تتزايد الشكوك داخل المجتمع السوداني حول إمكانية المساءلة الحقيقية. يتساءل الكثيرون عما إذا كان السودان سيتمكن يوماً من معالجة قضايا التعذيب والعنف المدعوم من الدولة

التغيير: أمل محمد الحسن

في الوقت الذي يواجه فيه السودان موجة جديدة من الصراع العنيف، لا يزال ضحايا التعذيب في ظل النظام القمعي ينتظرون العدالة.

وبينما تتعالى دعواتهم للمساءلة، يبقى النظام القانوني والسياسي في البلاد في حالة اضطراب مع عودة نظام أمن “البشير” بسلطاته القمعية وعودة عناصره إلى كافة الأجهزة العدلية، مما يترك الكثيرين يتساءلون عما إذا كانت العدالة ممكنة في بلد لم يُحاسب فيه أي فرد عن انتهاكات سابقة.

قتل تحت التعذيب

آخر ما تحتفظ به ذاكرة أسرة الشهيد “صلاح الدين” هو رؤيته معصوب العينين، مقيد اليدين، وملجوم الفم، ملقى على ظهر سيارة تابعة للاستخبارات العسكرية التي اقتادته إلى مدرسة العزازي الثانوية، التي حُولت إلى “بيت أشباح” (المنازل التي كان أمن البشير يعتقل فيها الناشطين السياسيين ويقوم بتعذيبهم). بعدها، لم تعرف أسرته ما جرى له، خاصة بعد أن أخبرهم الضابط المسؤول بأنه “هرب” ليلة اعتقاله، وفق بيان صادر عن حزب المؤتمر السوداني، حيث كان الشهيد رئيس فرعيته بمحلية 24 القرشي، ولاية الجزيرة.

وفي بيانه، قال الحزب إن أحد المفرج عنهم أخبر مقربين منه بمشاهدة الشهيد ملقى في الفناء، مضرجا بدمائه وفي حالة إغماء، مما دفع أهله وأصدقاؤه في المنطقة إلى محاصرة المسؤولين من الاستخبارات العسكرية والمطالبة بالإفراج عنه. وفي اجتماع صبيحة التاسع من مايو 2024، أبلغوهم بأنه تعرض للدغة عقرب أدت لوفاته ودفنه في العراء. لكن بعد نبش قبره بواسطة وكيل النيابة المسؤول والطبيب الشرعي الذي حضر من الدويم (ولاية النيل الأبيض)، وُجد شجٌّ في رأسه يؤكد تعرضه للضرب بآلة حادة، ما يشير إلى موته نتيجة التعذيب.

عدالة كسيحة

أيقظت قضية مقتل “صلاح الدين الطيب” ذكريات مؤلمة لضحايا آخرين، مثل الشهيد أحمد الخير، الذي تعرّض للتعذيب والاغتصاب حتى الموت في 2019 خلال الثورة التي أطاحت بالبشير. وتركت العائلتان لمواجهة روايات كاذبة؛ حيث زعم المسؤولون أن صلاح مات بسبب لسعات العقارب، بينما صرّح مدير عام الشرطة على شاشات التلفاز الرسمي بأن سبب وفاة الشهيد أحمد الخير كان “تسمما غذائيا” في محاولة لحماية الجلادين من العواقب القانونية.

وعلى الرغم من صدور حكم قضائي بإعدام 29 عنصراً من جهاز الأمن والمخابرات الوطني بعد إدانتهم بتعذيب وقتل الشهيد أحمد الخير، كأول حكم بشأن قمع المتظاهرين عقب الإطاحة بالبشير في أبريل 2019، لم يُنفذ هذا الحكم. وكشف مقتل أحد المتهمين خلال مشاركته في الحرب الحالية عن إطلاق سراح المطلوبين وعدم تنفيذ الأحكام ضدهم.

استمرار الإفلات من العقاب أدى إلى تكرار الجرائم؛ فبعد أربعة أشهر من مقتل الشهيد صلاح، شهدت ولاية كسلا مقتل الشاب الأمين محمد نور تحت التعذيب في معتقلات جهاز الأمن. وقد أدت احتجاجات واسعة إلى تسليم خمسة متهمين، بينهم ضابط وأربعة من أفراد المخابرات، للنيابة العامة للتحقيق في مقتله.

وفق بيان صدر عن لجنة أمن الولاية، استدعت اللجنة قيادات محلية وشبابية لمناقشة سبل احتواء الموقف وضمان عدم تفاقم الأزمة، مشيرة إلى اتخاذ خطوات عاجلة لرفع الحصانة عن المتهمين. وقد ساهم هذا في تهدئة التوتر الشعبي.

لم تتمكن “التغيير” من الحصول على إفادات من أسرتي الشهيدين صلاح والأمين، حيث رفضتا التحدث إلى الإعلام. ولم تصدر أي أنباء عن تطورات في محاكمة قتلة شهيد كسلا، التي تخضع لسيطرة الجيش.

عودة نظام البشير

تُعدّ حالات القتل تحت التعذيب، مثلما حدث للشهيدين صلاح والأمين، تجسيداً لعودة كاملة لنظام البشير، وفق ما صرّح به المحامي المعز حضرة، الناطق الرسمي باسم هيئة الاتهام في انقلاب 30 يونيو 1989. وأوضح أن انقلاب 25 أكتوبر 2021 أعاد عناصر نظام البشير “على استحياء”، لكن بعد حرب 15 أبريل ظهر النظام بصورة علنية بكل أجهزته.

المعز حضرة: حالات القتل تحت التعذيب التي حدثت لـ”صلاح” و”الأمين” تجسد العودة الكاملة لنظام البشير

وأشار حضرة إلى عودة نفس الممارسات القمعية، كقتل المتظاهرين السلميين باستخدام القوة المفرطة، مثلما حدث للشهيدة ست النفور. وأعرب عن قلقه من التحديات التي تواجه نظام العدالة، مؤكداً على ضرورة تحديث الأنظمة العدلية بعد توقف حرب 15 أبريل، في ظل انتشار الانتهاكات في كافة أنحاء السودان.

انعدام الأمل

مصدر عدلي رفيع، فضّل عدم الكشف عن اسمه، اتفق مع ما ذكره حضرة، مشيراً إلى استحالة تنفيذ العدالة والمساءلة في ظل الظروف الراهنة. وأكد أنه لن يكون هناك مساءلة إلا بإقالة النائب العام ووزير العدل ورئيس القضاء وتشكيل مجلس أعلى للقضاء والنيابة لضمان الاستقلالية.

مصدر عدلي رفيع: لن تكون هناك مساءلة إلا بإقالة النائب العام ووزير العدل ورئيس القضاء وتشكيل مجالس أعلى للقضاء والنيابة لضمان الاستقلالية

يعود تدهور المنظومة العدلية، بحسب محمد الفكي سليمان، الرئيس المناوب السابق للجنة إزالة التمكين، إلى التسيس طويل الأمد لمؤسسات الخدمة المدنية والقطاع الأمني في عهد “البشير”.

وأشار إلى أن النيابة العامة مسيسة بصورة أكبر من القضاء، وأن محاولات الإصلاح كانت متعثرة، مما اضطر لجنة إزالة التمكين إلى اتخاذ إجراءات حازمة لإحالة بعض القضاة ووكلاء النيابة للصالح العام.

محمد الفكي سليمان: بعض القضاة ووكلاء النيابة الذين أحالتهم لجنة إزالة التمكين للصالح العام عادوا لوظائفهم كضباط في جهاز المخابرات

وقال الفكي في مقابلة مع “التغيير” إن بعض القضاة ووكلاء النيابة الذين تمت إحالتهم للصالح العام عادوا إلى وظائفهم كضباط في جهاز الأمن والمخابرات ما يؤكد مستوى انتهاك الأجهزة العدلية في عهد البشير!

دور المجتمع الدولي

لم تمر محنة السودان دون ملاحظة من المجتمع الدولي؛ إذ دعت منظمات حقوقية مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش إلى المساءلة، وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق شخصيات في نظام البشير. وعلى الرغم من أهمية هذه الجهود، فإن المؤسسات الوطنية هي التي تلعب الدور الأساسي في تحقيق العدالة ومنع الإفلات من العقاب، بحسب عبد الباسط الحاج، الباحث في منظمة وايامو.

خاتمة

تتزايد الشكوك داخل المجتمع السوداني حول إمكانية المساءلة الحقيقية. يتساءل الكثيرون عما إذا كان السودان سيتمكن يوماً من معالجة قضايا التعذيب والعنف المدعوم من الدولة، خاصة في ظل الانتهاكات المستمرة. لم يعد الأمر يتعلق فقط بالعدالة لجرائم الماضي، بل بما إذا كان السودان قادراً على بناء مستقبل يضع حداً للإفلات من العقاب.

 

الوسومالاستخبارات العسكرية التعذيب حرب السودان نظام البشير

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الاستخبارات العسكرية التعذيب حرب السودان نظام البشير

إقرأ أيضاً:

“هآرتس”: الحشود التي تعبر نِتساريم حطّمت وهم النصر المطلق‎

وأكمل بالقول: “معظم فترة الحرب، رفض نتنياهو مناقشة الترتيبات لما بعد الحرب في قطاع غزة، ولم يوافق على فتح باب لمشاركة السلطة الفلسطينية في غزة، واستمر في دفع سيناريو خيالي لهزيمة حماس بشكل تام. والآن، من يمكن الاعتقاد أنه اضطر للتسوية على أقل من ذلك بكثير”.

ورأى هرئيل أن رئيس حكومة العدو، هذا الأسبوع، قد حقق ما أراده، إذ إن حماس وضعت عوائق في طريق تنفيذ الدفعات التالية من المرحلة الأولى في صفقة الأسرى، لكن نتنياهو تمكن من التغلب عليها، على حد تعبيره، موضحًا أنه: “حتى منتصف الليل يوم الأحد، تأخر نتنياهو في الموافقة على عبور مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى شمال القطاع، بعد أن تراجعت حماس عن وعدها بالإفراج عن الأسيرة أربيل يهود من “نير عوز””، ولكن بعد ذلك أعلنت حماس نيتها الإفراج عن الأسيرة، وفق زعمه، فعلّق هرئيل: “حماس وعدت، والوسطاء تعهدوا، أن يهود ستعود بعد غد مع الجندية الأخيرة آغام برغر ومع أسير “صهيوني” آخر، والدفعة التالية، التي تشمل ثلاثة أسرى “مدنيين” (من المستوطنين)، ستتم في يوم السبت القادم”. لذلك، قاد تعنّت نتنياهو – ومنعه عودة النازحين الفلسطينيين – على تسريع الإفراج عن ثلاثة أسرى صهاينة في أسبوع، على حد ادعاء الكاتب.

تابع هرئيل: “لكن في الصورة الكبيرة، قدمت حماس تنازلًا تكتيكيًّا لإكمال خطوة استراتيجية، أي عودة السكان إلى شمال القطاع”، مردفًا: “أنه بعد عودتهم إلى البلدات المدمرة، سيكون من الصعب على الكيان استئناف الحرب وإجلاء المواطنين مرة أخرى من المناطق التي عادت إليها حتى إذا انهار الاتفاق بعد ستة أسابيع من المرحلة الأولى”، مضيفًا: “على الرغم من نشر مقاولين أميركيين من البنتاغون في ممر “نِتساريم” للتأكد من عدم تهريب الأسلحة في السيارات، لا يوجد مراقبة للحشود التي تتحرك سيرًا على الأقدام، من المحتمل أن تتمكن حماس من تهريب الكثير من الأسلحة بهذه الطريقة، وفق زعمه، كما أن الجناح العسكري للحركة، الذي لم يتراجع تمامًا عن شمال القطاع، سيكون قادرًا على تجديد تدريجي لكوادره العملياتية”.

وادعى هرئيل أن حماس تلقت ضربة عسكرية كبيرة في الحرب، على الأرجح هي الأشد، ومع ذلك، لا يرى أن هناك حسمًا، مشيرًا إلى أن هذا هو مصدر الوعود التي يطلقها “وزير المالية في كيان الاحتلال” بتسلئيل سموتريتش، المتمسك بمقعده رغم معارضته لصفقة الأسرى، بشأن العودة السريعة للحرب التي ستحل المشكلة مرة واحدة وإلى الأبد، ويعتقد هرئيل أن: “الحقيقة بعيدة عن ذلك، استئناف الحرب لا يعتمد تقريبًا على نتنياهو، وبالتأكيد ليس على شركائه من “اليمين المتطرف”، القرار النهائي على الأرجح في يد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومن المتوقع أن يستضيف الأخير نتنياهو قريبًا في واشنطن للاجتماع، وهذه المرة لا يمكن وصفه إلا بالمصيري”.

وأردف هرئيل ، وفقا لموقع العهد الاخباري: “ترامب يحب الضبابية والغموض، حتى يقرر، لذلك من الصعب جدًّا التنبؤ بسلوكه”، لافتًا إلى أنه وفقًا للإشارات التي تركها ترامب في الأسابيع الأخيرة، فإن اهتمامه الرئيسي ليس في استئناف الحرب بل في إنهائها، وأكمل قائلًا: “حاليًا، يبدو أن هذا هو الاتجاه الذي سيضغط فيه على نتنياهو لإتمام صفقة الأسرى، وصفقة ضخمة أميركية – سعودية – صهيونية وربما أيضًا للاعتراف، على الأقل شفهيًّا، برؤية مستقبلية لإقامة دولة فلسطينية”.

وقال هرئيل إن “نتنياهو، الذي أصرّ طوال السنوات أنه قادر على إدارة “الدولة” (الكيان) وأيضًا الوقوف أمام محكمة جنائية، جُرّ أمس مرة أخرى للإدلاء بشهادته في المحكمة المركزية، رغم أنه يبدو بوضوح أنه لم يتعاف بعد من العملية التي أجراها في بداية الشهر، واستغل الفرصة لنفي الشائعات التي تفيد بأنه يعاني من مرض عضال، لكنه لم يشرح بشكل علني حالته الصحية”، مشددًا على أن نتنياهو الآن، من خلال معاناته الشخصية والطبية والجنائية والسياسية، قد يُطلب منه مواجهة أكبر ضغط مارسه رئيس أميركي على رئيس وزراء الكيان الصهيوني.

 

مقالات مشابهة

  • ٢٩ يناير مذبحة بورتسودان .. اجندة جديدة لشرق السودان والسودان
  • “هآرتس”: الحشود التي تعبر نِتساريم حطّمت وهم النصر المطلق‎
  • عودة النقاش حول نظام الباكلوريوس في التعليم العالي
  • بوتين: الحرب في أوكرانيا قد تنتهي خلال شهرين والمفاوضات ممكنة ولكن ليس مع زيلينسكي لأنه “غير شرعي”
  • السودان؛ الحرب المشهودة
  • الجنائية الدولية تطالب السودان بتسليم عمر البشير ومساعديه.. تعرّف على التفاصيل
  • السودان.. الجنائية الدولية تطالب بتسليم «البشير» وتوقيف مرتكبي الجرائم في دارفور
  • "الجنائية الدولية" تطالب السودان بتسليم البشير
  • الجنائية الدولية تطالب السودان بتسليم عمر البشير ومساعديه
  • المحكمة الجنائية الدولية تطالب السودان بتسليم البشير