املأ صحيفة أعمالك بما تحب أن تشهد به عليك جوارحك
تاريخ النشر: 31st, October 2024 GMT
عنيت الشريعة الإسلامية بأعمال العباد عناية خاصة متفردة، وأوضحت أن كل عمل يقوم به الإنسان إنما هو مسجل ومثبت فـي صحيفة أعماله، وبناء على ما كتب فـي تلك الصحيفة سيتم حساب الإنسان يوم القيامة، وقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة فـي الكثير من المواضع وأوردها فـي سبيل البيان والإيضاح وفـي سبيل الوعظ والتذكير، وفـي سبيل استشراف ما سيقع فـي المستقبل يوم القيامة وأحوال المؤمنين الناجين، وأحوال المكذبين المشركين وأقوالهم وأفعالهم يوم القيامة، وهذا يدل دلالة واضحة جلية على أن هذا الموضوع يشغل محورا مركزيا فـي قضايا الشريعة الإسلامية، وهذه الصحيفة هي بمثابة صحيفة إدانة أو إشادة وجزاء حسن على حسب ما امتلأت به تلك الصحيفة.
ومن عظم أهمية هذه الصحيفة وجلالة قدرها وعظم خطرها فإن الأعمال المسجلة فـيها سيكون عليها شاهد من الإنسان نفسه فقال تعالى فـي سورة النور «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» وهذا غاية العدل ومنتهى الحق، بأن يقوم على أعمال الإنسان شاهد من نفسه، بل حتى جلد الإنسان سيشهد عليه فـي موقف الحساب وحتى السمع والأبصار، فتصبح جوارح الإنسان هي شهادات إثبات وإدانة ولو تأملنا التفاصيل التي أوردها الله فـي سورة فصلت من هذه الشهادات التي ستقوم بها هذه الأعضاء وعتب الإنسان عليها ومجادلته لها وإقامة هذه الأعضاء الحجة على هذا الإنسان ولجمة بالحجة الدامغة وتبيانها له أنه لماذا قام بتلك الأعمال التي كان لا يستتر من الله أثناء عملها فـي مشهد مهيب تقشعر منه الأبدان وهو مشهد قادم من المستقبل أثبته القرآن الكريم لكي يقيم الحجة على العباد ويبين لهم يقينا ما سيحدث فـي المستقبل من أسباب الخسران، فقال الله تعالى: «حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ «20» وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ «21» وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ «22» وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ «23». وهذا الكتاب أو الصحيفة لا يحصي الأعمال فقط بل يتجاوز ذلك إلى إحصاء الأقوال، فكل قول نطقت به شفتاك ستجده مسطرا مكتوبا فـي تلك الصحيفة، وأوكل الله كتابة تلك الأعمال إلى ملكين يقومان بإحصاء أعمال كل شخص فملك عن يمينك يحصي أعمالك وأقوالك الصالحة ويسمى «رقيب» وملك عن شمالك يحصي أعمالك وأقوالك السيئة ويسمى «عتيد» فقال تعالى فـي سورة «ق»: « إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ «17» مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ «18» وأكثر ما يدخل الناس النار هو ما يجترحونه من خلال هذه اللسان، هذا العضو الخطير الذي يعتبر ملاك الأمر كله كما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سأله الصحابي الجليل معاذ بن جبل قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أخبِرْني بعملٍ يُدخِلُني الجنَّةَ، ويباعدني منَ النَّارِ، قال صلى الله عليه وسلم: لقد سألتَ عن عظيمٍ، فذكر له مجموعة من الأعمال الصالحة وصنفها وفصل فـيها، وقال له بعد ذلك «ألا أخبرُك بمِلاكِ ذلِك كلِّه؟ قلتُ: بلَى، يا نبيَّ اللهِ، فأخذَ بلسانِهِ، وقال: كُفَّ عليكَ هذا، فقُلتُ: يا نبيَّ اللهِ، إِنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكلَّمُ بِه؟ قال: ثَكلتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهل يَكبُّ النَّاسَ فـي النَّارِ علَى وجوهِهِم، أوعلَى مناخرِهم، إلَّا حصائدُ ألسنتِهم». ومن عظيم الغفلة هذه الأيام أن ألسنة الناس هي أهون أمر عليهم، فأصبحوا يتندرون ويستمتعون بالغيبة، بل وأصبحت هذه المعصية المحرمة العظيمة فاكهة لكل مجلس، فقلما تجد مجلسا لا يتم فـيه ذكر الناس فـي غيبتهم بما يكرهون، بل ونجد الناس لا يلقون لذلك بالا ولا يتأثمون، مع عظيم ما يجره هذا اللسان من المصائب فـي الدنيا والآخرة. والله بعدله أخبرنا فـي الحديث القدسي أنما يوفـي الله الناس ويحاسبهم بأعمالهم فقال تعالى فـي الحديث الذي بدأه «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما» وقال فـيه: «إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ». والعاقل من اشتغل بنفسه وأصلحها وزكاها وملأ صحيفته بما يسره يوم يلقى ربه، من صلاة وصيام وصدقة وقراءة للقرآن وذكر كثير، فقد كان الصالحون يملؤون أوقاتهم بالذكر، فهذا التابعي الجليل الحسن البصري يقول: «ما يضر أحدكم إذا جلس فارغا أن يقول للملَك اكتب يرحمك الله ثم يُملي خيرا» وهو يقصد الملك الموكل بكتابة الحسنات، وهذه أم المؤمنين عائشة رضي اللَّه عنها تقول: طوبى لِمن وجدَ فـي صَحيفتِهِ استغفارًا كثيرًا» فالاستغفار يمحو السيئات ويرفع الدرجات، ويجعل صحيفة المؤمن ناصعة البياض يملؤها النور، وهي أداة تبييض لصحيفة المؤمن، ومن أدوات مسح الذنوب وتبييض الصحيفة هي التوبة، فالله بها يمحو الذنوب، وهي أداة نجاة ينجي الله بها الناس من مستنقعات الذنوب والأعمال السيئة ويغفر بها الذنوب جمعا فقال تعالى فـي سورة الزمر: « قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّه إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» فتجديد التوبة والعودة إلى الله مطلب دائم، يصحح بها العبد مساره، ويلتجئ إلى ربه معتذرا مستغفرا نادما عما بدر منه عازما على عدم العودة إلى تلك الذنوب، مرجعا الحقوق إلى العباد، فباب التوبة مفتوح ما لم تدهم الإنسان منيته. |
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فقال تعالى فـی فـی سورة
إقرأ أيضاً:
أيها الإنسان.. أنت في ذمة الله.. لا في ذمة البشر
يصدق قول الشاعر حينما يقول: «يا راحلين، قد اشتقنا لرؤيتكم.. وما لنا حيلة في الوصل والنظر.. عزاؤنا أنكم من بعد غيبتكم في ذمة الله، لا في ذمة البشر».
في هذه الحياة نفقد الكثير من القوة بفعل النوازل والمحن التي نتعرض لها دائما، خسارة هنا، وفقد هناك، ومرض يأتي، وآخر يلوح في الأفق، نعزي أنفسنا فيمن نحب، ونعلم بأن الله قد استرد أمانته، كلها ابتلاءات من الله سبحانه وتعالى، والإنسان مبتلى في كل أموره ما دام على ظهر الدنيا حيا يرجو رحمة ربه، فقدان الأحبة أمر صعب، نحتاج إلى وقت ليس بقليل لنستطيع تقبله، فرحم الله أرواحا غالية على قلوبنا توسدت الثرى، ونسأل الله تعالى أن يسكنها فسيح جناته.
كل من يبحث عن مخرج أو عصا يتكئ عليها ليمشي خطوات نحو بوابات الخروج من بوتقة الحزن والأسى عليه أن يعلم بأن لكل شيء أجلا ونهاية، وأن الإنسان يشعر بمشقة عالية عندما تداهمه الخطوب من كل صوب وحدب، وفي وقت الشدة وقمة المحنة العظيمة ليس لنا إلا أن نذكر الله ونقول لمن أصابته الخطوب: «عليك بذكر الله، ثم الصبر على البلاء فَأجره عظيم»، ولنحاول قدر استطاعتنا أن نعزي أنفسنا ومن هم بقربنا قائلين: «إنا لله وإنا إليه راجعون.. لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى»، ثم حاول أن تحتسب الأجر والثواب من الله عز وجل، فكل نفس ذائقة الموت.. أمر الله مطاع.
الأرواح العزيزة التي نفقدها كل يوم بسبب أو بغير سبب، تؤثر في نفوسنا، فالفراق أمره صعب لا يُطاق، نؤمن إيمانا راسخا بأن الموت والحياة بيد الله تعالى، ونحن عاجزون عن فعل أي شيء يمنع قدرته أو يرد أمره، لكن الله رحيم بعباده، فيمنحنا من عنده الفرج بعد الضيق، فهذه الأحداث المؤلمة هي التي تثبت لنا بأن إيماننا يجب أن يكون راسخا في قلوبنا لا كلمات تملأ أفواهنا.
يقول سبحانه وتعالى: «وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون»، إذن البشرى من عنده سبحانه والثواب يأتي من الصبر واحتساب الأجر، ولكن علينا ألا نتجاهل أو نستهين بأمر «الصبر»، فهو قطعة من العذاب ومذاقها مرّ وصعب للغاية، خاصة في أوقات الشدة، حينما تهاجم الإنسان كل الكوابيس المخيفة والأفكار السوداء القاتمة، ففي هذه اللحظة يشعر الإنسان بالضعف البشري، حيث تتسلل الهواجس إلى نفسه الضعيفة من خلال سراديب ضيقة وأنفاق مظلمة، تجعله أحيانا عاجزا عن مقاومة الألم وشدته، ويشعر بالضعف إلى أبعد مدى، ولكن ما إن يستفيق من هذه الكبوة حتى يعود إلى الله سبحانه، فالله قد أودع فينا أمانة الحياة ثم يسترجعها إليه: «لله ما أعطى ولله ما أخذ».
عند الفقد نصبح في انهيار تام، سواء في عدم القدرة على الكلام أو تجاوز نقطة التفكير الصائب فيما حدث من أحداث موجعة، ونبوح للغير بما نعانيه من شدة وحمل ثقيل وهزيمة نفسية تهز أركان الروح والجسد، ففي تلك اللحظة العصيبة، تصغر الدنيا وما فيها من متاع في عيوننا، وفي كل الأشياء التي من حولنا تتهاوى قوانا، ولا يبقى لنا من مخرج إلا الله، ندعوه أن يلهمنا الصبر والسلوان ويخفف عما في صدورنا من شدة وألم.
ومما ذكر في السيرة النبوية الشريفة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون». كلمات قالها الرسول صلى الله عليه وسلم لحظة موت ابنه إبراهيم، وجعلت عيني الرسول صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبدالرحمن بن عوف: «وأنت يا رسول الله؟!» فيه معنى التعجب، أي الناس لا يصبرون على المصيبة، وأنت تفعل كفعلهم، كأنه تعجب لذلك منه مع عهده منه صلى الله عليه وسلم أنه يحث على الصبر وينهى عن الجزع. فقال: «يا ابن عوف، إنها رحمة، ثم أتبعها بأخرى»، أي الحالة التي شاهدتها مني هي رقة القلب على الولد، لا ما توهمت من جزع وعدم رضا بقضاء الله.
الفراق يجلب الحزن والألم، ويحدث انفصالا تاما بين القوة والضعف، لكن الله تعالى يرحمنا برحمته فيخفف عنا ما نعانيه من شدة وحرقة فؤاد على من فقدناهم مع مرور الوقت، ولكن ليس لنا سوى الدعاء لمن فقدناهم بالثبات والمغفرة، فإنه الطريق الصحيح الذي يزيد من حسناتهم ويخفف من ذنوبهم عند ربهم.