجول في غرناطة وقرطبة، عرفتُ أني سأربي ابني على قيم هذا الدين، الذي ترك أثرًا خالدًا في القيم والتسامح".
يجري رسم ملامح الهوية من خلال اكتشاف الذات في مواجهة الآخر الداعم لإسرائيل في عدوانها، لذا فقد قدمت سورة الأحزاب التي باتت تحبها وفاء تفسيرًا لما يجري في غزة من إبادة: "ثم لما جاء الطوفان واتفق العالم على إبادتنا كانت هي أعظم نص لشرح حالتنا مع الأعداء والمنافقين، أصبح القرآن يتحدث إلينا! بعد الطوفان، حفظنا آيات سورة الإسراء، وآيات المنافقين وعلقناها في الدار، هل تصدق إذا قلت لك: صار لبس النقاب على قلبي زي العسل؟".
تقول فاطمة – التي تزوجت أميركيًا أسلم، وتعيد اكتشاف الإسلام من خلال نظرته، وكانت تعمل كوسيط بين رجال الأعمال الأميركيين، وأغلبهم يهود، وبين نظرائهم من السعوديين: "صقلني الطوفان فكريًّا، صرتُ كافرة بكل شيء غربي، المواطنة العالمية والانفتاح أصنام عبدناها، وهدمها الطوفان، لا يسير العالم بالتفاهم، العالم يسير بالمركز والهامش، هكذا كان وهكذا سيبقى، الفارق بيننا وبينهم أننا حين كنّا مركزًا لم نلغِ الهوامش كما يفعلون هم. السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، قدم نموذجًا على قدرة الهامش على مزاحمة المتن".
4- التفاعلات تتم بطريقة شبكية لا مركزيةوهي سمة تجلت في المبادرات الكثيرة التي أطلقها الشباب والشابات بعد الانتفاضات العربية، وقد تفرعت لتنشأ من رحمها مبادرات أخرى، وهكذا تعددت الأطر التي يتفاعل من خلالها الشباب والشابات، كما انتقلت الفعاليات إلى خارج المدن الكبرى، لتعم جميع الأنحاء على المستويين: المحلي والجهوي.
صعدت مع الانتفاضات نماذج بديلة دينية وثقافية أصبح لديها سمت خاص مخالف لسمت التنظيمات الإسلامية، وبات لها – مع الوقت – أثر كبير في ممارسة بعض الأدوار التي كانت تقوم بها الجماعات قديمًا، وذلك كله دون التحول إلى تنظيم صلب.
ثمة ملاحظة أخرى بين المنتمين إلى هذا النوع من التدين على اختلافهم، وهي التنوع الواسع بين الشباب داخل هذه الأماكن، فليس جميع المنتمين على درجة فكرية واحدة يمكن تسميتها بـ "الأفكار الإسلامية" الأساسية أو الكبرى؛ وإنما يختلف هذا القدر من شخص لآخر، بل يختلف من كيان إلى آخر.
وهو ما يجعل البعض يميل إلى مكان بعينه وينفر من مكان آخر، بناء على الشخصية التي يحددها هو، ويصبح الانتماء هنا مؤقتًا وليس أبديًا كما في الانتماء للجماعات، ومتحولًا بشكل مستمر.
خلت المقابلات تمامًا من أية إشارة إلى تأثير التنظيمات الإسلامية في استعادة الإيمان أو التحول نحو التدين؛ بل امتلأت بنقد ممارسات هذه التنظيمات، خاصة في شقها الوعظي. قُدم الدين عندها من خلال تقييد سلوك الإنسان وبطريقة تدعو إلى تنفير شباب وشابات تربوا على الحرية والانطلاق.
يلاحظ بوضوح في مقابلات الهاشمي أن المدخل الأساسي لاستعادة التدين هو روحاني أساسًا، وهو ما يفسر انتشار التصوف العاطفي، خاصة وسط الفتيات، كما رصدته زينب البقري في دراستها.
5- المتدينون الجدد وسؤال السياسةالمقصود بالسياسة هنا ما يتعلق منها بالسلطة العليا في الدولة تغييرًا أو تقييمًا أو ضغطًا لتبني قرارات أو سياسات بعينها، وليس السياسات الصغرى المعنية بتغيير المجتمع، وتقديم الخدمات للمهمشين والضعفاء، وإلا فإن السياسة بالمعنى الأخير حاضرة بقوة وسط الشباب والشابات العرب بعد الانتفاضات العربية.
من الملاحظ وفق هذا التعريف: ضعف سؤال السياسة لدى الشباب والشابات المتدينين، خاصة أن هذه الظاهرة تشكلت في موجتها الأولى – أي بعد الانتفاضات العربية كرد فعل على فائض السياسة عند الإسلاميين – وطبيعة ممارساتهم فيها.
تعمق التراجع عن السياسة بعد تعرض الموجة الأولى 2011/2010 من الربيع العربي للانكسار، وزادتها الموجة الثانية 2019/2018 وضوحًا نتيجة اندلاعها ضد الإسلاميين الذين كانوا فيها في الحكم كالسودان، والعراق، ولبنان وإلى حد ما الجزائر.
تدلنا خبرات سابقة أن الحدود الفاصلة بين الانسحاب من السياسة أو العودة إليها ترتبط بتغير السياقات. الطوفان له سياقات متعددة وليس سياقًا واحدًا، لكنه في جوهره فعل سياسي بامتياز. هو يمثل لدى هؤلاء المتدينين الجدد استعادة للسياسة، وتأكيدًا لدورها المستقبلي، وإن تنوعت وتجددت مداخلها.
الطوفان يؤكد قدرة قضية فلسطين على استعادة السياسة الكبرى، وصياغة الاستقطابات الفكرية والسياسية في المنطقة، والمفاصلة حولها.
وبرغم أن الطوفان مثل لحظة مهمة لاستعادة السياسة لدى هؤلاء الشباب والشابات بالمعنى الذي أشرت إليه؛ فإنه يُلاحَظ عددٌ من النقاط:
غياب الخطاب الحقوقي من المقابلات جميعًا، على الرغم من أنه أحد الأبعاد الرئيسية للتفاعل مع الطوفان. اكتسب الخطاب الحقوقي قوة دفع كبيرة لمواجهة الإبادة الجماعية لأهلنا في فلسطين، كما ظهر في مظاهرات الطلاب بالجامعات الأميركية، ومحكمة العدل الدولية وكذا المحكمة الجنائية. ولأننا في بدايات التحول للتدين – البدايات تتصف بالاشتعال – ونعيش المأساة في فلسطين ونشاهد صورها على مدار اليوم، فالحسم والوضوح والانفعال في الموقف ظاهر جلي في المقابلات، لذا يصبح التساؤل مشروعًا حول: مآلات هذه الظاهرة وإمكانية تحولها نحو الراديكالية السياسية أو اختطافها بالتطرف الديني المسلح، خاصة أن نهايات الحرب على الفلسطينيين حتى الآن غير واضحة.قد يساهم في هذا انسداد الأفق السياسي في بلدان المنطقة، ومصادرة المجال العام في كثير من دولها، والربط الذي بات واضحًا بين خذلان الحكام العرب للفلسطينيين، وبين تدهور مستويات المعيشة لكثير من مواطني الدول العربية.
بالطبع، يمكن مناقشة: إدراكهم لمسألة العنف والاستجابة الجهادية، وموقع التغيير الثوري من تفكيرهم بعد ما جرى في الطوفان من خذلان الحكام للفلسطينيين وعجز الشعوب عن نصرتهم.
وأخيرًا وليس آخرًا؛ فقد أثبت هذا الجيل قدرة فائقة على الإبداع في ممارسة السياسة من مداخل جديدة غير ما اعتدنا عليه. تحدى السرديات الإسرائيلية، وقدم المقاطعة كفعل مقاوم ربط فيه بين نمطه الاستهلاكي وبين السياسة، وساعد في جمع التبرعات للفلسطينيين.
هذه الممارسات جزء من ظاهرة أكبر أطلقت عليها في مقالات سابقة "ما بعد السياسة" أو "السياسة الصغرى" كما قدَّمت، لكن تظل قدرتها على التحول نحو تغيير السلطة العليا في الدولة قائمة كما جرى في كينيا، وبنغلاديش، والسنغال مؤخرًا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات فی المقابلات لدى هؤلاء من خلال جمیع ا
إقرأ أيضاً:
«الطوفان» والجزائر وفييتنام: تفاؤل العقل والإرادة
بعد عقدين أو ثلاثة، وكأي من الثورات والحروب، سينقسم المؤرخون حول «الطوفان» وفقاً للسنوات، بين أحداث العام الأوّل والثاني وإلى أن تقع الهدنة. ولأننا نعيش في اللحظة، وما تفرضه من صعوبات وآلام وعواطف، فمن الصعب التوقف والنظر إلى المشهدية التاريخية بشكل أوسع وأشمل. هنا تأتي أهمية قراءة الشواهد التاريخية النظيرة وعِبَرها وما تخبرنا به، فهذه فائدة دراسة التاريخ، وهذه أيضاً القيمة العابرة للزمن للتضحيات الثورية لمن سبقونا من الشهداء والمناضلين.
لنحدد تاريخ نماذج الثورة الصينية والحربين التحرريتين لفييتنام والجزائر. تؤرَّخ هذه الحروب بأعوامها، ولحظاتها الحرجة والمصيرية، إلا أن ما تعطينا إيّاه هذه التجارب مجتمعة وبالنظرة الكلية لها، هو نموذج لتقسيم المراحل التي تمرّ فيها كل ثورة وحرب تحررية من الاستعمار. يقوم هذا الاجتهاد على الشكل التالي:
(1) مرحلة المبادرة، فيكون رد فعل الاستعمار الجنون والإفراط في استخدام فائض قوته، فنتلقّى الضربات المدوية،
(2) مرحلة الصمود وصراع الإرادات،
(3) مرحلة تحصيل المكاسب الإستراتيجية.
تتشارك النماذج الثلاثة في مراحل المبادرة: هجمات أعوام 1927-1934 للحزب الشيوعي على قوات الكومينتانغ، وهجمات الفييتناميين بدأ من عام 1959، وبيان الأول من نوفمبر 1654 وهجمات 1955 وصولاً إلى مؤتمر الصومام 1956 في الجزائر. دخلت هذه الثورات بعدها أصعبَ مراحلها، التي قدّمت فيها ذروة التضحيات في القادة والمجتمع والبنية العسكرية.
ففي الصين، تقهقرَ الشيوعيّون تحت ضربات الكومينتانغ فانسحبوا إلى الريف، لتبدأ أكثر ملاحم الثورة الصينية في ما يطلق عليه «المسيرة الكبرى» التي استمرت حتى عام 1936، لتصبح أحد أبرز عناصر الهوية الصينية المعاصرة، ورمزاً للصمود والإرادة الوطنية، حدّ أنه أُطلق الاسم على أكثر برامج الفضاء الصينية طموحاً.
أمّا في فييتنام، فكانت أحد أكثر شواهد التاريخ صعوبة، إذ لم يكن الأميركيون في وارد تجرّع هزيمة تاريخية سيلاحقهم إرثها حتى اليوم. وعليه، توالت مراحل التصعيد والتوحّش الأميركي، من تصعيد كينيدي حتى 1963، ليتبعه تصعيد جونسون وحملات القصف «السجادي»، وانكسار هجمات «التيت» الفييتنامية عام 1968 (مثّل الانكسار مكسباً تكتيكياً للأميركيين ولكن المكسب الإستراتيجي كان للفييتناميين الذين فرضوا حضورهم من جديد) وصولاً إلى عام 1969.
أمّا عن أقرب نماذجنا العربية، وأكثرها تشابهاً بنموذجنا العربي ضدّ الصهيونية، فما بعد الفاتح من نوفمبر، والذي تحتفل الجزائر في هذه الأيام بذكراه السبعين، مرحلة ذروة التضحيات وذروة العنف والجرائم الفرنسية في حق الجزائريين ما بين 1956 و1959.
وهي المرحلة التي اغتيل واستشهد فيها أبرز الرموز التي نربطهم بالتحرير اليوم رغم أنهم لم يشهدوه: بن العربي بن مهيدي، زيغود يوسف، ديدوش مراد، علي لابوانت وغيرهم. دخل الجزائريون مع الاستعمار مرحلة تكسير للعظام، لتتوالى مشاريع جنرالات مختلفين لوأد الثورة، جاك ماسو وموجة جرائم 1957 ومعركة مدينة الجزائر، مشروع «خط الجنرالين شال موريس» مع الحدود مع تونس والمغرب بأسلاك كهربائية وألغام لحصار الإمداد العسكري والبشري للثورة.
وصولاً إلى الذروة، مع مشاريع ودسائس أقوى وجوه فرنسا منذ نابليون، الجنرال شارل ديغول، لتصفية الثورة وتفريقها والقضاء على حاضنتها. خلال هذه السنوات، علت أصوات الانهزاميين والمثبطين عن جدوى بيان الأول من نوفمبر، إلا أن أجيالهم تحتفل به اليوم.
إنّ ما تخبرنا به هذه النماذج أنّ مفتاح نجاحها وتحصيلها للمكاسب الإستراتيجية، من معارك 1947 حتى إعلان إقامة الجمهورية الشعبية في بكين عام 1949، إلى اكتساب الفييتناميين موقع القوة في مفاوضات باريس ودحر الأميركيين عام 1973، ودخول سايغون 1975، وصولاً إلى فرض الجزائريين على ديغول الاعتراف بحقهم بتقرير المصير 1959 والصراع والتفاوض حتى الاستقلال 1962، كان النجاح عبر الثبات والصبر في مراحل «ذروة العنف» الاستعماري. والأهم هنا، أنه لم يكن هذا الثبات والصبر حالة نفسية جامدة، بل استدعيا تطوير الأدوات والأساليب القتالية والسياسية والاجتماعية والمعنوية.
في كل تجارب الانتصار على الاستعمار كانت المسألة تخضع للقاعدة التالية: أن المنتصر هو القادر على الصمود أكثر لا الإيذاء أكثر. وعليه، فإن معيار قوة كل جبهة تحررية هو مقدرتها على الصمود، وهذا مضمون تسميتها بحركات «مقاومة» بالأصل.
لا أنها في موقف رد الفعل كما يحاول مثقفو الهزيمة تمريره، بل لأن أصل فعلها ودورها التاريخي هو أنها مؤسسات بشرية فريدة من نوعها، حيث يقوم بناؤها العسكري والأيديولوجي على ضمان الفاعلية والقدرة على الصمود والإرادة والصبر.
افتتح عامنا الأول في «الطوفان» بالمبادرة مع بيان السابع من أكتوبر المجيد، ليمرّ عام الحرب مع توحّش في ضربات الصهيونية، من حرب الإبادة والاغتيالات وصولاً إلى ضربة أيلول المدوّية ومشاريع تهجير شمال غزة. إنّ ما نعيشه اليوم هو «ذروة العنف» الاستعماري، أي في مشهدية التاريخ الأوسع نحن في قلب مرحلة الصمود وصراع الإرادات.
تحدّث أنطونيو غرامشي عن تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة، ومَن منّا خلال الحرب لم يغرق في تشاؤم العقل، كانت لحظة اغتيال إمامنا السيد حسن نصرالله ذروة هذا التشاؤم، وكنّا نتكئ على الإيمان وتفاؤل الإرادة وحدهما. لكني أجادل وقد أكملنا الشهر على استشهاده، أننا دخلنا مرحلة عنوانها مشهد عصا أبي إبراهيم السنوار وإرادته، وهي أننا في مرحلة تفاؤل العقل والإرادة.
ذلك ما تخبرنا به التجارب التاريخية. وما نستدل به على قدرة الصمود وفعاليته كتائب معسكر جباليا، وتكافل وصمود أهالي شمال غزة وعمومها، والفعالية والثبات الأسطوري للمقاومة الإسلامية في لبنان وحاضنتها، فهذه الفعالية هي الدليل العقلي على قوة هذه المقاومة، وأن الإيمان اليوم بقوة هذه المؤسسات الجهادية وبيئتها عليه أن يكون أكثر من أي وقت مضى، وفقاً للتجربة والبرهان لا التفاؤل فقط.
نحن اليوم في لحظتنا الأصعب، ولكننا ولحكمة قرار «الطوفان» فنحن في اللحظة التاريخية التي يكون فيها الصبر والصمود مثمرَين ولهما مكسب إستراتيجي، وهذا ما تخبرنا به الصين والجزائر وفييتنام. كنا سنصبر ونصمد أيضاً في عالم لم يحدث فيه «الطوفان»، والمؤامرات الخليجية الإسرائيلية الأميركية تحاك ونحن بلا حيلة، لا يمكن لعاقل إخبارنا أن لذلك الصبر ثمرة لا الخسران. لكننا اليوم، ولأننا في ظرف صعب، فالشاهد التاريخي يقول لنا إن العدو بذاته يعيش ظرفاً صعباً. وعليه، نعي أن هذا هو حتماً طريق القدس وما صعوبته سوى الدليل إليه.
بالعودة إلى «المسيرة الكبرى»، فإنّ القارئ لغسان كنفاني، كأحد أبرز منظري الثورة الفلسطينية وتاريخها منذ الشيخ عزالدين القسّام، سيرى أن كل ما كان يبحث عنه، هو هذه المرحلة، كان يقولها بالحرف إننا نحتاج إلى مسيرتنا الكبرى، لأنه كان يعلم أن لا طريق للتحرير سوى ذلك، أن لا طريق للتحرير سوى «الطوفان».
الأخبار اللبنانية