عندما بدأت الحرب الروسية الأوكرانية، كنت أكتب رواية. كانت الأحداث تجري في عام 1863، وتتناول رجلا أوكرانيا يسافر من فرجينيا إلى ميسوري، فيقابل في طريقه العديد من غرباء الأطوار والجنود والهاربين من التجنيد والعبيد المارقين. طالما كنت مهتما بالتاريخ في الولايات المتحدة، ومنجذبا إلى فكرة إدخال بطل أوكراني في واقع الحرب الأهلية الأمريكية ـ على ألا يكون مهاجرا كلاسيكيا، وإنما جندي في جيش الشمال، له تاريخه الخاص في العبودية تحت نير الإمبراطورية الروسية.
كان يفترض بهذه القصة أن تكون رواية، وكان مفترضا بي أن أحقق حلمي: وهو أن أقتفي أثر بطلي من فرونت رويال بولاية فيرجينيا إلى أوزارك بولاية ميزوري، مستوعبا من الحياة أكبر قدر يمكنني ابتلاعه. لكن روسيا لم تكتف بتدمير دولة أوكرانيا مرة من قبل، وكانت لديها خطط أخرى. أوقفت كتاباتي وحملت السلاح بدلا من ذلك. والآن أبذل جهودا لمنع مرحلة جديدة من القهر في بلدي.
ذلك ما جرى، وأتقبله. لكن هل كنت حقا أريد القتال؟ هل يرغب مئات الآلاف من الأوكرانيين حقا في المخاطرة بحياتهم، والانفصال عن عائلاتهم بالمكوث في خنادق غمرتها الفيضانات أو في سهوب جافة؟ هل أردت حقا أن أموت في نهاية العالم التي لا يرجع منها الجميع؟ لعل كل جندي أوكراني يطرح على نفسه هذه الأسئلة عديمة الإجابات.
في باخموت، حيث خدمت في مايو، لم يكن من مفر من هذه الأسئلة. فقد تم تكليف الوحدة التي كنت أقودها بمهمة بناء موقع قتالي في ضواحي المدينة، لكن كل شيء تغير بسرعة كبيرة. استولى الروس على بقية المدينة وغادرت معظم الوحدات الأوكرانية. وفجأة وجدنا أنفسنا في فخ ـ فلم يكن هناك من يغطينا. وطلبا للحماية، استلقيت في خندق صغير.
قضيت خمسة أيام في ذلك القبر أنتظر الموت، أبول أحيانا في زجاجة بلاستيكية وأحسب، إزجاء للوقت، السعرات الحرارية التي استهلكتها وكمية الماء التي شربتها. (اليوم 1: 560 سعرا حراريا، 350 ملليلترا من الماء. اليوم 2: 780 سعرا حراريا، 550 ملليلترا من الماء. وهكذا) على مدى مائة وخمس عشرة ساعة، استلقيت في هذه الحفرة البالغ عمقها أربع أقدام ناظرا إلى السماء الصافية، جافلا إثر كل انفجار بالقرب مني.
كان ما يحيط بي هو الجحيم الخالص. ولما كانت مواقعنا قائمة في طريق الخروج من باخموت، فإن القوات المنسحبة ـ من الضائعين، والجرحى، والصم بسبب الانفجارات ـ كانت تمر بنا طيلة الوقت. كان العدو يهاجمهم، وتصاب أجهزة اللاسلكي بالجنون مع ورود الأنباء بوقوع إصابات، والطائرات المسيرة تطن بلا نهاية. وغصون الأشجار تتساقط على رؤوسنا وقد قصمها القصف.
كنت أستلقي في قاع قبري وأنا أفكر أنه على الرغم من أنني قبلت موتي منذ فترة طويلة، إلا أنني ما زلت غير مستعد لهذا الموت في الوقت الحالي. فزوجتي لا تعرف كيف تدفع فواتير الخدمات، ولم أترك لها بريدي الإلكتروني وكلمات مرور الخدمات المصرفية عبر الإنترنت، وفي البريد طرود لم يتح لي الوقت لإبلاغها بها.
لا، لم أستعد الاستعداد المناسب. لم أكتب لها أي شيء مهم حقا قبل مغادرتي. من كان يدري أن الإنترنت والمولِّد والغذاء والماء وكل الأشياء تقريبا سوف تختفي فورا تحت نيران المدفعية الروسية؟ لا يكاد يوجد اتصال، ولا توجد طريقة لنقل كلمات المرور، وما من سبيل للسيطرة على مصير الرواية الناقصة.
في الوقت نفسه، فكرت فيما يمكن أن أفعله لو نجوت. وواردٌ هذا الاحتمال ـ أن أنجو. حسن، حينئذ سوف أكتب رسالة. سأقول: نجوت يا حبيبتي. لكن كان يصعب التفكير في نهاية سعيدة. كنت أفضل أن أحلم بوفاتي، وأنا غارق حتى عظامي في المطر، بعد أن أنام لمدة ساعة أسفل المدفع، أموت صريع لغم روسي.
مر اليوم الأول والثاني والرابع. جاء من الناس والأبطال والقصص أشكال وألوان وذهبوا. لم يصادفهم الحظ السعيد فينجوا. كانت باخموت تحترق أمام أعيننا ـ وسأتذكر ما حييت رائحة المدينة إذ تحترق. كانت من حولنا في كل مكان جثث ـ وسأتذكر ما حييت تلك الرائحة اللاذعة النافذة.
صرخ الناس، وقفزوا إلى الخنادق، اقترضوا السجائر، وتقاسموا السجائر، اقترضوا الماء، وتقاسموا الماء. قفزوا خارجين، يجرون أو يزحفون. ولما انتهى اليوم الخامس، انهمرت فجأة أمطار غزيرة، وكأنه سيل مداري. توقف القصف للمرة الأولى. ورنّ جهاز الاتصال اللاسلكي، الذي لم تكن بطارياته قد نفدت تماما، معلنا الأمر بالمغادرة.
وهكذا غادرت. تحت وابل المطر، عطشان، مبتلا، منهكا، فاقدا سبعة كيلوجرامات من وزني وكل الذخيرة، ولكني لم أزل أحمل سلاحي. عندما صرنا على بعد خمسة عشر كيلومتر من الجبهة، حيث نقطة الانتقال في محطة وقود، استؤنف الاتصال بالإنترنت وبدا أننا آمنون نسبيا. كتبت لزوجتي: نجوت يا حبيبتي. ولم يزل يصعب عليّ أن أصدق ذلك.
هل أردت القتال؟ هل يريد مئات الآلاف من الأوكرانيين القتال؟ إن لدينا أطفالا وعائلات ووظائف وهوايات وطرودا في البريد. ومنا من لديه رواية ناقصة عن مغامرات رجل أوكراني في أمريكا لم يرغب في القتال ولم يملك إلا أن يقاتل. ولا نملك نحن أيضا إلا أن نقاتل، لأن أعداءنا يحاولون مرة أخرى أن يسلبونا حقنا في العيش على أرضنا. لأنهم يحاولون سلبنا حقنا في الحرية.
كيف يمكن ألا أحمل السلاح هنا؟ أولئك الذين عاشوا لعقود طويلة في أحضان الديمقراطية والحرية الدافئة، والذين لا يعرفون خوف الأسر والتعذيب، يصعب عليهم أن يفهموا لماذا يقوم هؤلاء الأشخاص المسالمون ـ الذين يزرعون القمح ويستخرجون الحديد والفحم، ويرعون الماشية في مروج لا حدود لها، منذ زمن بعيد ـ بالدفاع عن كل متر من بلدهم بمثل هذا الغضب. لكني أعرف الجواب. هذه هي أرضنا الرائعة. ويجب أن يكون حرة.
آرتم تشيك جندي وكاتب ومؤلف «الصفر المطلق»
«خدمة نيويورك تايمز»
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
استبعاد إسرائيلي لعودة القتال في غزة.. حماس بعيدة عن الانهيار
تواصل صحف الاحتلال الإسرائيلي، تسليط الضوء على ما بعد المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، والذي تم تنفيذه بعد 15 شهرا من الحرب المدمرة، وسط استبعاد من المحللين والخبراء الإسرائيليين بعودة القتال، رغم التحديات التي تواجه مفاوضات المرحلة الثانية.
وقال الخبير الإسرائيلي يهودا بلانغا، إنّ "التوصل إلى اتفاق مع حركة حماس لإطلاق سراح عشرات الأسرى الإسرائيليين، مقابل تحرير آلاف الأسرى الفلسطينيين، يعني أن الحرب قد انتهت".
وأضاف بلانغا في مقال نشرته صحيفة "إسرائيل اليوم" وترجمته "عربي21" أنه "بعد فترة هدوء طويلة تستمر 42 يوما، لن يكون لدى الجانبين مصلحة بإعادة إشعال الصراع"، مشيرا إلى أن تل أبيب سئمت من 470 يوما من القتال والصراعات السياسية والقانونية.
وتابع: "حماس ستختار الاستمرار في وقت إطلاق النار لإعادة تأهيل قيادتها ونشطائها، مع الإشارة إلى حقيقة تاريخية مفادها، أنه باستثناء حرب 1948، فإنه خلال الحروب الإسرائيلية العربية الثمانية، أصبحت كل هدنة أو وقف لإطلاق النار مسألة دائمة، وبعدها سيكون المجال متاحاً للجدل الاسرائيلي الداخلي حول لجان التحقيق، وحقيقة الرواية المتروكة للأجيال القادمة، بين ما حققته من نصر كامل أو أعظم فشل".
وأردف قائلا: "سيكون مثيرا للاهتمام رؤية كيفية كتابة (طوفان الأقصى) في إطار الصراع الشامل في التاريخ الفلسطيني"، معتقدا أن "حماس ستجري تحقيقات داخلية لاستخلاص الدروس والعبر من الأخطاء، والانتظار بين أن تعلن نجاح الحرب أم فشلها، وما الرواية التي ستترسخ في أذهان الفلسطينيين بشأنها".
واستدرك بقوله: "منظور حماس في سياق الحروب الإسرائيلية يختلف عن منظور تل أبيب، لأن تصورها لجوهر النصر متشابه، وتعتبر أن خسارة الأرواح البشرية والبنية الأساسية ليست مهمة، لأنها تضحيات ضرورية من أجل الهدف الأسمى".
البقاء على قيد الحياة
ورأى أن "ما يهم حماس هو منع العدو من هزيمتها وخسارتها للأرض، والأهم البقاء على قيد الحياة، وهذا يعني النصر من وجهة نظرها، وهو الحال القائم منذ عام 2006، عقب وصولها للسلطة بعد فوزها بالانتخابات".
وتابع: "حماس تؤمن أن المعركة الأخيرة ضد إسرائيل هي مرحلة جديدة في إطار الحرب الدينية الطويلة، وقد عبّرت عن هذه النقطة بشكل واضح في المادة السابعة من ميثاقها، حين أكدت أنها إحدى وحدات الجهاد في مواجهة الغزو الصهيوني، وهذا يغني أن الحرب ضد اليهود تتطلب الصبر والتضحية".
وذكر أن "حماس مقتنعة أن استعداد تل أبيب لوقف إطلاق النار، يعبّر عن ضعفها ومؤشر بارز على هزيمتها"، مشيرا إلى أن الحركة لا تزال متمسكة بمبادئها، ونجحت في تحقيق أهدافها المتمثلة بتحرير الأسرى من السجون الإسرائيلية، إلى جانب وقف التطبيع وإقامة الدولة الفلسطينية وإعادة القضية الفلسطينية على الأجندة العالمية.
الكاتبة اليمينية سارة هعتسني كوهين زعمت أن "الأهم بالنسبة لحماس هو انسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة، ما استدعى منه أن يقاتل بقوة أكبر، ويحتل شمال القطاع، ولا يجلب المساعدات للفلسطينيين، ما يؤكد أن اتفاق وقف إطلاق النار سيئ، والأثمان التي يُطلب من تل أبيب دفعها مقابله صعبة، وعواقبها خطيرة، ولذلك أعتقد أنه ما كان ينبغي قبوله، رغم إدراكي للحجج المؤيدة والمعارضة له، لكن الجمهور الإسرائيلي سيبقى ينظر بعيون دامعة لتوابيت المختطفين القتلى بدلاً من الأحياء العائدين".
وأضافت في مقال نشرته صحيفة "إسرائيل اليوم"، وترجمته "عربي21" أن "إسرائيل بعد خمسة عشر شهراً من القتال، وضعت الحكومة هذه الصفقة على الطاولة، وهي نتيجة بائسة للغاية، لأنها صفقة سيئة، والثمن الذي يتعين أن ندفعه مقابلها باهظ وخطير، وكذلك عواقبها، لأنها لن تطلق سراح آلاف الأسرى الخطيرين فحسب، بل ستلغي العديد من إنجازات الحرب التي تحققت بالكثير من العناء والدماء، ووافقت على الانسحاب من محور نتساريم، وعودة مليون فلسطيني لشمال القطاع، والتدفق المستمر لشاحنات المساعدات".
حماس أعادت بناء نفسها
وأشارت أنه "في المقابل، وعلى مدى أيام طويلة، حرصت حماس للغاية حتى آخر سنتيمتر في رسم خريطة الانسحاب، وبعد خمسة عشر شهراً من القتال، لا تزال الحركة على قيد الحياة، وتتنفس، وتقاوم، وتقدم لنا المطالب، وتستمر في الإساءة لإسرائيل بأكملها، الأمر الذي يؤكد أنه على النقيض من حرب الشمال، فقد كانت إدارة حرب غزة فاشلة، لأن هيئة الأركان العامة والمستوى السياسي، قرروا خوضها على مراحل، بعد الانتهاء من مرحلة قطع الأشجار، والشروع بمرحلة شنّ الغارات".
وأكدت أنه "خلال مرحلة الغارات الجوية، تمكنت حماس من إعادة بناء نفسها، إلى الحدّ الذي جعل شمال قطاع غزة يكلف الجيش الإسرائيلي أكثر من خمسين جنديا، بعد أن قاتل هناك بالفعل في بداية الحرب، ما يؤكد أننا أمام صفقة سيئة، لأن إدارة الحرب الفاشلة، بجانب المفاوضات الفاشلة، أدت لنتيجة بائسة، حيث لا تزال حماس في موقف المطالب".
وختمت بالقول إن "هذه المعطيات ستجعل العودة للقتال مستحيلة تقريباً، بسبب الانسحاب، وعودة فلسطينيي غزة لديارهم، وبسبب بقاء المختطفين في الأسر، وهكذا لم تحقق حرب غزة أي تقدم يذكر، بل إنها فشلت حتى الآن، وحماس بعيدة كل البعد عن الانهيار، وإذا كان هذا الاتفاق الذي حققه الاحتلال بعد 15 شهرًا، فهذا يعني أنه فشل".