تسعى الهند منذ نهاية الحرب الباردة وتفكّك الاتحاد السوفياتي -حليفها السابق غير المعلن- إلى تعزيز مكانتها العالمية ولعب دور إقليمي والحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن، عبر بناء تحالفات إستراتيجية مع الولايات المتحدة ودول أخرى، بهدف منافسة الصين، جارتها الطموحة، اقتصاديا وسياسيا.

ترى نيودلهي أنها لن تستطيع تحقيق طموحاتها الإقليمية والدولية إلا بصناعة قفزة اقتصادية كبيرة تدعم هذه الطموحات، وتجعلها ممكنة التحقيق، ويحتل ميناء تشابهار الإيراني مركزًا بالغ الأهمية في الإستراتيجية الهندية، وواحدًا من المحاور الرئيسة التي تسعى من خلالها إلى تعزيز طموحاتها ومنافسة بكين في جنوب آسيا وآسيا الوسطى.

غير أن التنافس مع الصين لا يقتصر على الجوانب الاقتصادية بل يتعدّاها إلى الإستراتيجية، فهي تعاني من "اختناق جيوستراتيجي" نتيجة الكماشة الجغرافية للحليفين الصيني والباكستاني اللذين توصف علاقتهما "بعلاقة كل الفصول".

ورغم أنها لم تعلن معارضتها لمبادرة "الحزام والطريق" وريثة إستراتيجية "خيط اللؤلؤ" الصيني، وتتعامل معها بشيء من البراغماتية، فهي ترى فيها تهديدًا محتملًا على المستوى الإستراتيجي يجب اجتراح الوسائل المكافئة لمواجهته.

إستراتيجية قلادة الماس الهندية

تتنافس الهند والصين على النفوذ في منطقة المحيط الهندي، حيث تسعى كل منهما للسيطرة على طرق التجارة والموانئ الحيوية؛ فقد وضعت بكين إستراتيجية "خيط اللؤلؤ" التي تتضمن إنشاء تطوير وتشغيل موانئ على الطريق البحري من الصين حتى أفريقيا في دول مثل بنغلاديش وسريلانكا وباكستان، وبناء قواعد بحرية وموانئ تجارية بالتعاون مع الدول الساحلية المحيطة بالهند.

وذلك يعطل قدرة الهند التي تسيطر على جزر نيكوبار وأنديمان في خليج البنغال على قطع الطريق البحري على الصين في حال نشوب مواجهة بينهما، ويمنح بكين القدرة -نظريا- على السيطرة على طرق الشحن البحري، خصوصًا مع ما يوفره الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني من ميزة تجاوز ممر مالقا واحتمال رسو البحرية الصينية في كل من ميناء هامبانتوتا السريلانكي وميناء غوادر الباكستاني، بدعوى حماية خطوط النقل البحري.

ردّت الهند على هذه الإستراتيجية -التي ترى فيها تهديدًا لنفوذها في المنطقة- بإستراتيجية "قلادة الماس" المضادة التي تهدف إلى محاصرة الصين عبر إنشاء شبكة من القواعد العسكرية والتحالفات في الدول المحطية بها، وتعزيز وجودها في المحيط الهندي عبر محاور رئيسة، وتعزيز الاستثمار الاقتصادي.

وكانت قد ذكرت عبارة "قلادة الماس" أول مرة في عام 2011، على لسان وزير الخارجية آنذاك لاليت مانسينغ، وهي ليست إستراتيجية معلنة رسميا، بل مصطلح يستخدم للإشارة إلى جهود الهند لحماية مصالحها ردًّا على إستراتيجية "خيط اللؤلؤ" الصينية.

إستراتيجية قلادة الماس تعمل على تطوير علاقات إستراتيجية عبر تحالف مجموعة "كواد" (رويترز)

وتتضمن "قلادة الماس" تعزيز إمكانية وصول الهند إلى القواعد البحرية في البلدان ذات الموقع الإستراتيجي، حيث وقعت اتفاقيات شراكة مع موانئ حيوية مثل ميناء تشابهار الإيراني وميناء الدقم في عمان، وميناء سابانج في إندونيسيا، وهي مواقع تمنحها قدرة على مراقبة طرق الشحن وتأمين وارداتها من النفط الخام، وتوفر للهند إمكانية الوصول المباشر إلى المحيط الهندي وتعزز قدرتها على الاستجابة لأي تهديدات محتملة في المنطقة.

كذلك تعمل إستراتيجية قلادة الماس على تطوير علاقات إستراتيجية عبر تحالف مجموعة الحوار الأمني الرباعي "كواد" الذي يضمّ كلا من الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا، والذي أنشئ عام 2007 وأُعيد تفعليه عام 2017 لاحتواء صعود الصين العسكري والاقتصادي ومواجهة نفوذها في المحيطين الهندي والهادي.

وتتطلب الإستراتيجية زيادة الحضور العسكري في نقاط الاختناق البحرية مثل مضايق ملقا وهرمز وباب المندب التي تمّر عبرها نسبة كبيرة من تجارة الصين بالنفط والسلع، وأيضا تطوير قواعد بحرية جديدة في مواقع مهمة مثل سنغافورة وإيران وسريلانكا لتعزيز قدرتها العسكرية وبناء شبكات من الرادارات الساحلية بالتعاون مع دول مثل بنغلاديش وجزر المالديف وسريلانكا.

وتهدف الهند أيضا إلى تعزيز علاقاتها مع الدول التي تعدّ حاسمة للتجارة البحرية الصينية، وتمنحها قدرة على التصدي لمحاولات الصين للسيطرة على المنطقة عبر مشاريعها البحرية، إضافة إلى تعزيز وجودها الاقتصادي في آسيا الوسطى وأفريقيا من خلال مشاريع تجارية وممرات نقل مثل ممر النمو الآسيوي الأفريقي (AAGC) الذي يهدف إلى تعزيز التجارة بين آسيا وأفريقيا.

(الجزيرة) ميناء تشابهار.. طريق تكتنفه الصعوبات

يعد تشابهار الذي يقع جنوب شرقي إيران أكبر ميناء بحري في إيران، ومنفذًا حيويا أساسيا إلى أسواق آسيا الوسطى وأفغانستان، وهما منطقتان إستراتيجيتان للهند نظرًا لموقعهما الجغرافي وغنيتان بمصادر الطاقة والموارد الطبيعية. ويلعب تشابهار دورًا محوريا في خطط الهند لتحقيق طموحاتها الاقتصادية والإستراتيجية مع دوره الأساسي في إستراتيجية "قلادة الماس".

ونظرًا للقيود الجغرافية والسياسية التي تفرضها باكستان، يمثل الميناء منفذًا بديلًا لنيودلهي للوصول إلى تلك الأسواق، ويسمح للسفن الكبيرة بالوصول في وقت أسرع مقارنة بميناء بندر عباس في جنوب إيران، ويقع على مقربة من السواحل الهندية، كما أن موقعه الإستراتيجي على بحر عمان يسهل حركة السفن الكبيرة، ويسمح للهند بالوصول إلى النفط والغاز الإيرانيين، بما يعزز من أمن الطاقة لديها.

تخطط نيودلهي لتحويل ميناء تشابهار إلى مركز لوجستي رئيس ضمن ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC) الذي يربط الهند بروسيا وآسيا الوسطى عبر إيران، وذلك يعزز من الفرص الاقتصادية ويعتبر بديلا للتجارة التقليدية التي تمر عبر مضيق هرمز أو قناة السويس، ومن ثم يسهم في تعزيز النفوذ بتلك المنطقة.

بدأت نيودلهي علاقتها بميناء تشابهار في التسعينيات، وشكلت مذكرة التفاهم التي وقعت عام 2003 أول خطوة جادة لتعزيز التعاون الهندي الإيراني في الميناء، لكن العقوبات الدولية على إيران بسبب برنامجها النووي حالت دون تحقيق تقدم ملحوظ حتى عام 2016.

أدت العقوبات إلى إعاقة تطوير الميناء وتوقف المفاوضات بين الجانبين، إذ كانت الشركات الهندية مترددة في العمل تحت وطأة العقوبات الدولية والأميركية، وبعد توقيع الاتفاق النووي الإيراني 2016 تم استئناف التعاون بشأن تطويره.

وفي مايو/أيار من العام نفسه، وقعت الهند اتفاقية ثلاثية مع إيران وأفغانستان لتطوير الميناء. ووفقًا لهذا، التزمت نيودلهي باستثمار 500 مليون دولار في البنية التحتية للميناء ومحطة "شهيد بهشتي"، كما شمل الاتفاق إنشاء ممر نقل يربط تشابهار بأفغانستان من خلال شبكة الطرق والسكك الحديد، مما يسمح للهند بتصدير السلع إلى أفغانستان ودول آسيا الوسطى متجاوزة باكستان.

استمرت الهند في تطوير الميناء رغم الضغوطات والعقوبات الأميركية الجديدة التي فرضت على إيران بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018.

وفي مايو/أيار 2024، وقعت الهند وإيران اتفاقية جديدة لإدارة وتشغيل محطة "شهيد بهشتي" في ميناء تشابهار لمدة 10 سنوات شملت استثمارًا إضافيا بقيمة 120 مليون دولار لتطوير الميناء، إضافة إلى خط ائتماني بقيمة 250 مليون دولار لتحسين البنية التحتية.

رؤية إيران للميناء

تنظر طهران إلى ميناء تشابهار كوسيلة لتخفيف الضغط الاقتصادي الناجم عن العقوبات الأميركية وتعزيز علاقاتها الاقتصادية الإقليمية، ووسيلة لتنويع شراكاتها الاقتصادية، وجزء من إستراتيجية تعزيز موقعها كمحور تجاري رئيس في المنطقة، مما يتيح لها دورًا أكبر في التجارة الإقليمية والدولية.

وإلى جانب ذلك، يمثل الميناء جزءًا من إستراتيجية إيران الأوسع لتطوير ممر شمال-جنوب الذي يربط بين روسيا والهند عبر الأراضي الإيرانية، مما يمنحها فرصة لتعزيز دورها كقناة تجارية حيوية بين آسيا الوسطى وأوراسيا، ويعزز من قدرتها على مقاومة الضغوط الاقتصادية والسياسية التي تفرضها الولايات المتحدة.

وكان وزير الطرق والتنمية الحضرية الإيراني مهرداد بذرباش قال إنه يمكن لمدينة تشابهار أن تكون نقطة محورية في تنمية العبور في المنطقة.

طهران تنظر إلى ميناء تشابهار كوسيلة لتخفيف الضغط الاقتصادي وتعزيز علاقاتها الاقتصادية الإقليمية (الأناضول) أميركا تحذر والهند تطمئن

واجهت مشاريع تطوير الميناء تحديات بسبب العقوبات الأميركية المفروضة على إيران، إذ حذّرت وزارة الخارجية الأميركية من "خطر محتمل للعقوبات" على الشركات الهندية المشاركة في المشروع، رغم أن الميناء كان مستثنى سابقًا من العقوبات الأميركية لأهميته في دعم التنمية في أفغانستان.

وبهذا الصدد، صرح وزير الخارجية الهندي سوبرامانيام جايشانكار أن "ميناء تشابهار لا يخدم فقط المصالح الثنائية بين الهند وإيران، بل يسهم في استقرار المنطقة برمتها، ويعدّ ركيزة أساسية للتجارة الإقليمية وتعزيز التعاون الاقتصادي بين آسيا الوسطى وأفغانستان".

كما أن العقوبات الأميركية قد تؤدي إلى نتائج عكسية، وهو ما يُفهم منه أن جهود الهند في الميناء ربما تندرج ضمن المشروع الهندي الأميركي لمحاولة احتواء الصين، وهي تمثل تهديدا حتى من وجهة النظر الأميركية أكبر من التهديد الإيراني.

رؤية أفغانستان للميناء

ترى أفغانستان في الميناء فرصة لتعزيز تجارتها مع العالم الخارجي، وخاصة مع الهند، حيث يتيح لها الوصول إلى الأسواق الدولية ويساعدها على الخروج من العزلة الاقتصادية التي تعاني منها نتيجة لعدم الاعتراف الدولي بحكومة طالبان، كما يمكنها استخدامه منفذا رئيسا لاستيراد البضائع وتصديرها، مما يعزز من قدرتها على تطوير اقتصادها وتسهيل التجارة مع الدولة الهندية ودول آسيا الوسطى.

ويتيح تشابهار لأفغانستان الوصول إلى الأسواق الدولية دون الحاجة لاستخدام الموانئ الباكستانية التي كانت تغلق بسبب التوترات السياسية بين البلدين، والمتهمة من قبل كابل بمحاولة عرقلة عمليات التصدير والاستيراد عبر ميناء كراتشي.

ويمكن أن يصبح جزءا من دعم مشاريع البنى التحتية والاقتصادية، خاصة في ظل الدعم الذي تقدمه نيودلهي لتنفيذ مشاريع مهمة للربط التجاري بين البلدين وتعزيز دوره كممر رئيسي للتجارة بين الهند وآسيا الوسطى، إذ دعمت الهند تطوير خط السكك الحديد الذي يربط ميناء تشابهار بمدينة زاهدان الإيرانية القريبة من الحدود الأفغانية، مما سيعزز الطرق الواصلة بين أفغانستان وإيران والهند، ويسهم في تعزيز تدفق البضائع.

وسيكون من مصلحة الهند تعزيز الاستقرار والأمن في أفغانستان وذلك يستدعي بالضرورة زيادة تقديم المساعدات وخاصة التي تدعم الاستقرار الاقتصادي.

ومن جانبها، تسعى الحكومة الأفغانية لجعل الميناء ممرا للصادرات والواردات وتسهيل وصولها إلى الأسواق العالمية، وأوضح المتحدث باسمها ذبيح الله مجاهد أنه مع زيادة الطاقة الاستيعابية في تشابهار وتفعيل خطة السكة الحديد بين أفغانستان وإيران فإن "مشاكل رجال الأعمال الأفغان ستحظى بالحل إلى حد كبير" وهي المشاكل المرتبطة بسوء تعامل الجهات الباكستانية نتيجة اعتماد أفغانستان الحصري على الموانئ الباكستانية، "وسنتمكن من تصدير أكبر كمية من البضائع"، حسب المتحدث.

مسؤولون أفغان بقيادة الملا عبد الغني برادر (وسط) وإيرانيون في ميناء تشابهار (الجزيرة) التحديات والعقوبات

يواجه تطوير الميناء تحديات كبيرة أهمها العقوبات الأميركية المفروضة على إيران، خاصة في ما يتعلق بتمويل البنية التحتية، وخوف الشركات الهندية من العقوبات التي قد تفرض عليها جراء الشراكة في هذه المشاريع.

ففي أبريل/نيسان 2024، حذرت الولايات المتحدة الشركات الهندية المشاركة في تطوير الميناء من إمكانية فرض عقوبات عليها بعد توقيع اتفاقية بين الهند وإيران لتطوير الميناء، مما يضغط على استثمارات الهند في المشروع، مؤكدة أنه "على كل كيان معني بصفقات تجارية مع إيران أن يكون على دراية بالمخاطر المحتملة التي يعرّض نفسه لها والمخاطر المحتملة للعقوبات".

وكذلك فإن العقوبات المالية المفروضة على النظام المصرفي الإيراني تعقّد تأمين التمويل المستدام لتطوير الميناء، وتصعِّب إجراء التحويلات المالية بين الهند وإيران، وتزيد من تكاليف العمليات اللوجستية المتعلقة بتطوير البنية التحتية في الميناء.

من ناحية أخرى، ما زال ميناء تشابهار يفتقر إلى بنية تحتية متكاملة، خاصة في ما يتعلق بشبكات السكك الحديد التي تربطه بداخل إيران وآسيا الوسطى، وتأخر تنفيذ مشروع سكة حديد تشابهار-زاهدان.

وفي المقابل، تعمل الصين وباكستان على تطوير بنية تحتية كبيرة من خلال وصل ميناء غوادر بشبكة الطرق والسكك الحديد الصينية، مما يجعل الميناء أكثر تطورا كما أنه لا يخضع لعقوبات دولية كالتي تخضع لها الموانئ الإيرانية.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات العقوبات الأمیرکیة الولایات المتحدة الشرکات الهندیة لتطویر المیناء البنیة التحتیة میناء تشابهار تطویر المیناء وآسیا الوسطى الهند وإیران آسیا الوسطى فی المنطقة فی المیناء على إیران بین الهند على تطویر إلى تعزیز

إقرأ أيضاً:

رؤية عبر الجدران.. هل يمكن لجهاز الواي فاي أن يصبح عينا سرية؟

في الوقت الحالي، لدى جميع المنازل أجهزة استقبال وإعادة توجيه إشارات الإنترنت المنزلية عبر الشبكات اللاسلكية "واي فاي" (Wi-Fi)، إذ تعد الآلية الأفضل لاستقبال إشارات الإنترنت ومشاركتها عبر المنزل أو منطقة محددة، ورغم التطور الكبير الذي وصلت له أجهزة الاستقبال هذه وقدرتها على استقبال وإرسال إشارات مختلفة، فإنها تظل في النهاية، مجرد أجهزة لإرسال واستقبال إشارات شبكات الإنترنت، ولا يوجد لها أي ميزة أو استخدام إضافي.

على الأقل، كان هكذا الوضع قبل أن تعمل مجموعة من الباحثين في جامعة كارنيغي ميلون من أجل تطوير تقنية تتيح استخدام أجهزة "الواي فاي" المنزلية لتتبع ومراقبة حركة البشر في الغرف عبر الحوائط، وذلك دون تركيب أي معدات إضافية باستخدام أجهزة توجيه متوفرة في كل منزل، ولكن كيف ذلك؟

الرؤية دون التقاط الصور

تضافرت جهود العلماء في السنوات الأخيرة من أجل تحقيق مفهوم رؤية البشر ومراقبتهم دون استخدام كاميرات أو معدات باهظة، وذلك لأنها آلية تتيح للجهات المختلفة مراقبة الأفراد دون التطفل على خصوصيتهم بشكل مباشر، إذ يهدف هذا المفهوم في النهاية لمراقبة الأفعال دون مراقبة الشخص الذي يقوم بها أو حتى تصويره أثناء فعلها.

وبينما تصبح مثل هذه التقنيات متاحة عبر استخدام مستشعرات "ليدار" (LiDAR) الباهظة، فإنها غير عملية، كونها تتطلب تثبيت المستشعرات وأجهزة استقبالها في المكان الذي ترغب في مراقبته، وهو الأمر الذي يصعب تنفيذه بشكل واسع فضلا عن تكلفته.

لذا، سعى العلماء لتسخير إشارات الهواتف المحمولة من أجل هذا الغرض، وقد نجح فريق من جامعة "إم آي تي" (MIT) في ذلك عام 2013، إذ استخدام إشارات الهواتف المحمولة لمراقبة الأفراد عبر الحوائط، وفي عام 2018، تمكن فريق آخر من الجامعة ذاتها من استخدام إشارات "الواي فاي" لالتقاط حركة البشر ووضعهم على أشكال عصيّ متحركة لا تماثل الشخصيات البشرية.

وأخيرا جاء فريق جامعة كارنيغي ميلون بمشروعها الجديد، الذي تمكن من توليد أشكال بشرية تحاكي أشكال الأشخاص الموجودة خلف الحوائط والتقاط حركاتهم وتسجيلها عبر استخدام أجهزة التوجيه المنزلية، وهو ما يمثل قفزة عن آخر ما وصلت إليه فريق جامعة "إم آي تي" في السنوات الماضية.

جهاز استقبال منزلي (شترستوك) تقنيات متعددة لتحقيق غرض واحد

كانت الجهود السابقة لتحقيق هذه الغاية تعتمد بشكل مباشر على تقنية بمفردها، أي أن التقاط الإشارات وإعادة ترجمتها يعتمد على تقنية واحدة، ولكن ما قام به فريق جامعة كارنيغي ميلون كان معتمدا بشكل أساسي على المزج بين عدة تقنيات من بينها الذكاء الاصطناعي للوصول إلى النتيجة النهائية الدقيقة.

في البدء، اعتمد الفريق على نظام يدعى "دينيسي بوز" (DensePose)، وهو نظام طوره فريق بحثي في لندن بالتعاون مع باحثي "فيسبوك" للذكاء الاصطناعي، ويهدف هذا النظام إلى تحويل كل نقطة في جسم الإنسان إلى "بيكسل" في صورة يمكن أن تتعرف عليها الحواسيب، وذلك من أجل تحسين دقة التعرف على أجزاء الجسم بشكل أساسي.

ثم طور الفريق شبكة عصبية حاسوبية عميقة قادرة على استشعار إشارات "الواي فاي" والأشياء التي تحجبها ومعدل الارتداد من الإشارات، فضلا عن معدل اختراقها للأسطح، لتعمل هذه التقنيات معا في النهاية وتتمكن من توليد صورة ثلاثية الأبعاد للجسد البشري دون عرض أي تفاصيل للشكل والوجه والجنس واللون وغيرها من الخصائص الفريدة لكل إنسان.

استطاع الفريق الوصول إلى هذه النتيجة عبر استخدام أجهزة توجيه "واي فاي" تعمل بهوائيات "1 دي" (1D)، وهي نوع بدائي من هوائيات توجيه "واي فاي"، وتحديدا اعتمد الفريق على زوج من أجهزة التوجيه الخاصة بشركة "تي بي لينك" (TP-Link) يكلف كلاهما 30 دولارا فقط، وذلك مقارنة مع أجهزة ومستشعرات "إل إي دي آر" (LiDAR) التي تبدأ تكلفتها من 700 دولار تقريبا.

ومن الجدير بالذكر أن الاعتماد على تقنية "دينسي بوز" أتاح للفريق التقاط حركات المستخدمين والبشر بشكل مكثف داخل الغرفة، بدلا من الاكتفاء فقط بتحديد أماكن الأشخاص والأشياء داخل الغرفة كما كان يحدث مع التقنيات السابقة.

استخدامات متعددة

وضح الفريق في الورقة البحثية المنشورة في موقع الجامعة أن هذه التقنية لها استخدامات عديدة ومتنوعة، بدءا من مراقبة كبار السن والمرضى دون اقتحام خصوصيتهم في غرف المستشفيات وحتى تتبع واكتشاف الأنشطة المريبة والعنف المنزلي.

وأضاف الفريق أيضا أن هذه التقنية تحمي خصوصية الأفراد بشكل غير مسبوق، كونها لا تحتاج إلى التقاط صورة أو مقطع فيديو من أجل مراقبة الأفراد، مؤكدا أن هذه التقنية تحل محل تقنية "آر جي بي" (RGB) المنتشرة في العدسات والمستشعرات المختلفة.

وأشار الفريق أيضا إلى أن المعدات المستخدمة في التقنية رخيصة نسبيا ومنتشرة في كل منزل ولا تحتاج إلى تثبيت أي معدات أو مستشعرات خاصة، وهو ما يؤكد تفردها وسهولة استخدامها في مختلف الأماكن حول العالم.

مخاوف أمنية

رغم أن الفريق يرى مزايا عديدة في التقنية، فإن انتشارها يقوض من حرية وخصوصية الأفراد والمستخدمين، إذ يمكن الآن عبر هذه التقنية تتبع وجود أي شخص وتصرفاته داخل منزله وفي أكثر الأماكن حميمية، وذلك دون الحاجة لاختراق المنزل وتثبيت معدات أو أدوات مراقبة خاصة.

ويعني ذلك أن الشخص قد يكون مراقبا من قبل جهات خارجية أو شركات أخرى دون أن يدرك ذلك، ومع الحماية الضعيفة التي يتمتع بها أغلب أجهزة توجيه "واي فاي"، فضلا عن السلوكيات الأمنية الضعيفة للعديد من المستخدمين، يصبح كل جهاز "واي فاي" آلة مراقبة وتجسس مزروعة في كل منزل دون أن يشعر أحد بها.

من غير المعلوم إن كانت التقنية مطروحة للبيع أم لا، فضلا عن إمكانية استخدامها بشكل تجاري، ولكن من الأكيد أن السلطات الدولية والجهات الحقوقية الدولية لن تتركها تمر دون تشريعات وقوانين تنظمها.

مقالات مشابهة

  • ما هي المشروبات التي تساعد في تخفيف آلام الدورة الشهرية؟
  • الصين تسعى لاستئناف الرحلات الجوية المباشرة مع الهند
  • جو بايدن يصبح أول رئيس أميركي يبلغ 82 عاماً وهو في السلطة
  • منتدى مسك العالمي 2024 يشهد توقيع اتفاقيات إستراتيجية
  • طال عرباً وكورداً.. سلاح الإعدام يستفحل في إيران
  • حملات مغرضة تستهدف مشروع “سد حسان” الإستراتيجي ..!!
  • ماذا فعل القضاء الإيراني مع الطالبة التي خلعت ملابسها بجامعة طهران؟
  • رؤية عبر الجدران.. هل يمكن لجهاز الواي فاي أن يصبح عينا سرية؟
  • نشأت الديهي يكشف تفاصيل تدشين علاقة إستراتيجية بين مصر والبرازيل
  • ترودو وبايدن يتحدثان عن التعاون الإستراتيجي خلال قمة مجموعة العشرين