عودة إلى عهد «البشير» القمعي: هل المساءلة ممكنة في زمن الحرب؟
تاريخ النشر: 31st, October 2024 GMT
تتزايد الشكوك داخل المجتمع السوداني حول إمكانية المساءلة الحقيقية. يتساءل الكثيرون عما إذا كان السودان سيتمكن يوماً من معالجة قضايا التعذيب والعنف المدعوم من الدولة
التغيير: أمل محمد الحسن
في الوقت الذي يواجه فيه السودان موجة جديدة من الصراع العنيف، لا يزال ضحايا التعذيب في ظل النظام القمعي ينتظرون العدالة.
قتل تحت التعذيب
آخر ما تحتفظ به ذاكرة أسرة الشهيد “صلاح الدين” هو رؤيته معصوب العينين، مقيد اليدين، وملجوم الفم، ملقى على ظهر سيارة تابعة للاستخبارات العسكرية التي اقتادته إلى مدرسة العزازي الثانوية، التي حُولت إلى “بيت أشباح” (المنازل التي كان أمن البشير يعتقل فيها الناشطين السياسيين ويقوم بتعذيبهم). بعدها، لم تعرف أسرته ما جرى له، خاصة بعد أن أخبرهم الضابط المسؤول بأنه “هرب” ليلة اعتقاله، وفق بيان صادر عن حزب المؤتمر السوداني، حيث كان الشهيد رئيس فرعيته بمحلية 24 القرشي، ولاية الجزيرة.
وفي بيانه، قال الحزب إن أحد المفرج عنهم أخبر مقربين منه بمشاهدة الشهيد ملقى في الفناء، مضرجا بدمائه وفي حالة إغماء، مما دفع أهله وأصدقاؤه في المنطقة إلى محاصرة المسؤولين من الاستخبارات العسكرية والمطالبة بالإفراج عنه. وفي اجتماع صبيحة التاسع من مايو 2024، أبلغوهم بأنه تعرض للدغة عقرب أدت لوفاته ودفنه في العراء. لكن بعد نبش قبره بواسطة وكيل النيابة المسؤول والطبيب الشرعي الذي حضر من الدويم (ولاية النيل الأبيض)، وُجد شجٌّ في رأسه يؤكد تعرضه للضرب بآلة حادة، ما يشير إلى موته نتيجة التعذيب.
عدالة كسيحة
أيقظت قضية مقتل “صلاح الدين الطيب” ذكريات مؤلمة لضحايا آخرين، مثل الشهيد أحمد الخير، الذي تعرّض للتعذيب والاغتصاب حتى الموت في 2019 خلال الثورة التي أطاحت بالبشير. وتركت العائلتان لمواجهة روايات كاذبة؛ حيث زعم المسؤولون أن صلاح مات بسبب لسعات العقارب، بينما صرّح مدير عام الشرطة على شاشات التلفاز الرسمي بأن سبب وفاة الشهيد أحمد الخير كان “تسمما غذائيا” في محاولة لحماية الجلادين من العواقب القانونية.
وعلى الرغم من صدور حكم قضائي بإعدام 29 عنصراً من جهاز الأمن والمخابرات الوطني بعد إدانتهم بتعذيب وقتل الشهيد أحمد الخير، كأول حكم بشأن قمع المتظاهرين عقب الإطاحة بالبشير في أبريل 2019، لم يُنفذ هذا الحكم. وكشف مقتل أحد المتهمين خلال مشاركته في الحرب الحالية عن إطلاق سراح المطلوبين وعدم تنفيذ الأحكام ضدهم.
استمرار الإفلات من العقاب أدى إلى تكرار الجرائم؛ فبعد أربعة أشهر من مقتل الشهيد صلاح، شهدت ولاية كسلا مقتل الشاب الأمين محمد نور تحت التعذيب في معتقلات جهاز الأمن. وقد أدت احتجاجات واسعة إلى تسليم خمسة متهمين، بينهم ضابط وأربعة من أفراد المخابرات، للنيابة العامة للتحقيق في مقتله.
وفق بيان صدر عن لجنة أمن الولاية، استدعت اللجنة قيادات محلية وشبابية لمناقشة سبل احتواء الموقف وضمان عدم تفاقم الأزمة، مشيرة إلى اتخاذ خطوات عاجلة لرفع الحصانة عن المتهمين. وقد ساهم هذا في تهدئة التوتر الشعبي.
لم تتمكن “التغيير” من الحصول على إفادات من أسرتي الشهيدين صلاح والأمين، حيث رفضتا التحدث إلى الإعلام. ولم تصدر أي أنباء عن تطورات في محاكمة قتلة شهيد كسلا، التي تخضع لسيطرة الجيش.
عودة نظام البشير
تُعدّ حالات القتل تحت التعذيب، مثلما حدث للشهيدين صلاح والأمين، تجسيداً لعودة كاملة لنظام البشير، وفق ما صرّح به المحامي المعز حضرة، الناطق الرسمي باسم هيئة الاتهام في انقلاب 30 يونيو 1989. وأوضح أن انقلاب 25 أكتوبر 2021 أعاد عناصر نظام البشير “على استحياء”، لكن بعد حرب 15 أبريل ظهر النظام بصورة علنية بكل أجهزته.
المعز حضرة: حالات القتل تحت التعذيب التي حدثت لـ”صلاح” و”الأمين” تجسد العودة الكاملة لنظام البشير
وأشار حضرة إلى عودة نفس الممارسات القمعية، كقتل المتظاهرين السلميين باستخدام القوة المفرطة، مثلما حدث للشهيدة ست النفور. وأعرب عن قلقه من التحديات التي تواجه نظام العدالة، مؤكداً على ضرورة تحديث الأنظمة العدلية بعد توقف حرب 15 أبريل، في ظل انتشار الانتهاكات في كافة أنحاء السودان.
انعدام الأمل
مصدر عدلي رفيع، فضّل عدم الكشف عن اسمه، اتفق مع ما ذكره حضرة، مشيراً إلى استحالة تنفيذ العدالة والمساءلة في ظل الظروف الراهنة. وأكد أنه لن يكون هناك مساءلة إلا بإقالة النائب العام ووزير العدل ورئيس القضاء وتشكيل مجلس أعلى للقضاء والنيابة لضمان الاستقلالية.
مصدر عدلي رفيع: لن تكون هناك مساءلة إلا بإقالة النائب العام ووزير العدل ورئيس القضاء وتشكيل مجالس أعلى للقضاء والنيابة لضمان الاستقلالية
يعود تدهور المنظومة العدلية، بحسب محمد الفكي سليمان، الرئيس المناوب السابق للجنة إزالة التمكين، إلى التسيس طويل الأمد لمؤسسات الخدمة المدنية والقطاع الأمني في عهد “البشير”.
وأشار إلى أن النيابة العامة مسيسة بصورة أكبر من القضاء، وأن محاولات الإصلاح كانت متعثرة، مما اضطر لجنة إزالة التمكين إلى اتخاذ إجراءات حازمة لإحالة بعض القضاة ووكلاء النيابة للصالح العام.
محمد الفكي سليمان: بعض القضاة ووكلاء النيابة الذين أحالتهم لجنة إزالة التمكين للصالح العام عادوا لوظائفهم كضباط في جهاز المخابرات
وقال الفكي في مقابلة مع “التغيير” إن بعض القضاة ووكلاء النيابة الذين تمت إحالتهم للصالح العام عادوا إلى وظائفهم كضباط في جهاز الأمن والمخابرات ما يؤكد مستوى انتهاك الأجهزة العدلية في عهد البشير!
دور المجتمع الدولي
لم تمر محنة السودان دون ملاحظة من المجتمع الدولي؛ إذ دعت منظمات حقوقية مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش إلى المساءلة، وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق شخصيات في نظام البشير. وعلى الرغم من أهمية هذه الجهود، فإن المؤسسات الوطنية هي التي تلعب الدور الأساسي في تحقيق العدالة ومنع الإفلات من العقاب، بحسب عبد الباسط الحاج، الباحث في منظمة وايامو.
خاتمة
تتزايد الشكوك داخل المجتمع السوداني حول إمكانية المساءلة الحقيقية. يتساءل الكثيرون عما إذا كان السودان سيتمكن يوماً من معالجة قضايا التعذيب والعنف المدعوم من الدولة، خاصة في ظل الانتهاكات المستمرة. لم يعد الأمر يتعلق فقط بالعدالة لجرائم الماضي، بل بما إذا كان السودان قادراً على بناء مستقبل يضع حداً للإفلات من العقاب.
الوسومالاستخبارات العسكرية التعذيب حرب السودان نظام البشير
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الاستخبارات العسكرية التعذيب حرب السودان نظام البشير
إقرأ أيضاً:
الجنجويد والطائرات المسيرة: سيمفونية الدمار التي يقودها الطمع والظلال الإماراتية
كتب الدكتور عزيز سليمان استاذ السياسة و السياسات العامة
في زمن يتداخل فيه الدخان الأسود برائحة البارود، وتصدح فيه أنين الأطفال وسط خرائب المستشفيات والمدارس و محطات الكهرباء و المياه ، يبدو السودان كلوحة مأساوية رسمها الجشع البشري. لكن، يا ترى، من يمسك بالفرشاة؟ ومن يرسم خطوط التدمير الممنهج الذي يستهدف بنية تحتية سودانية كانت يومًا ما عصب الحياة: محطات الكهرباء التي كانت تضيء الدروب، والطرق التي ربطت المدن، ومحطات مياه كانت تنبض بالأمل؟ الإجابة، كما يبدو، تكمن في أجنحة الطائرات المسيرة التي تحمل في طياتها أكثر من مجرد قنابل؛ إنها تحمل مشروعًا سياسيًا وجيوسياسيًا ينفذه الجنجويد، تلك المليشيا التي فقدت زمام المبادرة في الميدان، وانكسرت أمام مقاومة الشعب السوداني و جيشه اليازخ و مقاومته الشعبية الصادقة، فاختارت أن تُدمر بدلاً من أن تبني، وتُرهب بدلاً من أن تقاتل.
هذا النهج، يا اهلي الكرام، ليس عبثًا ولا عشوائية. إنه خطة مدروسة، يقف خلفها من يدير خيوط اللعبة من الخارج. الجنجويد، التي تحولت من مجموعة مسلحة محلية إلى أداة في يد قوى إقليمية، لم تعد تعمل بمفردها. الطائرات المسيرة، التي تقصف المدارس والمستشفيات، ليست مجرد أدوات تكنولوجية؛ إنها رسول يحمل تهديدًا صامتًا: “إما أن تجلسوا معنا على طاولة المفاوضات لننال حظنا من الثروات، وإما أن نجعل من السودان صحراء لا تحتمل الحياة”. ومن وراء هذا التهديد؟ الإجابة تلوح في الأفق، وهي دولة الإمارات العربية المتحدة، التي باتت، بحسب الشواهد، الراعي الأول لهذه المليشيا، مستخدمةً مرتزقة من كل أنحاء العالم، وسلاحًا أمريكيًا يمر عبر شبكات معقدة تشمل دولًا مثل تشاد و جنوب السودان وكينيا وأوغندا.
لكن لماذا السودان؟ الجواب يكمن في ثرواته المنهوبة، في أرضه الخصبة، ونفطه، وذهبه، ومياهه. الإمارات، التي ترى في السودان ساحة جديدة لتوسيع نفوذها الاقتصادي والسياسي، لم تتردد في استغلال الخلافات الداخلية. استخدمت بعض المجموعات السودانية، التي أُغريت بوعود السلطة أو خدعت بذريعة “الخلاص من الإخوان المسلمين”، كأدوات لتفكيك النسيج الاجتماعي والاقتصادي للبلاد. لكن، هل هذه الذريعة الدينية أو السياسية كافية لتبرير تدمير أمة بأكملها؟ بالطبع لا. إنها مجرد ستار يخفي وراءه طمعًا لا حدود له.
الجنجويد، التي انهزمت في المعارك التقليدية، لجأت إلى استراتيجية الإرهاب المنظم. الطائرات المسيرة ليست مجرد أسلحة؛ إنها رمز لعجزها، ولكن أيضًا لدعمها الخارجي. فكل قصف يستهدف محطة كهرباء أو طريقًا أو مصدر مياه، هو رسالة موجهة إلى الحكومة السودانية: “لن نوقف حتى تجلسوا معنا”. لكن من يجلسون حقًا؟ هل هي الجنجويد وحدها، أم القوات المتعددة الجنسيات التي تجمع بين المرتزقة والمصالح الإماراتية؟ أم أن الجلسة ستكون مع الإمارات نفسها، التي باتت تتحكم في خيوط اللعبة؟ أم مع “التقدم”، ذلك الوهم الذي يبيعونه على أنه مخرج، بينما هو في الحقيقة استسلام للعدوان؟
هنا، يجب على الحكومة السودانية أن تتذكر أنها ليست مجرد ممثلة لنفسها، بل هي وكيلة عن شعب دفع ثمن أخطاء الحرية والتغيير، وأخطاء الإخوان المسلمين، وأخطاء السياسات الداخلية والخارجية. الشعب السوداني، الذي قاوم وصبر، يطالب اليوم بموقف واضح: موقف ينبع من روحه، لا من حسابات السلطة أو المصالح الضيقة. يجب على الحكومة أن تتحرى هذا الموقف، وأن تعيد بناء الثقة مع شعبها، بدلاً من الاستسلام لضغوط خارجية أو داخلية.
ورأيي الشخصي، أن الحل لا يبدأ بالجلوس مع الجنجويد أو راعيها، بل بفك حصار الفاشر، وتأمين الحدود مع تشاد، ورفع شكاوى إلى محكمة العدل الدولية. يجب أن تكون الشكوى شاملة، تضم الإمارات كراعٍ رئيسي، وتشاد كجار متورط، وأمريكا بسبب السلاح الذي وصل عبر شبكات دول مثل جنوب السودان وكينيا وأوغندا. كل هذه الدول، سواء من قريب أو بعيد، ساهمت في هذا العدوان الذي يهدد استقرار إفريقيا بأكملها.
في النهاية، السؤال المرير يبقى: مع من تجلس الحكومة إذا قررت الجلوس؟ هل مع الجنجويد التي أصبحت وجهًا للعنف، أم مع القوات المتعددة الجنسيات التي لا وجه لها، أم مع الإمارات التي تختبئ خلف ستار الدعم الاقتصادي، أم مع “صمود” التي يبدو وكأنها مجرد وهم؟ الإجابة، كما يبدو، ليست سهلة، لكنها ضرورية. فالسودان ليس مجرد ساحة للصراعات الإقليمية، بل هو تراب يستحقه اهله ليس طمع الطامعين و من عاونهم من بني جلدتنا .
quincysjones@hotmail.com