عودة إلى إشكاليات رواية المقريزي للبقط 5
تاريخ النشر: 31st, October 2024 GMT
د. أحمد الياس حسين
ahmed.elyas@gmail.com
مدلول كلمة "نوبة"
تعرفنا في موضوعنا السابق على النوباد، وأنهم كانوا أول من تعامل معهم المسلمون في جنوب مصر وأطلقوا عليهم اسم "النوبة". ولما كانت روايات صلح البقط كلها قد خاطبت النوبة فينبغي علينا التعرف على مدلول كلمة "نوبة" عند المسلمين في ذلك الوقت المبكر.
مدلول كلمة نوبة في الوثائق:
لدينا ثلاث وثائق قديمة تتعلق بالنوبة: 1. صلح عمرو بن العاص لأهل مصر 2. رواية المقريزي للبقط 3. رسالتي ملك نوباتيا وبطرك اسكندرية 4. خطاب والي مصر إلى ملك النوبة 141ه
الوثيقة الأولى: صلح أهل مصر
وردت كلمة نوبة في وثيقة صلح أهل مصر برسمين هما "نوب" و "نوبة" وقد أوضحنا – في الموضوع السابق رقم 4 - أنهما بمعنى واحد يشيران إلى النوباد. وهم النوبة الوحيدين المعروفين للمسلمين في ذلك الوقت المبكر في جنوب مصر. فكلمة نوبة في صلح أهل مصر مقصود بها النوباد.
الوثيقة الثانية: عهد البقط رواية المقريزي
خاطب اتفاق البقط الطرف الأول وهم النوبة من حد أسوان إلى حد علوة بعهد "أمان وهدنة" بينهم وبين الطرف الثاني وهم المسلمون ومن جاورهم من أهل صعيد مصر، وغيرهم من المسلمين، وأهل الذمّة. وهذه هي الوثيقة التي نناقش إشكالياتها.
الوثيقة الثالثة: رسالتي ملك مقرة وبطرك اسكندرية 67 – 70 ه/686 -689 م
اعتنقت مملكتا النوباد وعلوة المسيحية على مذهب الكنيسة القبطية المصرية (المذهب اليعقوبي) التي كانت رآستها في الإسكندرية، بينما اعتنقت مملكة مقرة المسيحية على المذهب الملكي Melkite الذي كانت رآسته في القسطنطينية. فكانت مملكتي نوباديا وعلوة يتلقيان أساقفتهما من الكنيسة القبطية، بينما تتلقى مملكة مقرة أساقفتها من الكنيسة الملكية.
وقد انتشر المذهبان في مصر. وكانت السلطات البيزنطية تدعم المذهب الملكي الذي كان منتشراَ بصورة كبيرة بين الرومان مما جعل مركز الكنيسة الملكية قويّاً بينما قاسى قادة وأتباع الكنيسة القبطية الاضطهاد من السلطات البيزنطية الحاكمة وبخاصة في السنوات القليلة التي سبقت الفتح الإسلامي لمصر. ولذلك لم يقف الأقباط مع البيزنطيين أمام الغزو الإسلامي، بل تعاونوا مع المسلمين. (ابن عبد الحكم الذخائر ص 58 و72-73)
وبعد الفتح الإسلامي لمصر استقرت أوضاع الكنيسة القبطية بينما اضطربت أوضاع الكنيسة الملكية. فقد ذكر ابن البطريق (ت328ه/940 م) أنه منذ خروج "آخر بطرك Archbishop ملكاني من الإسكندرية في العام الثالث لخلافة عمر بن الخطاب [16ه/637 م] أصبح كرسي البطركية الملكية شاعرا حتى العام السابع من خلافة هشام بن الملك" عام [113ه/731 م] وفي هذه الفترة أصبح للكنيسة القبطية اليد العليا في مصر. (ابن البطريق في Vantini, p123)
وفي فترة غياب بطاركة الكنيسة الملكية أصبحت كنيسة مملكة مقرة تطلب الأساقفة من الكنيسة القبطية في مصر. فقد ذكر أبا منا Abba Mina الذي كتب حوالي عام (81ه/700م) سيرة إسحاق بطرك الإسكندرية بين عامي 67-70هـ (686-689م) رسالتين بهذا الصدد ملخصةً في الفقرات التالية:
1. أرسل ملك مقُرة مبعوث برسالة إلى البطرك اسحاق في الاسكندرية يخبره فيها بأن عدد الأساقفة يتناقص في مملكته نسبة لبعد المسافة بينه وبين الاسكندرية لأن ملك موريتانيا منع الأساقفة من عبور بلاده للوصل إلى مقرة، ولم تكن البلدان في حالة سلام.
2. ويشرح أبا منا الوضع في المنطقة قائلاً: "في الواقع يوجد ملكان يحكمان في تلك المنطقة، كلاهما مسيحيان، ولكن لا سلام بينهما، لأن أحدهما وهو ملك موريتانيا كان في سلام مع المسلمين. أما الآخر وهو ملك مقرة لم يكن في سلام مع المسلمين.
3. ولما قرأ البطرك خطاب ملك مقرة، وفهم ما فيه، وشعر بالأسف العميق لما آلت إليه حال الكنائس. وفي الحال كتب رسالة إلى ملك مورتانيا نصحه بحق الكتاب ووجه إليه كلمات كثيرة لتقوية روحه في الإيمان، وأوضح له "أن منع أهل المملكة التي تقع إلى الجنوب منكم من عبور بلادكم للوصل إلينا والحصول على أسقفهم - لكيلا تصبح الكنائس مهجورة - يعتبر عارًا كبيرًا أمام الله.
4. ويواصل أبا من موضحاً أن المسلمين عندما علموا بذلك أخبروا والي مصر بأن البطرك إسحاق أرسل رسالة إلى ملك مورتانيا "ينصحه بأن يعقد صلحًا مع ملك مقرة الذي هو عدونا. فإن حدث ذلك، أيها الملك، فسيصبحون على قلب رجل واحد ويحملون السلاح لقتالنا.“
تتعلق رسالة ملك مورتانيا بموضوع القساوسة الذين كانوا يأتون من الإسكندرية مملكة مثرة. فقد كان طريق سفر أوليائك القساوسة إلى مقرة يتجه من الاسكندرية جنوباً عبر الأراضي المصرية، ثم يواصلون رحلتهم جنوباً عبر أراضي مملكة مورتانيا إلى مملكة مقرة. وتوضح الرسالة أن ملك مورتانيا منع مرور القساوسة عبر بلاده لأن المملكتين لم تكونا في حالة سلام. وقد أدى هذا القرار إلى صعوبة سفر القساوسة إلى مورتانيا لأن طريق الرحلة أصبح طويلا ولم يعد القساوسة يرغبون في الذهاب لمملكة مقرة. فأرسل ملك مقرة رسالته إلى بطرق اسكندرية يشتكي فيها ملك مورتانيا (فقرة رقم 1) لأنه منع مرور الأساقفة عبر بلاده مما أدى إلى تناقص عدد الأساقفة في بلاده.
فمورتانيا في هذه الرسالة تقع على حدود مصر الجنوبية، وتفصل مصر عن مملكة مقرة، كما يفهم ذلك أيضاً مما جاء في الفقرة رقم 3. وتوضح الفقرة 2 أن كلا الملكين - ملك مقرة وملك مورتانيا – مسيحيين، وأن مملكة مورتانيا كانت في صلح مع المسلمين بينما مملكة مقرة لم تكن في صلح مع المسلين، ويعتبرونها عدوة كما جاء في فقرة رقم 4.
وقد تناول ابن المقفع الذي كان عائشاً في القرن الرابع الهجري(10م) أيضاً رسالة البطرك في سيرة البطرك إسحاق. فذكر أنه "في تِلْكَ الْأَيَّامِ كَتَبَ الْبَطْرَكُ رَسَائِلَ إِلَى مَلِكِ الْحَبَشَةِ وَمَلِكِ النُّوبَةِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الصُّلْحِ وَيَدْعُو أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمْ شَرٌّ. (ابن المقفع، ج 1 ص 109)
فمن هو ملك مورتانيا النوبي وملك الحبشة الذي تقع بلاده على حدود مصر الجنوب وتفصلها عن مملكة مقرة؟ فيما يتعلق بملك مورتانيا أوضحJohn of Nikiou نحو 686 م(67ه) أن المورتانيين في هذه الرسالة مقصود بهم النوبة، فقد ذكر "أن بربر النوبة وافريقية (بالتاء المربوطة) يطلق عليهم الموريتانيين، والبربر الآخرون يطلق عليهم ماريكوس." (In Vantini, p 34) وصف John of Nikiou النوبة بالبربر باعتبارهم امتداداً سكانياً لبربر شمال افريقيا. وإفريقية في هذا النص مقصود بها الولاية الرومانية التي كانت في منطقة تونس الحالية. فالنوبة وسكان منطقة تونس الحالية كانوا يعرفون بالمورتانيين. وموقع مورتانيا الرومانية لا علاقة له بموقع دولة مورتانيا الحالية.
أما ما يتعلق بالحبشة في نص ابن المقفع فيتطلب معرفة مدلول كلمة حبشة في ذلك الوقت. كان الكُتاب العرب المبكرون يطلقون في بعض الأحيان كلمة الحبش للدلالة على معنى واسع يتضمن بلاد النوبة. فقد ذكر المسعودي أن بلاد الواحات تقع "بين بلاد مصر والإسكندرية وبين صعيد مصر والمغرب وبين أرض الأحابش من النوبة وغيرهم" وعن صاحب الواحات قال: "وبينه وبين الأحابش نحو من ستة أيام" ( المسعودي، ج 1 ص 179) ويقول في مكان آخر: "وقد ذكرنا النتاج الذي كان بصعيد مصر مما يلي الحبشة وما كان ينتج من الثيران على الأتن" (المسعودي، ج 1 ص 161 و179) وقال القلقشندي عن حدود مصر الغربية: "وحدها الغربي يبتدئ من ساحل البحر الرومي حيث العقبة، ويمتد جنوباً، وأرض إفريقية غربيه، على ظاهر الفيوم والواحات حتى يقع على صحراء الحبشة على ثمان مراحل من أسوان" (القلقشندي ح 1 ص 441)
فالأحابيش والحبشة في نصوص المسعودي والقلقشندي مقصود بهم النوبة، وملك الحبشة في نص ابن القفع مقصود به ملك النوبة. وقد أوضح ذلك ابن المقفع نفسه حين ذكر في سيرة الأنبا ميخائيل: “كان ملك المقرة الحبشي ارتدكس وهو الملك العظيم" ابن المقفع، ج 1 ص 163 وفي مصطفى مصعد ص 63)
ويبدو واضحاً أن ملك مورتانيا في رسالة البطرك عند أبا منا، وملك الحبشة في رسالة البطرك عند ابن المقفع مقصود بهما ملك النوبة. وتوضح تلك الرسائل أنه بين عامي 67-70ه/686 – 689 م كانت هنالك مملكتان نوبيتان مسيحيتان تجاور أُولاهما حدود مصر الجنوبية وتتبع الكنيسة القبطية وعلى صلح مع المسلمين وعرفت باسمي مورتانيا والحبشة هي مملكة النوباد التي تأسست قبل نحو قرن من دخول المسلمين مصر والتي أطلق عليها المسلمون المبكرون اسم "النوبة". والمملكة الثانية هي مملكة مقرة التي كانت تقع جنوب المملكة الأولى وتتبع الكنيسة الملكية وليست على صلح مع المسلين
والإشكال هنا هو كيف تتناول رسالة مكتوبة بين عامي 76 – 70 هـ مملكة النوباد التي لم يجدها عبد الله بن سعد – كما في رواية المقريزي – عندما حارب النوبة عام 31ه؟ في الواقع الأمر افترض المؤرخون بناءً على رواية المقريزي أن مملكة النوباد اتحدت مع مملكة مقرة قبل عام 31ه ولم يعد لها وجود عندما غزا عبد الله بن سعد النوبة عام 31ه. فأصبحت رواية المقريزي تمثل الدليل الوحيد الذي اعتمد علية المؤرخون في تحديد تاريخ اتحاد المملكتين. وسيتم تناول اتحاد المملكتين في موضوع منفصل في هذه السلسلة إن شاء الله.
الوثيقة الرابعة: رسالة والي مصر لملك النوبة
أرسل والي مصر موسى بن كعب رسالة عام 141ه/758 م إلى ملك مقرة خاطبه فيها بــصاحب مقرة ونوبة. طالب والي مصر من ملك مقرة الوفاء بما اتفقوا عليه من شروط في العلاقة بينهما، موضحاً أن المسلمين أوفوا بالتزامهم للنوبة. والجزء الذي يهمنا في هذ الرسالة هو ما ورد في بدايتها وهو مخاطبة ملك مقرة بــ "صاحب مقر ونوبة" وقد كُتبت كلمة "مقر" هكذا في الرسالة بدون تاء أو ألف في آخرها. تنطق بتشديد الراء.
عندما كتب والي مصر هذه الرسالة نحو منتصف القرن الثاني الهجري (8 م) كانت مملكة النوباد قد اتحدت مع مملكة مقرة، وأصبحت منطقة نوباديا بين أسوان شمالا والشلال الثالث جنوباً تمثل الجزء الشمالي لمملكة مقرة، أي لم يعد هنالك وجود مستقل لمملكة نوباديا. وقد أوضحنا سابقًاً أن نوباديا عرفت في السان العربي بالنوبة. فلماذا خاطب والي مصر ملك مقرة بــ"ملك مقرة والنوبة"؟
كان النوباد/النوبة أول من تواصل معهم المسلمون في صلح أهل مصر قبل بداية حروبهم جنوباً. فأصبح مدلول كلمة نوبة في ذهن المسلمين المبكرين في مصر مرتبطا بمنطقة النوباد أو منطقة مريس في المفهوم المصري. وعندما توسع تواصل المسلمين جنوباً مع مملكة مقرة وعلوة وأطلقوا عليهما أيضاً اسم النوبة. فأصبحت كلمة النوبة ندل على معنيين، معنى خاص يدل على منطقة مريس (نوباديا) وسكانها، ومعنى عام يدل على كل مناطق مريس ومقرة وعلوة وسكانهم. فمخاطبة والي مصر ملك مقرة بملك النوبة ومقرة تعني ملك النوبة (النوباد/المريس) وملك مقرة.
وهذا الفصل بين النوبة (النوباد/المريس) ومقرة يبدو واضحاً جداً في المصادر العربية المبكرة حتى القرن الرابع الهجري (10 م) فابن سُليم الأسواني (ت 386ه/996م) أوضح "أعلم أن النوبة ومُقُرة جنسان بلسانين كلاهما على النيل، فالنوبة وهم المريس المجاورون لأرض الاسلام" وأوضح "أن الشلال الثالث هو أول بلد مقرة." (اببن سليم ص 98) وعن ملك دنقلة قال ياقوت الحموي: "وكتاباته إلى عماله وغيرهم من كابيل ملك مقرى ونوبة" (ياقوت الحموي ص 166) كما ورد نفس المعنى عند المسعودي حيث ذكر: "وملكهم [النوبة] يستولى على مقرا ونوبة وعلوة،
فرسالة والي مصر لملك مقرة والنوبة توضح أن المسلمين المبكرين كانوا يفصلون بين النوبة ومقرة، وظهر ذلك في المصادر العربية كما عند ابن سليم وياقوت الحموي والمسعودي. فالنوبة هم النوباد وهو الاسم الذي أطلقه عليهم الرومان منذ استقرارهم على النيل من صعيد مصر شمالاً حتى الشلال الثالث شمال مدينة دنقلة جنوباً، وأطلق عليهم المصريون اسم المريس، ثم أصبحت كلمة النوباد تنطق في اللسان العربي "النوبة"
روايات المصادر العربية المبكرة
المعلومات المبكرة التي وردت عن العلاقات بين المسلمين في مصر والنوبة حتى عصر الخليفة عثمان بن عفان (23 – 35ه/644 - 656) جاءت عبر رواة أخبار النوبة المبكرين الذين عاشوا في القرنين الأول والثاني الهجريين (7 – 8 م) مثل: يزيد ابن أبي حبيب 53-128 ه/ 673-745م وعبيد الله بن أبي جعفر60-132ه/680-750 والليث بن سعد 94-175ه/713-791 م عبد الله بن لهيعة 96-174ه/715-791 م
وقد نفلت المصادر العربية المبكرة مثل فتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم وفتوخ البلدان للبلاذري وتاريخ الطبري ومروج الذهب للمسعودي أخبارها عن العلاقات المبكرة بين المسلمين والنوبة عن طريق أولئك الرواة. وقد استخدم كل أولئك الرواة المبكرين في أخبار المعارك التي شنها المسلمون على حدوده الجنوبية بين عامي 21 – 31 ه كلمة نوبة.
وقد ذكرت المصادر العربية 47 رواية عن تلك العلاقات عن طريق رواة القرنين الأول والثاني الهجريين منها 27 رواية عن الصلح بين المسلمين والنوبة تتفق وتختلف قليلاً، ذكر منها المقريزي 6 روايات اختلف كلها عن روايته المشهورة، ومنها 7 روايات جمعت بين الصلح والحرب تتفق وتختلف قليلاً، ومنها 8 روايات عن الحروب 5 منها لم تحدد مكان المعارك و3 منها أشارت إلى مكان معركة عبد الله بن سعد عام 31ه فقط. توجد هذه الروايات في ملحق الفصل الرابع في الجزء الثالث من كتابي السودان الوعي بالذات.
الروايات التي لم تحدد مكان المعارك جاء تعبيرها مثل "دخلت جيوشهم أرض النوبة" "دخلت خيولهم أرض النوبة" "غزاهم المسلمون" "غزا عبد الله الأساود" قاتلوا النوبة" "غزوا النوبة". أما الرواية التي حددت مكان معركة عام 31ه هي رواية ابن عبد الحكم عن يزيد بن أبي حبيب، وروايتي الكندي وياقوت الحموي اللتان وردتا بدون مصدر. وقد ربطت هذه الروايات مكان المعركة ببيت الشعر الذي جاء فية ذُكر "يوم دنقلة" وهو: لم تر عيني مثل يوم دمقلة *** والخيل تعدو والدروع مثقلة
وقد أوضحت في الموضوع السابق (رقم 1) من هذه السلسلة أن عبارة "يوم دنقلة" لا تعني بالضرورة أن المعركة دارت على أبواب مدينة دنقلة. كما أوضحت أيضاً في نفس الموضوع أن بيت الشعر هذا قيل في إحدى المعرك بين المسلمين والنوبة في المرحلة الأولى لحروب عبد الله بن سعد عندما كان والياً على الصعيد قبل أن يتولى ولاية مصر عام 25ه/645 م أي قبل المعركة التي ذكر فيها المقريزي أن عبد الله بن سعد وصل مدرية دنقلة عام 31 ه51-1952 م. أما رواية النويري التي نقلها ابن الفرات عن يوم دنقل فقد تم الحكم بضعفها في الموضوع السابق رقم 1 لما ورد فيها من خطأ.
فرواة أخبار النوبة الذين عاشوا في القرنين الأول والثاني الهجريين لم يحددوا مكان معركة عبد الله بن سعد عام 13ه، بل ذكروا أن عبد الله بن سعد حارب النوبة. وقد عرفنا فيما سبق – أعلاه – أن كلمة "النوبة" في مفهوم المسلمين المبكرين تعني النوباد. ولذلك فعبارة رواة أخبار النوبة المبكرين أن "عبد الله بن سعد حارب النوبة" تعني أنه خارب النوباد.
والرواية الوحيدة لرواة أخبار النوبة المبكرين التي أتى فيها تمييز للنوبة الذين حاربهم المسلمين هي رواية يزيد بن أبي حبيب التي جاء فيها "أنّ المسلمين لما فتحوا مصر غزوا نوبة مصر، فقفل المسلمون بالجراحات، وذهاب الحدق من جودة الرمي، فسمّوا رماة الحدق" (في مصطفى مسعد، ص 35) فنوبة مصر هنا تعني النوبة المجاورين لمصر. ولو كانت معركة عبد الله بن سعد في أرض مملكة مقرة لوردت الإشارة واضحة إلى مقرة في روايات الرواة المبكرين.
فتمييز الرواة والمصادر العربية المبكرة بين النوبة ومقرة واضح كما في رسالة والي مصر لملك "مقرة ونوبة" وفي رسالة بطرك اسكندرية لملك مورتانيا(النوبة) ومقرة وكما فصل ابن سليم الأسواني بين النوبة ومقرة وعلوة في كتابه المعنون "كتاب أخبار النوبة ومقرة وعلوة والبجة والنيل" ولم يقل "كتاب أخبار النوبة والبجة والنيل"
فرواية المقريزي للبقط – والتي جاءت بدون إسناد ولم ترد في المصادر العربية المبكرة – جعلت معركة عبد الله بن سعد على أبواب دنقلة في مملكة مقرة تتعارض مع روايات أخبار النوبة المبكرين الذين اتفقوا أن عبد الله بن سعد حارب النوبة أي النوباد/المريس. وقد أتت روايتي المسعودي وابن حوقل مؤكدة لذلك. ذكر المسعودي أن عبد الله بن سعد حارب ملك مريس. قال المسعودي (346ه/956 م)
"وقد كان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه لما افتتح عمرو بن العاص مصر كتب إليه بمحاربة النوبة، فغزاهم المسلمون، فوجدوهم يرمون الحدق وأبي عمرو بن العاص أن يصالحهم، حتى صرف عن مصر، ووليها عبد اللّه بن سعد، فصالحهم على رؤوس من السبي معلومة، مما يسبي هذا الملك المجاور للمسلمين المدعو بملك مريس من أرض النوبة ومن غيرهم من ممالك النوبة" (المسعودي، ج 2 ص 21)
وأوضح ابن حوقل أن عبد الله بن سعد حارب النوبة عام 31 ه في منطقة أسوان. فذكر:
"أسوان افتتحها عبد الله ابن أبي سرح سنة إحدى وثلاثين، وافتتح هيف وهي المدينة التي تجاه أسوان من غربي النيل، وقد تدعى قرية الشقاق، وافتتح ابلاق وهي مدينة في وسط النيل على حجر ثابتة وسط الماء منيعة الجزيرة وبينها وبين أسوان ستة أميال، وبحذائها على النيل من جهة الشرق مسجد الرّوينيّ وقصر آليه، وتحت المسجد بيعة النوبة، وهو آخر حد الإسلام وأول حد النوبة."
ونواصل
المراجع
- أحمد الياس حسين، السودان الوعي بالذات وتأصيل الهوية، ط2 الخروم: دار جامعة الخرطوم للطباعة والنشر 2021.
- ابن حوقل، كتاب صورة الأرض. بيروت: منشورات دار مكتبة الحياة
- ابن سليم الأسوانس، ابن سليم الأسواني، كتاب أخبار النوبة والمقرة وعلوة والبجه والنيل، في مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية العربية.
- الطبري، تاريخ الرسل والملوك، في مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية
- القلقشندي، صبح الأعشى، موقع الوراق
- الكندي، ولاة مصر، بيروت: دار صادر ب. ت.
- المسعودي، أبي الحسن المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محي الدين. الطبعة 3، المكتبة التجارية الكبرى 1958،
- مصطفى محمد مسعد، المكتبة العربية السودانية مصطفي محمد مسعد، المكتبة السودانية العربية: مجموعة النصوص والوثائق العربية الخاصة بتاريخ السودان في العصور الوسطى. الخرطوم: جامعة القاهرة بالخرطوم 1972.
- ابن المقفع، تاريخ البطاركة، إعداد الأنبا صمويل، النعام للطباعة والتوريدات ب. ت. https://drive.google.com/file/d/1KCJGdZjBo3bDGkU1p2cto445u0Xoni-u/view
- نشوى أشرف حلمي وآخرون، معاهدة البقط في بلاد النوبة في ضوء البرديات العربية: دراسة وثائقية، "مجلة كلية السياحة والفنادق، جامعة مدينة السادات" المجلد 7، العدد 1 / 2 يونيو 2023.
- ياقوت الحموي، معجم البلدان في مصطفى مسعد
- Abba Mina, Life of Isaac. In Vantini, Oriental Sources Concerning Nubia
- Vantini, Fr. Giovanni. Oriental Sources Concerning Nubia. Poland: Heidelberg and Warsaw, 1975.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الکنیسة القبطیة بین المسلمین مع المسلمین بین النوبة محمد مسعد بین عامی حدود مصر ابن سلیم فی مصطفى الذی کان فی رسالة والی مصر إلى ملک فی صلح فی مصر فی هذه أبا من جاء فی صلح مع بن أبی
إقرأ أيضاً:
وزير الأوقاف يستقبل سفيرة مملكة البحرين بالقاهرة
استقبل الأستاذ الدكتور أسامةالأزهري، وزير الأوقاف، السفيرة فوزية بنت عبد الله زينل، سفيرة مملكة البحرين لدى جمهورية مصر العربية، بمقر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
وذلك بحضور أ. د محمد عبدالرحيم البيومي - الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية؛ لبحث أوجه التعاون بين وزارة الأوقاف المصرية ووزارة العدل والشئون الإسلامية والأوقاف بمملكة البحرين، والمشاركة في المنتديات العلمية المختلفة في كلا البلدين.
رحب وزير الأوقاف بالسفيرة، التي أعربت عن تقديرها لمعالي له، مشيدة بدور الوزارة المتمثل في محاورها الاستراتيجية الأربعة، وبالأخص منها: محوري صناعة الحضارة وبناء الإنسان.
أكد وزير الأوقاف تضافر جهود جميع المؤسسات الدينية في مصر لنشر صحيح الفكر الإسلامي، ومد أواصر التعاون مع جميع الدول العربية والإسلامية.
كما شهد اللقاء استعراض ما تشهده مملكة البحرين من نهضة حضارية في عهد الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البحرين، ودور المملكة في ترسيخ الفكر الوسطي من خلال مؤسساتها الدينية، وأشادت سعادة السفيرة بدور وزارة الأوقاف المصرية في خدمة القرآن الكريم وأهله بعد النجاح الكبير الذي حققته في المسابقة العالمية للقرآن الكريم الحادية والثلاثين، التي نظمتها الوزارة تحت رعاية الرئيس عبدالفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، بمركز مصر الثقافي الإسلامي بالعاصمة الإدارية الجديدة.
وفي نهاية اللقاء سلمت السفيرة إلى وزير الأوقاف دعوة مملكة البحرين لحضور مؤتمر الحوار الإسلامي، الذي يعقد في مملكة البحرين برعاية جلالة الملك حمد بن عيسى.