لجريدة عمان:
2024-07-06@08:09:22 GMT

المجتمع الإيراني وخوف التقارب الثقافي

تاريخ النشر: 14th, August 2023 GMT

في السبت الماضي صباحا أقيمت فعالية في مقهى ميمو بالموالح الشمالية، وكانت بعنوان: إيران حكاية فارسية، قدمها الكاتب سالم الرحبي، وحاول الإجابة عن أسئلة: هل نعرف الجارة حقا؟ ما وضع إيران أيام الشاة وما بعده؟ مع الجوانب التأريخية ما قبل الثورة وما صاحبها وما بعدها، واجتماع اليساريين واليمينيين معا ضد الشاة والاستعمار، وبعد انتصار الثورة هُمش اليساريون عن المشهد من قبل اليمينيين، ثم بروز التيار الإصلاحي، وصراعه الحالي مع التيار الأصولي داخل المشهد الشيعي عموما في إيران.

إلا أن بداية الفعالية ومدارها سؤال: لماذا التخوف من الاقتراب من دراسة إيران؟ فهي جارة لنا وللخليج عموما، وثاني أكبر دولة جغرافيا في الشرق الأوسط بعد المملكة العربية السعودية، كما أنها ثاني أكبر دولة في الشرق الأوسط من حيث عدد السكان بعد مصر، ثم لماذا ضعفت العلاقات الثقافية من حيث الترجمة والأدب والفن والمعارف الأخرى بين الجانبين، وضرب مثلا بالسينما الإيرانية، والتي تطورت كثيرا خصوصا أيام خاتمي بعد رفع القيود، إلا أنها تصل إلينا بعد هجرتها إلى الغرب أولا عن طريق الغرب نفسه، مع قربنا من إيران جغرافيا وثقافيا.

بطبيعة الحال لا أريد في هذه المقالة تلخيص ما جاء في الفعالية، فهي موجودة في «يوتيوب» لمن أراد المتابعة، كما لا أريد ذكر الجدل الذي تدافع صحيا مع المحاضرة عن طريق تعقيبات الحضور، الذي أريده هنا بيان وجهة نظري، حيث لا أزعم أنني أفقه المجتمع الإيراني، وإنما حاولت الاقتراب منه في السنوات الأخيرة، وهذا يحتاج إلى شيء من التأني، كما يحتاج إلى شيء من الإنصاف، والتجرد من الميولات السابقة، فمن الناقدين من يخلط بين رؤية سياسات بلده وبين الاجتماع البشري في إيران، فإذا كانت العلاقة سيئة كانت الإسقاطات العمومية السلبية حول المجتمع الإيراني، ويربط كل شيء بالسياسة، ويحصر أمة كبيرة يقترب سكانها من تسعين مليونا في الحزب الحاكم، أو في منصب الولي الفقيه والمرشد الأعلى للثورة الإسلامية، وفي المقابل هناك من له ميولات دينية أو مذهبية، فيرى إيران النموذج الأمثل في التطبيق الإسلامي، ولا يقبل النقد أو الاقتراب منه، فيعطي صورة مثالية مبالغا فيها، إلا أن الواقع أن الحكومة الإيرانية تمثل توجها في المجتمع الإيراني كأي حكومة أخرى في العالم، والمجتمع الإيراني لا يحصر فيها كأي مجتمع آخر أيضا، والمجتمعات البشرية عموما مجتمعات متعددة ومعقدة في الوقت ذاته، ودراسات الاجتماع البشري من أشد الدراسات صعوبة، فهي أقرب إلى النقط المتباينة، وإن كانت لها مشتركات جغرافية أو ثقافية، فهذا بحكم الواقع، إلا أن الغوص في تفكيك بنيتها المتعددة ليس سهلا كما يتصور بعضهم، فيميل إلى التعميم حبا أو كرها، أو حتى عن طريق الدراسات المعرفية الأفقية.

ثم لا بد من الممايزة بين الجغرافيا والتأريخ والواقع، فالجغرافيا ثابتة، والتأريخ متحرك، والواقع ظرفي، فلما نتعامل مع المجتمع الإيراني فلا نحصره في الواقع الظرفي، وفي سياساته الظرفية، وإنما نحن نتعامل مع جغرافية وتأريخ مشترك، من خلال الإنسان الإيراني ذاته، فالواقع الظرفي محكوم بالجغرافيا والتأريخ من خلال الإنسان، وليس حاكما عليها، فقد يكون حاكما بالمعنى الإجرائي، ولكن ليس حاكما بالمعنى المعرفي والثقافي والإنساني، بل هو جزء من هذه الثقافة الواسعة في حيز جغرافي معين، وإن حاول إظهار نفسه إعلاميا أنه هو الثقافة الممثلة، بيد أن هذا يتهافت تلقائيا عند القرب من الآخر؛ لأنه يتعارض مع سنن الاجتماع البشري.

وما ينطبق على إيران ينطبق على أي مجتمع آخر، فسنن الاجتماع واحدة، لهذا أكبر خطورة عندما يتمثل المثقف دور السياسي، فالسياسي يدور مع الواقع الظرفي من خلال المصلحة الآنية، فعدو الأمس صديق اليوم، والعكس صحيح، وأما المثقف فيعيش مع الجغرافيا والتأريخ والواقع من خلال المبدأ والإنسان، فليس ناطقا رسميا للسياسي، ولا شاعرا أو مطربا لأمجاده، وإنما هو باحث وراصد من خلال أمانة كلمة المعرفة ذاتها، التي تتجاوز المنافع والمصالح القاصرة؛ لأنه بقلمه وفكره متجاوز لأي حدود جغرافية أو تأريخية أو أيدلوجية إلى فضاء الإنسان والوجود.

لهذا قد يتمثل جواب سؤال: لماذا التخوف من الاقتراب من دراسة إيران؟ إلى ثلاثة أسباب رئيسة، الأول علاقة المثقف أو الكاتب بالسياسي أو الديني، وبالنسبة للسياسي فسبق الحديث عنه، وإن كنا في عُمان - ولله الحمد - لا نشعر بهذا العبء في الجملة؛ لأن السلطة لدينا وضعت خطوطا متوازية في العلاقات الخارجية، ومع ذلك تبقى بعض الحساسية حاضرة في المشهد الثقافي خصوصا، بيد أنه في بعض الدول لسبب العلاقات السياسية السلبية يجد المثقف أو الكاتب العربي صعوبة في الانفتاح مع الثقافة والإنسان الإيراني بشكل عام.

وأما الجانب الديني فهذا أكبر تعقيدا؛ حيث إن إيران تزاوجت بين الحكم الديني الشمولي من خلال ولاية الفقيه، وبين الحكم الديمقراطي من خلال الحزب الحاكم، إلا أن صوت الخطاب الديني غلب على الجانب الثقافي المستقل عن أي انتماءات سياسية أو أيدلوجية، كما أن الخطاب الديني ذاته تزاوج مع الخطاب السياسي، ابتداء من خلال تصدير الثورة، ثم من خلال التكونات السياسية في الخارج، والتي استثمرت إيرانيا بشكل مباشر أو غير مباشر، ومثل هذا اتجاه خط الإمام، والقائم على تثوير الدين، وربطه بطاعة الولي الفقيه في إيران، بعيدا عن أي انتماءات جغرافية، وكما يذكر الباحث السعودي حسن المصطفى في برنامج «في الصميم» أن اتجاه خط الإمام انبثق عنه أربعة أحزاب في المنطقة: حزب الله الحجاز، وحزب الله الكويت، وحزب الله لبنان، وحزب الله العراق، وجميعها في الأصل لها غايات سياسية وانتمائية للولي الفقيه في إيران.

وأما غير المباشرة فنحو الخط الشيرازي أي نسبة إلى المرجع محمد الشيرازي، ورؤيته قائمة على تفعيل الجانب الحركي في الخطاب الإسلامي، وهو أشد حركية من اتجاه محمد حسين فضل الله، ويقترب من اتجاه الإخوان المسلمون في الجانب الآخر، وتمثل هذا الاتجاه في حركة الطلائع الرسالية عند الفقيه محمد تقي المدرسي، والتي انبثق منها سابقا عدة تكونات، منها الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين، والجبهة الإسلامية لتحرير عُمان، بجانب الجزيرة العربية.

إن محاولة تصدير الثورة عموما، أو تثوير الدين خصوصا بعد عام 1979م أدى إلى قلق دول الجوار، وهنا لهذه المواجهة استخدم الخطاب الديني المقابل، والذي كان نائما منذ قرون طويلة، فبعدما كان الخطاب الديني مستثمرا سياسيا ضد الاتجاهات اليسارية بدعوى الإلحاد، والتي تبنت الحركات الإسلامية الحركية لاحقا أفكار الاتجاهات الاشتراكية والماركسية بلباس الأسلمة، هنا كانت المواجهة مع التيارات الشيعية من خلال إحياء الطائفية، وإبراز معتقدات وطقوس التشيع كدعوى تحريف القرآن والبداء والتطبير وغيرها، واستغل ابتداء الإٍسلام السني الحركي الذي كان بعضه مناصرا للثورة الإيرانية في الابتداء، ثم انقلب عليها لاحقا تحت خط الطائفية، فكان هذا الفريق أقدر في المواجهة في الثمانينيات من القرن العشرين وما بعدها، قبل تهميشه سياسيا بعد ثورات الربيع العربي خصوصا.

هذا السبب يقود إلى السبب الثاني وهو اتجاه إيران نحو أسلمة المعرفة ككل، ورغم تفوق إيران في المجالات العلمية والطبية والعسكرية، إلا أنها حصرت ذاتها في المجالات الفنية والفلسفية من خلال الأسلمة، وهو اتجاه ساد في العالم الإسلامي حينها من خلال التوجهات الحركية، بيد أن الأسلمة لم تكن دراسات معرفية ناقدة كما في ماليزيا مثلا؛ بل ارتبطت بالأبعاد السياسية من خلال أسلمة الدولة والحكامة ذاتها، وهذا زاد من معدل القلق ليس مع الاتجاهات السياسية، بل حتى مع الاتجاهات الثقافية المائلة إلى الليبرالية، وتوسعة دائرة الثقافة من خلال التعددية، بعيدا عن أي إملاءات مسبقة من حيث الابتداء.

هذان السببان قادا إلى السبب الثالث وهو سبب ارتفاع دائرة الوهم وإطلاقيتها، بمعنى بقاء دائرة الخوف واستمراريته، مع أن إيران اليوم ليست إيران 1979م، كما أن هناك العديد من المراجعات الفلسفية والفكرية ومنها السياسية طيلة هذه الفترة، وكما أسلفت مقدما أن الاجتماع البشري في إيران مجتمع متعدد عرقيا ولغويا ودينيا ومذهبيا وثقافيا، ولا يمكن حصره في زاوية ضيقة، في الاتجاهات السياسة أيا كانت رؤيتها، والأصل في المثقف أنه يشتغل على الدائرة الواسعة؛ لأن مضامينه إنسانية ووجودية، ولقد كان لي حديث طويل مع العديد من الباحثين الإيرانيين في قم وأصفهان وشيراز وطهران حول هذه الجوانب، ولولا ضيق المقالة لذكرت مصاديق لها من الحوارات، بيد أن هاجس وهم التخوف من التقرب من الآخر لا زال عالقا، ويمثل حاجزا في شبه القطيعة الثقافية والمعرفية، وإن كانت حاليا بدأت تنفرج شيئا ما، فنرى السينما والفن والنتاج الإيراني في دول الجوار، والعكس صحيح، وإن كانت -للأسف - الترجمة ما زالت ضعيفة، إلا أن لها بوادر جيدة في السنوات الأخيرة، فالانفتاح الثقافي إذا كان ثقافيا إنسانيا، لا علاقة له بظرفية السياسة، ولا بضيق الأيدلوجيات اللاهوتية والحركية عموما، هذا بلا شك يفتح مجالات واسعة من التقارب الإنساني، والذي يسهم في عمارة الأرض وإصلاحها.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الخطاب الدینی الاقتراب من فی إیران من خلال إلا أن

إقرأ أيضاً:

بنات الموديلز في اليمن.. صدام مع المجتمع وقيود العادات والتشريع الديني (تقرير خاص)

بين قيود العادات والتشريع الديني، تواجه ما يسمى بـ "الموديلز" أو عارضات الأزياء في اليمن، صداما مع مجتمع لم يألف هذا النوع من المهن، ويوصف بالمحافظ، ويراها مخالفة للدين والشرع والأعراف والتقاليد.

 

رغم الرفض المجتمعي المطلق تحت مسمى الشرع والعادات والتقاليد لمثل هكذا مهنة، إلا أن هناك فتيات بعدد الأصابع بدأن بكسر تلك القيود في مزاولة تلك المهنة والظهور في جلسات تصوير محلية والعمل مع مصممي أزياء يمنيين، لكنهن وجدن أنفسهن في مواجهة المجتمع وقمع السلطات ففي مختلف المناطق اليمنية، كان آخرها "خلود باشراحيل" (20 عاما)، التي اعتقلتها السلطات الأمنية في حضرموت ثاني أيام عيد الأضحى بعد نشرها صورا لها بذكرى زفافها مع زوجها.

 

وظهرت باشراحيل معلنة رغبتها في التحول للعمل كموديل وعارضة أزياء، ونشرت عدة مقاطع فيديو مصورة تظهرها في جلسات تصوير، وهي بدون الحجاب، وتنتقد من يهاجمها، وتدعو إلى التحرر من الأفكار المتطرفة، كما وصفت المجتمع بالمتخلف والمنافق، قبل أن تعتقلها السلطات الأمنية.

 

انتصار الحمادي، مريم ناظم، سالي فؤاد، جور الشوافي، خلود باشراحيل، ديانا ضبعان، أريج السيد، هن أبرز عارضات الأزياء اليمنيات، بعضهن غادرن اليمن ويمارسن عملهن من الخارج خوفا من قيود المجتمع والسلطات، والبعض الأخر تعرضن للاعتقال والسجن وتخشى أخريات أن يكن مصيرهن مشابه لما سبقهن.

 

آخر فصول القمع ما تعرضت له الموديل "باشراحيل" في إحدى سجون مدينة المكلا التابعة للحكومة اليمنية، وقبلها ما حدث للموديلز "انتصار الحمادي" من انتهاكات من قبل جماعة الحوثي وصفتها منظمات حقوقية بالخطيرة.

 

كانت الشابة اليمنية انتصار تحلم بأن تصبح عارضة أزياء، لكنّها وجدت نفسها محتجزة في سجن في العاصمة صنعاء الخاضعة لسيطرة الحوثيين، في بلد تعاني فيه المرأة من صعوبات جمة فاقمتها الحرب.

 

في شباط/فبراير 2021 اعتقلت السلطات الأمنية التابعة لجماعة الحوثي في صنعاء عارضة انتصار الحمادي، بتهمة ارتكابها فعل فاضح ومخالف للشريعة الإسلامية وأصدرت المحكمة الابتدائية التابعة للجماعة حكما بالسجن خمس سنوات.

 

أفكار طوباوية

 

الدكتور عبدالكريم غانم، الباحث في علم الاجتماع، يرى أن خلود باشراحيل وقبلها انتصار الحمادي، وغيرهن هن التعبير الواضح عن حال من الفئات الحداثية التي لديها أفكار طوباوية تتجاوز الواقع الذي لم يعترف بالحريات الاجتماعية والشخصية، في ظل ما هو سائد من تابوهات دينية وأخرى أخلاقية يتم تجسيدها من خلال النصوص القانونية.

 

 

في حديث لـ "الموقع بوست" يرى غانم أن باشراحيل والحمادي ليستا حالة فردية، بل ظاهرة اجتماعية عفوية عبرت عن نفسها بشكل واضح في الحراك الثوري الذي شهده اليمن منذ 2011 عبر تجليات مختلفة، منها ممارسة الحرية الشخصية وحرية المعتقد والحرية الجنسية وغيرها.

 

وأضاف "الأمن الذي يفترض أن يوجه لمنع وقوع جرائم من اختلاس ونهب المال العام قد يجد ضالته بالقبض على مشاهير السوشال ميديا، أو ملاحقة متبرجة، لأن مثل هذه القضية تسترعي اهتمام المجتمع التقليدي أكثر من اهتمامه بقضايا الفساد.

 

وعن الرفض المجتمع لمثل هذه الظاهرة، يقول غانم إن "المجتمع يغلب عليه الطابع التقليدي المحافظ ويعتقد أن هذه الظواهر الرافدة تشكل تهديدا لسلطته، لا سيما أن فرص تمكين المرأة اقتصاديا وسياسيا في ظل الحرب والحصار تبدوا ضئيلة ومن منظور مجتمعي لا جدوى من تقديم تنازلات كهذه دون تقاضي فوائد ملموسة".

 

وأكد الخبير في علم الاجتماع اليمني أن العوائق التي يمكنها أن تواجه تلك الفئات من النساء هو المزاج الشعبي الموغر بالأصولية.

 

ويرجع الباحث غانم أسباب نشاط هذه التوجهات حاليا إلى أن السلطات الحاكمة سواء في شمال البلاد أو جنوبه أخفقت في خدمة المجتمع وتحقيق التنمية والاستقرار وتقديم الرعاية الاجتماعية، الأمر الذي يتم تحديها عبر نوع من هذا التمرد، كظهور جماعات الموضة ومجتمع "الميم" وغيره.

 

وأفاد أن القوانين اليمنية تكفل بعض الحريات ولكن عندما يتعلق الأمر بجسد المرأة يتم لي نصوص القانون ليّاً وتفسيرها على هوى السلطات المعنية، مشيرا إلى أن الذي يحكم توجهات الناس هو العيب وليس الحرام، فالمجتمع لا يكترث من حرمان النساء من الميراث ويقيم الدنيا ولا يقعدها إذا خرجت خصلة شعر من الحجاب.

 

وأكد الباحث غانم أن السلطات (الحكومة وجماعة الحوثي) تعاملتا مع توجه الفتاتين باشراحيل والحمادي بما يمليه المزاج الشعبي الأصولي المتشدد، فالبلد في حالة حرب وسط الجماعات المتطرفة التي تستطيع الحشد لجبهات القتال تحت مسمى الجهاد هو المسموع. لافتاً إلى أن نظرة المنظمات الدولية لقضية "إنتصار الحمادي" بأنها عنف رسمي قائم على النوع الاجتماعي.

 

ولفت إلى أن علم الاجتماع ينظر إلى هذا السلوك أو الظاهرة من خلال ما يسمى الاحتكاك الثقافي وتأثيرات العولمة الثقافية التي جعلت الاتجاهات الاجتماعية للمجتمعات الإنسانية أكثر تقاربا، ومن هذه الاتجاهات الحريات الشخصية وحركات الموضة ومجتمع "الميم"، إلا أن الاختراق الثقافي للمجتمعات التقليدية المتدينة يبدوا أكثر صعوبة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بمجتمع عربي مسلم مثل اليمن يدرك أن الدول التي تدعي أن مناصرة الحريات هي من تدعم جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني.

 

وبشأن تناقض المجتمع بالتأييد والرفض لتوجه تلك الفتيات، يؤكد غانم أن هناك فئات حداثية وفئات تقليدية تعيشان صراعا أزليا ليس فقط في اليمن بل في مختلف دول العالم ومنها على سبيل المثال الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول.

 

وحول نتائج ومخاطرة الظهور بهذا الشكل، يقول إن "حركات التمرد النسوية وغيرها لا تخشى المجازفة، لأنها تعلم أنها تتحدى النظام القائم والمجتمع وإن كان في حالة مد أصولي كبير، لكنه يحمل في أحشائه جنينا متمردا سيولد ويمشي على قدمين عندما تصبح الفرصة سانحة".

 

قوانين مجحفة وقيم متشددة

 

المحامية والحقوقية، هدى الصراري، تقول إن الرفض المجتمعي لأي امرأة تمتهن عرض الأزياء او أن تكون موديلز لعمل الإعلانات والتصوير أو تعمل في الشأن الفني، ناتج عن خصوصية المجتمع اليمني الذكوري المحافظ الذي تقيده العادات والتقاليد والموروثات الثقافية اليمنية".

 

في حديثها مع "الموقع بوست" ترى الصراري أن "هذه المهن تعتبر جديدة على مجتمعنا وتواجه برفض وعدم تقبل لما للمهنة من تحرر مفرط لحساسية المجتمع القبلي اليمني الذي مازالت تحكمه عادات وتقاليد وقيم إسلامية نوعا ما متشددة، بالرغم من الانفتاح المهول حول اليمن، إلا أن الحرب في البلاد وانغلاق اليمنيين على أنفسهم حتى أولئك الذين خرجوا وشاهدوا التطور والتقدم وفي أدق تفاصيل الحياة والمهن ومواكبة التطور العالمي المحيط بنا، ومجرد رجوعه لليمن تعاوده تلك العادات والتقاليد والممارسات على بنات ونساء مجتمعه انطلاقا من التنشئة الأسرية والتعاليم الدينية والمجتمعية المتوارثة جيلا عن جيل".

 

وأفادت أن "تخلف التشريعات الوضعية عن غيرها من دول العالم والاقليم ساهم في وضع نصوص قانونية تتحكم بما يصدر من النساء من أقوال وأفعال وتكيفها حسب تلك المواد القانونية المجحفة، بينما هذه المواد لم تطبق أبدا على الرجال، لكن المرأة اليمنية عادة ما يكون وضعها المجتمعي والأسري والقانوني في اليمن ضعيف جدا".

 

تضيف المحامية القانونية "للأسف القوانين اليمنية لم تتواكب مع أي تغييرات، فما زالت هي تلك النصوص العامة الفضفاضة التي يستطيع المتصيد في المجتمع أو الأمن تكييفها طالما والضحية أنثى".

 

وتابعت أن "القوانين اليمنية لم تعطِ حق المرأة من الأساس، فتشريعاتنا الخاصة بالأحوال الشخصية، وهناك نصوص في قانون الجرائم والعقوبات والجنسية أهملت حقوق النساء واجحفت حقهن، فالمُشرّع رجل والقاضي رجل والأمن أغلبه رجال، ومجتمعنا الذكوري ينظر بازدراء إلى أي مهنة تعمل بها النساء منطلقا من قاعدة أن مكان المرأة بيتها، فما بالك بمهن تتعلق بالأزياء والتصوير والعروض".

 

وأردفت الصراري "ساهم في تردي حماية النساء أيضا اهمال الدولة بموائمة الاتفاقيات الدولية مع التشريعات الوطنية وعدم تخصيص قانون يجرم العنف ضد النساء، مع أن محيطنا الاقليمي من دول عربية عمدت على انشاء تشريعات قانونية خاصة تجرم أي عنف ضد النساء والفتيات، إلا اليمن، وزاد الوضع سوءا بعد الحرب حيث تراجعت حقوق النساء للوراء وانعدمت آليات حمايتهن وأصبحت مجردة من أي حماية أسرية ناتج عن عنف أسري وحماية مجتمعية وحماية مؤسسية".

 

بالنسبة لإجراءات السلطات الأمنية المتخذة بحق "الحمادي وباشراحيل" قالت المحامية الصراري إن "تلك التحركات جاءت وفق تحريض ممنهج سابق لشخوص الفتاتين، حتى أولئك الذين يعملون في الشأن العام والمجتمعي، وبالتالي تم تكييف مواد قانونية لإضفاء طابع الشرعية أثناء الاعتقال والتحقيق مع باشراحيل ومن ثم ابتزازهما لمحو كافة ما جاء في حساباتها من مقاطع مصورة وصور ومنشورات، ولربما سوف تمضي على تعهد لعدم العودة، هذا في أحسن الأحوال، أو سيتم احالتها للمحاكمة وإصدار حكم ضدها كما حدث مع انتصار الحمادي".

 

مجتمع ذكوري

 

الناشطة الحقوقية فاطمة الأغبري أرجعت الرفض المجتمعي لتوجه الموديلات وعارضات الأزياء في اليمن بسبب العقلية التي تربى عليها المجتمع، حيث يرون أن النساء اللاتي يحملن هذه التوجهات هن سيئات وقمن بخرق العادات والتقاليد والدين.

 

في حديثها لـ "الموقع بوست" تقول الأغبري إن المجتمع يريد من المرأة أن تكون فقط ربة بيت تعمل خلف جدران المنزل، وإذا أرادت العمل عليها الالتزام بالمعايير التي رسمها المجتمع، مالم ستحارب بشكل سيء جدًا".

 

وأكدت أن العوائق التي تواجه تلك الفتيات هي عقلية المجتمع ورجال الدين ومن تبعهم". مستدركة بالقول إن "القانون لم يحدد ما الذي يجب أن تعمله المرأة ومالا تعمله، وبالتالي من الصعب عليا أن أتعمق أكثر فيما يتعلق بالقانون كون القانون له ناسه".

 

وبشأن تعامل السلطات قالت الحقوقية الأغبري إن "السلطات زجت بكلاهما (باشراحيل والحمادي) في المعتقل، بحضرموت طلب منها حذف الصور التي نشرت مع جلسة مناصحة لها وتم الافراج عنها، ولكنهم في الوقت نفسه أحالوا ملفها إلى النيابة، وفي صنعاء بقت انتصار في المعتقل تقضي الخمس سنوات رغم الافراج عن بقية من اعتقلوهن في القضية ذاتها وتم اتهامها بالفعل الفاضح".

 

تضيف أن "السلطات يُسيّرها المتطرفون المتدينون، وما حدث هو انتهاك للحقوق، فعن أي فعل فاضح يتحدثون ونحن كنا قبل سنوات نرى على خشبة المسارح الراقصات الشعبيات وما من أحد قال إنهن يعملن فعل فاضح".

 

فيما يتعلق بتضامن البعض معهن وهجوم البعض، ترى الأغبري أن ما يحصل هو مواجهات بين المتشددين والوسطيين ولأن المرأة كانت ولا زالت هي محور هذه المواجهات بينهما وأكثر من يتعرض للانتهاكات".

 

واختتمت الحقوقية الأغبري حديثها بالقول إن "نتائج مثل هذا التوجه للنساء ومخاطرة الظهور بهذا الشكل واضحة وهي الصدام مع المجتمع وتحديدا من يزعجهم مثل هذا التوجه، على الرغم من أنه لا يضر أحداً وكل إنسان مسؤول عن نفسه، والمخاطر هو التحريض ضدهم ومحاربتهم واعتقالهم ومحاكمتهم بتهم جاهزة في أدراجهم".

 

موجات تغريب

 

الدكتور فضل مراد، أستاذ الفقه والقضايا المعاصرة بجامعة قطر، قال إن "الموديلز أو عارضات الأزياء من القواطع الشرعية النهي عنه، لأنه تبرج لا يختلف فيه اثنان من أهل العلم، بل هي من المعلومات من الدين بالضرورة". واسترشد مراد بقول الله تعالى "ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما". وقوله تعالى أيضا "قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن".

 

في تصريح لـ "الموقع بوست" أضاف مراد أن "ما يسمى بالموديلز أو عارضات الأزياء فهي تظهر ما نهى الله سبحانه عن إظهاره إلا للزوج ومن ذكرهم في الآية من المحارم، مدللا بقول الله تعالى عن النساء الكبيرات في السن التي قد يئسن من النكاح "والقواعد من النساء اللاتي لا يردن نكاحا، فليس عليهن أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة"، وطبقا لمراد فإن هذا شرط بمعنى ألا تلبس الجلباب، فإذا كان المنهي عن المرأة الكبيرة في السن التي أجاز لها عدم لبس الجلباب بدون التبرج بالزينة فكيف بالشابة، حد قوله.

 

وبحسب أستاذ الفقه والقضايا المعاصرة، فإن هذه نصوص واضحات صريحات ولا يختلف فيها أهل العلم، لا سلف الأمة من المتقدمين أو المتأخرين ولا من المعاصرين، وهذا من الأمور المعلومة عن كل مسلم بالضرورة، فلا يمكن لمسلم أو مسلمة أن يقول لك التبرج حلال أم حرام، لأنه معلوم بالضرورة لا يسأل عنه ولا يسأل إلا عما يجهل، ولا يمكن من يأتي ويسأل هل الربا حلال أم حرام، هل الظلم حلال أم حرام وغيرها، مؤكدا أن التبرج والتعري وإظهار المفاتن محرم.

 

  ويرى الشيخ مراد أن الرفض المجتمعي نابع من المعلوم بالدين بالضرورة، فالمجتمع اليمني مسلم، وكل المجتمعات المسلمة ليس في اليمن فقط ترفض هذا، مشيرا إلى أن للمجتمع اليمني خصوصية بأنه محافظ أيضا، وكذلك من العادات والتقاليد الأسرية والقبلية التي وافقت الدين وراعاها الدين، فكل عادة وافقت التشريع في الدين فهي عادة حسنة، ويقول الله تعالى "وأمر بالعرف" الذي وافق الشرع، فكل عادة حسنة توافق الشرع أو لا تخالف الشرع فهي مقرة شرعا، فلذلك المجتمع رفض مثل هذه الأشياء".

 

وختم أستاذ الفقه والقضايا المعاصرة مراد بالقول "هناك موجات التغريب التي غزت العالم الإسلامي، وهناك مواجهة لها، بالإضافة إلى أن هناك نشاط من منظمات وجهات تدعم وتمول هذه التوجهات، لأن تقديم الشهوات والأهواء على الشريعة مذموم ذمه الله سبحانه وتعالى وحذر منه".


مقالات مشابهة

  • من هو الرئيس الإيراني المنتخب الإصلاحي مسعود بزشكيان؟
  • مدير مكتبة الإسكندرية: الشعب المصري متدين بطبعه ولا يمكن تجديد الخطاب الديني بآخر (فيديو)
  • بنات الموديلز في اليمن.. صدام مع المجتمع وقيود العادات والتشريع الديني (تقرير خاص)
  • طلب إحاطة ضد توحيد خطبة الجمعة: يضعف مستوى الدعاة ويعرقل تجديد الخطاب الديني
  • دينية «حماة الوطن»: تعيين «الأزهري» وزيرا للأوقاف يعزر الوسطية والاعتدال
  • وزير الأوقاف: تنسيق كامل مع مؤسسات الدولة وعلى رأسها الأزهر
  • وزير الأوقاف الجديد: بناء الشخصية الوطنية أحد مرتكزات تجديد الخطاب الديني
  • خطة وزير الأوقاف الجديد لتجديد الخطاب الديني على أرض الواقع (فيديو)
  • الأزهري: سنعمل تحت قيادة السيسي بما يليق بوطننا.. وتجديد الخطاب الديني ضمن الأولويات
  • وزير الأوقاف الجديد: تجديد الخطاب الديني ضمن أولوياتنا