لجريدة عمان:
2024-09-30@21:34:09 GMT

خمسة أيام في خندق الموت

تاريخ النشر: 14th, August 2023 GMT

عندما بدأت الحرب الروسية الأوكرانية، كنت أكتب رواية. كانت الأحداث تجري في عام 1863، وتتناول رجلا أوكرانيا يسافر من فرجينيا إلى ميسوري، فيقابل في طريقه العديد من غرباء الأطوار والجنود والهاربين من التجنيد والعبيد المارقين. طالما كنت مهتما بالتاريخ في الولايات المتحدة، ومنجذبا إلى فكرة إدخال بطل أوكراني في واقع الحرب الأهلية الأمريكية ـ على ألا يكون مهاجرا كلاسيكيا، وإنما جندي في جيش الشمال، له تاريخه الخاص في العبودية تحت نير الإمبراطورية الروسية.

كان يفترض بهذه القصة أن تكون رواية، وكان مفترضا بي أن أحقق حلمي: وهو أن أقتفي أثر بطلي من فرونت رويال بولاية فيرجينيا إلى أوزارك بولاية ميزوري، مستوعبا من الحياة أكبر قدر يمكنني ابتلاعه. لكن روسيا لم تكتف بتدمير دولة أوكرانيا مرة من قبل، وكانت لديها خطط أخرى. أوقفت كتاباتي وحملت السلاح بدلا من ذلك. والآن أبذل جهودا لمنع مرحلة جديدة من القهر في بلدي.

ذلك ما جرى، وأتقبله. لكن هل كنت حقا أريد القتال؟ هل يرغب مئات الآلاف من الأوكرانيين حقا في المخاطرة بحياتهم، والانفصال عن عائلاتهم بالمكوث في خنادق غمرتها الفيضانات أو في سهوب جافة؟ هل أردت حقا أن أموت في نهاية العالم التي لا يرجع منها الجميع؟ لعل كل جندي أوكراني يطرح على نفسه هذه الأسئلة عديمة الإجابات.

في باخموت، حيث خدمت في مايو، لم يكن من مفر من هذه الأسئلة. فقد تم تكليف الوحدة التي كنت أقودها بمهمة بناء موقع قتالي في ضواحي المدينة، لكن كل شيء تغير بسرعة كبيرة. استولى الروس على بقية المدينة وغادرت معظم الوحدات الأوكرانية. وفجأة وجدنا أنفسنا في فخ ـ فلم يكن هناك من يغطينا. وطلبا للحماية، استلقيت في خندق صغير.

قضيت خمسة أيام في ذلك القبر أنتظر الموت، أبول أحيانا في زجاجة بلاستيكية وأحسب، إزجاء للوقت، السعرات الحرارية التي استهلكتها وكمية الماء التي شربتها. (اليوم 1: 560 سعرا حراريا، 350 ملليلترا من الماء. اليوم 2: 780 سعرا حراريا، 550 ملليلترا من الماء. وهكذا) على مدى مائة وخمس عشرة ساعة، استلقيت في هذه الحفرة البالغ عمقها أربع أقدام ناظرا إلى السماء الصافية، جافلا إثر كل انفجار بالقرب مني.

كان ما يحيط بي هو الجحيم الخالص. ولما كانت مواقعنا قائمة في طريق الخروج من باخموت، فإن القوات المنسحبة ـ من الضائعين، والجرحى، والصم بسبب الانفجارات ـ كانت تمر بنا طيلة الوقت. كان العدو يهاجمهم، وتصاب أجهزة اللاسلكي بالجنون مع ورود الأنباء بوقوع إصابات، والطائرات المسيرة تطن بلا نهاية. وغصون الأشجار تتساقط على رؤوسنا وقد قصمها القصف.

كنت أستلقي في قاع قبري وأنا أفكر أنه على الرغم من أنني قبلت موتي منذ فترة طويلة، إلا أنني ما زلت غير مستعد لهذا الموت في الوقت الحالي. فزوجتي لا تعرف كيف تدفع فواتير الخدمات، ولم أترك لها بريدي الإلكتروني وكلمات مرور الخدمات المصرفية عبر الإنترنت، وفي البريد طرود لم يتح لي الوقت لإبلاغها بها.

لا، لم أستعد الاستعداد المناسب. لم أكتب لها أي شيء مهم حقا قبل مغادرتي. من كان يدري أن الإنترنت والمولِّد والغذاء والماء وكل الأشياء تقريبا سوف تختفي فورا تحت نيران المدفعية الروسية؟ لا يكاد يوجد اتصال، ولا توجد طريقة لنقل كلمات المرور، وما من سبيل للسيطرة على مصير الرواية الناقصة.

في الوقت نفسه، فكرت فيما يمكن أن أفعله لو نجوت. وواردٌ هذا الاحتمال ـ أن أنجو. حسن، حينئذ سوف أكتب رسالة. سأقول: نجوت يا حبيبتي. لكن كان يصعب التفكير في نهاية سعيدة. كنت أفضل أن أحلم بوفاتي، وأنا غارق حتى عظامي في المطر، بعد أن أنام لمدة ساعة أسفل المدفع، أموت صريع لغم روسي.

مر اليوم الأول والثاني والرابع. جاء من الناس والأبطال والقصص أشكال وألوان وذهبوا. لم يصادفهم الحظ السعيد فينجوا. كانت باخموت تحترق أمام أعيننا ـ وسأتذكر ما حييت رائحة المدينة إذ تحترق. كانت من حولنا في كل مكان جثث ـ وسأتذكر ما حييت تلك الرائحة اللاذعة النافذة.

صرخ الناس، وقفزوا إلى الخنادق، اقترضوا السجائر، وتقاسموا السجائر، اقترضوا الماء، وتقاسموا الماء. قفزوا خارجين، يجرون أو يزحفون. ولما انتهى اليوم الخامس، انهمرت فجأة أمطار غزيرة، وكأنه سيل مداري. توقف القصف للمرة الأولى. ورنّ جهاز الاتصال اللاسلكي، الذي لم تكن بطارياته قد نفدت تماما، معلنا الأمر بالمغادرة.

وهكذا غادرت. تحت وابل المطر، عطشان، مبتلا، منهكا، فاقدا سبعة كيلوجرامات من وزني وكل الذخيرة، ولكني لم أزل أحمل سلاحي. عندما صرنا على بعد خمسة عشر كيلومتر من الجبهة، حيث نقطة الانتقال في محطة وقود، استؤنف الاتصال بالإنترنت وبدا أننا آمنون نسبيا. كتبت لزوجتي: نجوت يا حبيبتي. ولم يزل يصعب عليّ أن أصدق ذلك.

هل أردت القتال؟ هل يريد مئات الآلاف من الأوكرانيين القتال؟ إن لدينا أطفالا وعائلات ووظائف وهوايات وطرودا في البريد. ومنا من لديه رواية ناقصة عن مغامرات رجل أوكراني في أمريكا لم يرغب في القتال ولم يملك إلا أن يقاتل. ولا نملك نحن أيضا إلا أن نقاتل، لأن أعداءنا يحاولون مرة أخرى أن يسلبونا حقنا في العيش على أرضنا. لأنهم يحاولون سلبنا حقنا في الحرية.

كيف يمكن ألا أحمل السلاح هنا؟ أولئك الذين عاشوا لعقود طويلة في أحضان الديمقراطية والحرية الدافئة، والذين لا يعرفون خوف الأسر والتعذيب، يصعب عليهم أن يفهموا لماذا يقوم هؤلاء الأشخاص المسالمون ـ الذين يزرعون القمح ويستخرجون الحديد والفحم، ويرعون الماشية في مروج لا حدود لها، منذ زمن بعيد ـ بالدفاع عن كل متر من بلدهم بمثل هذا الغضب. لكني أعرف الجواب. هذه هي أرضنا الرائعة. ويجب أن يكون حرة.

آرتم تشيك جندي وكاتب ومؤلف «الصفر المطلق»

«خدمة نيويورك تايمز»

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

هزيمة “شرطي العالم” في البحر الأحمر.. خسارة القتال والسردية والنفوذ!

هزيمة “شرطي العالم” في البحر الأحمر.. خسارة القتال والسردية والنفوذ!

مقالات مشابهة

  • طلاب الدفعة (26 طب) مارسوا نفس الفوضي التي كانت تحدث في الخرطوم فتم طردهم الى السودان
  • نائب حسن نصر الله يكشف أسماء القيادات التي كانت مع الأخير ولقيت مصرعها بعملية الاغتيال بضاحية بيروت الجنوبية
  • لأول مرة منذ عقود.. تنفيذ 5 أحكام بالإعدام في أميركا خلال أسبوع
  • قام بمساومة وابتزاز المواطنين.. خمسة احكام بالحبس الشديد بحق ضابط في بغداد
  • إنقطاع الماء 3 أيام على هذه البلديات بالعاصمة
  • لماذا استثمرت السعودية خمسة مليارات دولار في مصر؟
  • إصابة خمسة شبان واعتقال رابع باقتحام الاحتلال شمال طوباس
  • السيد خامنئي يعلن الحداد العام لمدة خمسة أيام في إيران باستشهاد السيد حسن نصر الله
  • هزيمة “شرطي العالم” في البحر الأحمر.. خسارة القتال والسردية والنفوذ!
  • خامنئي يعزي باستشهاد نصر الله ويعلن الحداد خمسة أيام